الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 166/نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام

مجلة الرسالة/العدد 166/نهضة المرأة المصرية وكيف توجه للخير العام

بتاريخ: 07 - 09 - 1936


للأستاذ فلكس فارس

لا تستغل نهضة المرأة ما لم توجّه إلى تكوين المرأة الصالحة لتثمر بطبيعتها خيراً، إذ من العبث أن تجني الخير نهضة مضللة.

لا ينهض بالشرق إلا حضارة شرقية تستمد نظمها من المبادئ الأدبية العليا التي أنزلت وحياً على رسله وأنبيائه، وإلهاماً على فلاسفته وشعرائه.

فإذا ما أردنا تحديد موقف المرأة في المجتمع ونحن نستنير بهذه المبادئ يمتنع علينا أن نسلم لها بحالة تكون فيها قوامة على نفسها مستقلة بحياتها، لأن الحضارة الشرقية التي نتجه بحوافزنا إليها لا مقام فيها لامرأة لا مرجع لها ولا قوام عليها؛ وما المرأة المنسلخة عن سيطرة رجل يكفلها المتصلة بالمجتمع اتصالاً مباشراً إلا بدعة في الإنسانية أوجدتها أنانية الرجل في الغرب لشقائه وشقائها على السواء.

إن التشريع الأول الذي أيده جميع الأنبياء والمرسلين قد أورد الوضع الصحيح للأسرة الإنسانية بقوله للرجل:

(بعرق جبينك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها) وبقوله للمرأة: (بالأوجاع تلدين وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك).

فالمرأة إذن موقوفة على حياة الاشتياق بحسب تعبير الكتاب وعلى تأمين النسل الصحيح، فكل استثمار لها في أية دائرة أخرى من دوائر الحياة المادية، إنما هو خرق للناموس وجناية على العاطفة والأنسال.

إن لم تكن المرأة زوجة وأماً، فهي مرتكبة جناية أو هي ضحية جناية. وأشد شقاء من هذه السائبة، وأوفر ضراً بالمجتمع، الزوجة المسلوبة الخيار، والأم المكرهة على التوليد.

إن في اشتياق المرأة وخضوعها بهذا الاشتياق نفسه لرجلها سر اعتلاء الأمم وانحطاطها، وما جهل شعب في التاريخ أهمية الانتخاب الطبيعي، فتسلط رجاله على نسائه بشهواتهم لا بشوقهن دون أن تصبح المرأة في ذلك الشعب أَمَة تورث مذلتها بنيها فيتشربون العبودية في فطرتهم قبل أن يبصروا النور.

إن أولى الخطوات التي تقود الشعوب إلى التدهور إنما هي تجاهل أهمية المرأة، حيث تربية الطفل فحسب، بل أيضاً وبخاصة من حيث تكوين الجنين، وما ينهض شعب يعتقد بمبدأ الزمخشري القائل:

وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء

إن الرجل الأناني الجاهل يعتقد أنه هو وحده مستودع للحياة، وإن بقاء النوع يتوقف على ما يحمل من جرثومة حية، فما المرأة في تقديره إلا الأرض يستنبتها خصبة ويتحول عنها مجدبة.

وعلى هذا المبدأ الذي ينافي روح الشرع وحكمته ويناقض ما يؤيده من العلم الحديث، يستولد الرجال النساء أطفالاً كان خيراً لهم لو أنهم لم يلدوا.

إن علم وظائف الأحياء قد اكتشف ذرات مستقرها خلايا الجسم وهي تعرف (بالكروموسوم) وعددها في كل خلية إنسانية 48، نصفها من الأب ونصفها الآخر من الأم، لأن نطفة الحياة في الرجل وفي المرأة لا تحوي سوى 24 ذرة فقط، فيتضح من هذا أن العناية قد أرادت أن يكون المولود منبثقاً من شخصين متحدين على تواز تام بين ما ينفصل عن كل منهما لتكوين الحياة الجديدة.

ويؤكد العلم أن هذه الذرات منظمة في الخلية على شكل سلسلة متصلة الحلقات وهي مزدوجة متقابلة في سمطيها، وأن في هذه الحلقات تستقر العوامل التي تنقل إلى الأبناء طوابع الآباء والأمهات.

وقد عقد المتخصصون لهذه الأبحاث فصولاً بينوا فيها كيف تتغلب عناصر الارتقاء أو الانحطاط في السلالات، فذهبوا إلى أن كل حلقة في العقد المزدوج تكمن فيها صحة عضو معين، فإن كانت هذه الحلقة ضعيفة في الأب وقابلها في الأم حلقة قوية تغلبت الصحة على المرض فيجيء الطفل سليماً وإلا فينشأ معتلاً لأن الحلقة التي يرثه عن أبويه لا مناعة فيها.

إن هذا المظهر المحسوس لاختلاف القوى الكامنة في كل من الرجل والمرأة لمما يفسر لنا علة التنافر والتجاذب بينهما، فأن الطبيعة الطامحة إلى الارتقاء وإصلاح ما تفسده الحياة تعمل بحوافزها الخفية متسلحة بالانتخاب الغريزي للوصول إلى أهدافها.

مما لا ريب فيه، إذن، أن ليس كل رجل يصلح زوجا لأية امرأة، كما أنه ليست كل امرأة تصلح زوجة لأي رجل كان.

إن الحياة تغالب الموت في هذا الوجود مفتشة عن أصلح المنافذ للنشوء والارتقاء، وهذه الحياة التي خرجت من الأزل متجهة إلى الأبد إنما تهب كالعاصف الجبار على الجنسين فتلويهما لسلطانها معتلية بالنوع فوق رمم أفراده. على أنه في حين أن هذه الحياة تختار سبيلها بالسائق الغريزي في النبات وفي الحيوان عاملة على تحسين مجاليها بالقضاء على الضعف الطارئ والاستبقاء على القوة الصامدة في الجسوم، فأنك لترى هذه الحياة في المملكة الإنسانية وهي أرقى وأشرف مجاليها تتلوى في مسالك الشهوات المضللة والعقليات السخيفة منزلة بالتائهين أوجع الزواجر وأبلغ العبر، وهؤلاء التائهون لا يرجعون عن غيهم فلا يشفقون على أنفسهم ولا يبالون بأنسالهم.

إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة التي تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنسوة الطامعات المضللات، ولكن الطبيعة لا تعنو دائما لتحكم الإنسان ولا تتهيب زجره وإرغامه فتضرب عن الظهور وتمتنع عن إيجاد الضحية، وآخر ما اكتشفه العلماء في جامعة كولومبيا بالاستقراء بعد أن كان الفكر يفترضه افتراضاً هو التنافر بين عنصري الذكر والأنثى في بعض الأحوال مما يقضي بالعقم التام مع أن كلا من الزوجين ليس عقيما.

وما كان الإنسان ليحتاج إلى الاستقراء العلمي خلال دقائقه وذراته ليعلم أن الطباق والانسجام يؤديان إلى الارتباط المكين، وأن الشذوذ والتنافر ينشأ عنهما التدافع الافتراق، وليس الرجل والمرأة وترين على آلة صماء يشد أحدهما جواباً على قرار الآخر، لأنه إن لم يكن هناك طباق، فإن المرأة أو الرجل المختار أو المختارة للشدّ على طبقة رفيقة ليسمعك صوت انقطاعه بدلاً من الإيقاع المنشود.

ليكن منشأ هذا الانسجام تناسبا بين ذرات الخلايا والعوامل كما يقول العلماء المستقرون، أو فليكن ضعف هذه الذرات أو قرتها مسبباً عن عوامل الكهارب التي تسود الخلايا بتفاعل مجهول، أو فليكن هنالك ما يذهب إليه الروحيون من أن الخلايا والكهارب وكل ما يحوي هذا الجسم من مادة ليس إلا خيالاً لروح كامنة هي الحقيقة المستترة وأن من العبث أن يستقر في العلم منشأ التجاذب والتدافع بتشريح هذا الخيال الماديّ، فأننا تجاه جميع هذه الافتراضات، نبقى دائما أمام حقيقة لا ريب فيها وهي أن الإنسان سواء أكان رجلاً أو امرأة مدفوع بالفطرة إلى طلب الرقي لنسله بإصلاح ما أفسدت الحياة في أعضائه، وبخاصة إلى إصلاح ما تطرق إلى الصفات الأدبية من عيوب؛ ولعلّ في هذا بعض التفسير لسيادة الانسجام بين رجل وامرأة تخالف أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر القوى الأدبية فيهما، فقد لا تجد مصارعاً يعشق مصارعة ولا فيلسوفاً يغرم بفيلسوفة. ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل عاديّ، أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل دميم. إن بعض العشق ينشأ عن حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء.

نورد هذه النظرية دون أن نتخذها قاعدة بالرغم من تجليها لدينا في عديد الحوادث، فإن النقائص التي تتجه في الازدواج إلى الزوال والعلل التي تطلب الشفاء أبعد مستقراً من أن ينالها استقراء أو تحديد، والضعف الكامن في أحد الناس يبقى مستتراً فيه خفياً حتى عن شعوره، فكيف يتسنى لنا كشفه وتعيينه؟ لذلك ورد في الأمثال وهي حكمة الأمم: أن لا جدال في الذوق، وما أرى المتنبي إلا سابراً أقصى أسرار الحب إذ قال:

إلام طواعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل

يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل

للحب إذن وهو صلح العيوب والدافع إلى ارتقاء الإنسان ناموسه الجبار، ناموسه الصامت الهامس في أرواح المحبين كلمتين هما دستور السعادة لكل منهما - كلمة العبرة من الماضي للرجل، وكلمة الحذر من المستقبل للمرأة.

يقول الفتى للفتاة: أحبك.

فلا يرد جوابها إلا بصورة الاستفهام:

وهل ستحبني إلى الأبد؟

فالرجل لا يتوجه إلى المستقبل بقلبه بل يلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، وهو يقسم بالوفاء والثبات، ماداً بأبصاره إلى أعماق عيني الفتاة سابراً أقصاهما ليتحقق ما إذا كان هذا الهيكل الأبدي الذي يتخذه مقاماً ومصلى لروحه، لم يرتفع فيه صوت غير صوته لم يحرق عليه بخور غير بخوره.

هكذا تصطفي الطبيعة المحبين لاستنبات الطفل الصحيح، وهكذا تقبض الغريزة على القلبين لتسخرهما لبقاء النوع وتسييره على مدارج الارتقاء.

ولماذا خصت الطبيعة الرجل بالعبرة من الماضي والمرأة بالحذر من المستقبل؟ لماذا وضعت الطبيعة دليل الطهر في عين العذراء، ودليل العفاف في جسمها؟ ولماذا غرست فيها هذا الخوف من تقلب الرجل وانحرافه عنها؟

في هذا المجال أيضاً توصل العلم إلى استجلاء حقيقة رائعة نستدل منه على منشأ هذه الغيرة وهذا لحذر، وتلك الحقيقة هي أن الطبيعة تتجه دائماً إلى الوحدة وتأنف من الشرك وتتمرد عليه؛ وقد شوهدت حوادث كان فيها نتاج الزواج الثاني من المرأة أقرب إلى مشابهة أطفال الزواج الأول، وبتعبير أوضح تحقق العلم أن امرأة يستنبت نتاجها الأول من رجل تبقى معرضة للاستمرار على الإنتاج طابعة أبناءها على غرار ذلك الرجل.

إن هذا الاكتشاف يبرر لدى المفكر هذه الغيرة المقدسة التي تتجلى في الرجل الطبيعي غير الفاسد بمبادئ الإطلاق وضعف الحيوية فيه، وهذه الحقيقة نفسها تفسر لنا هذا الحذر الغريزي في المرأة من تخليّ المحب الأول عنها، لأن الطبيعة تتمرد في نفسها فهي تربأ بشخصيتها أن تصبح مستقراً للشرك، والكون بأسره يتجه إلى التوحيد في ارتقائه.

إن ناموس الحب والزواج في الأصل إنما هو اندماج بين روحين وجسدين اندماجاً حراً تحت سيطرة التجاذب المطلق من كل تضليل، فإذا هو تمّ وفقاً لهذا الناموس، يندر أن تنفصم عراه مدى الحياة.

على أننا في هذا العصر الذي سبقته أدوار عديدة استنبت فيها النسل من التزاوج المكذوب لا يمكننا أن نختم استمرار الاتفاق بين عاشقين ما لم نثق أولاً من أنهما كليهما قد نشأ من زواجين ساد الحب الحقيقي فيهما، إذ أننا كثيراً ما نرى امرأة جن جنونها بمن أصبحت له زوجة حتى إذا انقضت فترة من الزمن نراها مضعضعة تحلم بالشرك والضلال. وكثيراً م نرى رجلاً يهيم بفتاة حتى أصبحت زوجة له عافتها نفسه، فذهب تائها في المواخير يحصد ما جناه أبواه عليه.

من الصعب إن لم نقل من الممتنع أن يعرف حقيقة الحب ووحدته من ولد من زوج لا انسجام فيه، أن أبناء الكره لا يحبون، والطفل المولود من شهوة حيوانية حوالة يمتزج كوثر حبه أبداً بغسلين الفحشاء.

إن استثمار المرأة المصرية والمرأة العربية بوجه عام في سبيل الخير إنما يتوقف على إعدادها منبتاً صالحاً للأطفال، وما نشأت الأمة إلا من منابت أطفالها.

إن النبات ينمو على الأسمدة يمتصها فيحولها نسغاً صافياً، وتلك أزاهر الدمن تنوّر فواحة باسمة فوق أقذارها، أما الحياة الإنسانية فإنها إن نبتت على الأقذار فهي أقذار من منابتها.

(يتبع)

فلكس فارس