الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 165/علم المتنبي باللغة والأدب

مجلة الرسالة/العدد 165/علم المتنبي باللغة والأدب

مجلة الرسالة - العدد 165
علم المتنبي باللغة والأدب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 08 - 1936


تصحيحه كتاب المقصور والممدود - تعليقاته على ديوانه

للدكتور عبد الوهاب عزام

يعرف جمهور المتأدبين أبا الطيب شاعراً واسع المعرفة باللغة، ولكنهم لا يعرفونه إماما من أئمة اللغة في القرن الرابع كما يتبين فيما يلي:

قدمت في الكلام على نشأة أبي الطيب أنه درس اللغة والأدب، وأثبت رواية تتضمن أنه لقي جماعة من كبار الأدباء في عصره، ولكن هذه الرواية على ما أظهرته من الوهن في بعض نواحيها لم تبين كم طلب اللغة والأدب على هؤلاء الشيوخ ولا كيف طلب. وقد بينت آنفاً أن رحيل الشاعر إلى الشام كان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وهو في سن الثامنة عشرة.

وما روي لنا أنه طلب الأدب على أحد في الشام إلا قول الثعالبي إن أباه رحل به إلى الشام فلم يزل يردده في مكاتبها الخ وجائز أن يكون الشاب المتوقد ذكاء قد درس الأدب واللغة على بعض أدباء الشام أيضاً.

والذي لا ريب فيه أن أبا الطيب بلغ من العلم باللغة وغريبها وشواهدها ولقن عن أهل البادية منها ما لا نعلمه لشاعر آخر من شعرائنا؛ وقد بلغ في هذا أن عدّ في عصره من علماء اللغة، وأن غلب الشعر عليه.

وإثبات هذه الدعوى على النسق الآتي:

1 - رويت لنا حوادث وأقوال متفرقة تبين عن اشتهاره بمعرفة اللغة وتعرب عن رأي معاصريه فيه:

قال ابن الأنباري: (ويحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي، فقال له أبو علي: كم جاء من الجموع على وزن فِعلي؟ فقال: حجلي وظربي، جمع حَجَل وظَرِبان. قال أبو علي: فسهرت تلك الليلة ألتمس لهما ثالثا فلم أجد. وقال في حقه (ما رأيت رجلاً في معناه مثله.) وهذه الجملة الأخيرة ذكرها ابن جني في مقدمة شرحه الديوان، وقال: (ولو لم يكن له من الفضيلة إلا قول أبي علي هذا فيه لكفاه. لأن أبا علي، على جلالة قدره في العلم ونباهة محله وإقتدائه بسنة ذوي الفضل من قبله، لم يكن ليطلق عليه هذا القول إلا وه مستحق له عنده).

فسؤال أبي علي أبا الطيب هذا السؤال دليل على أنه لفت الناس إليه بسعة معرفته باللغة، ثم شهادته له دليل آخر.

ولما وقع الجدل بين أبي الطيب اللغوي وابن خالويه في اللغة بحضرة سيف الدولة، قال الأمير: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم ونصر أبا الطيب اللغوي على ابن خالويه. فسؤال سيف الدولة أبا الطيب أن يتكلم في أمر يتجادل فيه اثنان من اللغويين دليل على عده من علماء اللغة.

ولما دخل على الوزير المهلبي في بغداد أنشد بعض الحاضرين وفيهم أبو الفرج الأصفهاني هذا البيت:

سقى الله أمواها عرفت مكانها ... جُراما وملكوما وبدّر فالغمرا

فقال أبو الطيب: هو جرابا، وهذه أمكنة قتلتها علما؛ وإنما الخطأ وقع من النقلة.

وقد حكى الحاتمي أنه ناظر أبا الطيب ببغداد فلم يقتصر على مناظرته في الشعر، بل ناظره في اللغة أيضا. وحكى أن أبا الطيب قال له اللغة مسلّمة لك، فقال: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها وأولى الناس بها، وأعرفهم باشتقاقها، والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن غريبها منك.

وفي هذا برهان على اشتهار أبي الطيب بمعرفة اللغة ولو كان كلام الحاتمي تهكما وسخرية أو كانت قصته كذبا.

ولما نزل عند ابن العميد في أرّجان قرأ عليه كتابا جمعه في اللغة. قال في الإيضاح: (وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه).

وقال الخالديان: (كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية، جيد النقد. . . وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر). وقال صاحب الإيضاح: (وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر).

وقال ابن جني: (ولقد كان من الجد فيما يعانيه، ولزوم أهل العلم فيما يقوله ويحكيه، على أسد وتيرة، وأحسن سيرة).

2 - وقد أثرنا بعض كلامه في اللغة، وذلك قسمان

مجادلته ابن جني في مسائل عرضت أثناء قراءة الديوان عليه، وحسبك بمن يناظر في اللغة والصرف ابن جني أمام أهل العربية في التصريف، ثم يشهد له ابن جني الشهادة السالفة، وعندنا من هذه المجادلات أمثلة.

والثاني ما أملاه أبو الطيب نفسه شرحاً لبعض شعره. وقد عثرت على نسختين من الديوان فيهما كثير من هذه الشرح، وفيه من التبيين وإيراد الشواهد ونسبة الأقوال إلى أصحابها ما يشعر القارئ أنه يقرأ لأحد أئمة اللغة.

وأنقل هنا مثالين من إملائه على بعض أبيات ديوانه تبصرة للقارئ. جاء في شرح البيت:

أحاد أم سُداس في أُحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد:

(قال أبو الطيب: يقال أحاد وثناء وثلاث ورباع إلى عشار في المؤنث والمذكر غير مصروف، والفراء يصرفها إذا جعلها نكرات، وكل ما لا ينصرف من الأسماء يصرف في الشعر، لأن الصرف الأصل. وهذا الذي ينسب إليه في العدد فيقال ثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي إلى عشاري. قال أبو النجم:

فوق الخماسي قليلا بفضله ... أدرك عقلاً والرهان عمله

وأنشد:

ضربت خماس ضربة عبشمي ... أدار سداس ألا يستقيما

وللكميت:

فلم يستريثوك حتى رم ... يت فوق الرجال خصالا عُشارا

وللهذلي:

يصيّد أُحدان الرجال وإن يجد ... ثُناءهم يفرج بهم ثم يزدر

وأنشدني:

أحمّ الله ذلك من لقاء ... أُحاد أحاد في شهر حلال

وحكى ابن السكيت عن أبي عمرو: ادخلوا موحد موحد ومثنى مثنى ومثلث مثلث ومربع مربع وكذلك إلى العشرة. وكذلك ادخلوا أحاد أحاد وثناء ثناء وثلاث ثلاث ورباع رباع إلى العشرة. قال علي (يعني ابن حمزة رواية أبي الطيب) وقال أبو الطيب: وكان أبو حاتم تبع أبا عبيدة في قوله في كتاب المذكر والمؤنث: (ورباع رباع. ولا نعلمهم قالوا فوق ذلك) ثم رجع عنه فقال في كتاب الابل: (ورباع إلى العشرة).

قال أبو الطيب: وأما ليبيتنا فتصغير تعظيم كقول لبيد

وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل

الرواية التي أعرفها خويخته. وكذا أنشده المبرد واليزيدي وثعلب وأنشدنيه المتنبي دويهية (هذا من قول علي ابن حمزة) وقال الأنصاري: أنا جُذَيلها المحكك، وعُذَيقها المرجب، قال: وتصغير الأسماء على هذا المعنى كقولهم كليب وعمير. قال وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: أنا هوى ومعي سلاحي فصغره

والتنادي، أراد التنادي بالرحيل). أهـ

وفي شرح البيت:

إذا عرضت حاج إليه فنفسه ... إلى نفسه فيها شفيع مشفع

قال أبو الطيب: يقال حاجة وحاج وحاجات وحِوَج، وعلى غير القياس حوائج. وتقول العرب: في نفسي منه حوجاء أي حاجة، وأنشد:

ألا ليت شوقا بالكناسة لم يكن ... إليها لحاج المسلمين طريق

وقال آخر:

لعمري لقد لبّثتني عن صحابتي ... وعن حِوَج قضاؤها من شفائيا

وأنشد لامرئ القيس:

لتقضى حاجات الفؤاد المعذب

وأنشد الفراء:

نهار المرء أمثل حين يقضي ... حوائجه من الليل الطويل

وزعم الأصمعي أن حوائج مولدة. قال أبو الطيب: وهي كثيرة على ألسن العرب خرجت عن القياس. قال البصري (علي بن حمزة) وأنشدني أبو الطيب للشماخ:

تقطع بيننا الحاجات إلا ... حوائج يعتسفن مع الجريّ

قال: حوائج جمع حائجة على القياس وهو صحيح. وقد ذكر ذلك ابن دريد قال حاجة وحائجة وحوجاء). أهـ ذلكم مثال مما أملاه الشاعر على رواة ديوانه. وأني لراج أن ييسر الله لي عما قليل طبع الديوان مجرداً من كل شرح إلا أمالي الشاعر والمقدمات التاريخية التي تصدّر بها بعض القصائد وأحسبها من إملاء الشاعر كذلك.

3 - وقد قرئ على أبي الطيب في مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس بن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه غلطات، وقد عثرت على رسالة اسمها (التنبيهات على مقصور ابن ولاد النحوي) جاء في مقدمتها:

(قال أبو القاسم: وكان هذا الكتاب أعني المقصور والممدود قرئ على أبي الطيب بمصر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فردّ فيه على ابن ولاد أغلاطاً وبينها، واستشهد عند بعضها، فجمع رد أبي الطيب وشواهده بعض المصريين وادّعاه لنفسه بعد خروج أبي الطيب من مصر، وأضاف إليها أشياء من عنده غلط فيه هو وأشياء أصاب فيها. وكان هذا المدعي سمع هذا الكتاب وغيره من ابن ولاد وعنه سمعته، وهذا المدعي يعرف بأبي الحسين المهلبي، فإذ مرّ من تلك الأغلاط والشواهد شيء في كتابنا عزوناه إلى مستحقه وبيناه إن شاء الله). . .

وقد قرأت كتاب التنبيهات على مقصور ابن ولاد وهو كتاب صغير فجمعت ما نسبه المؤلف إلى أبي الطيب من الرد على ابن ولاد وأثبته هنا:

(وقال ابن ولاد في باب الشين: وذكر عن أبي عمرو ابن العلاء وعيسى بن عمرو أنهما قالا الشِذو لون المسك، قال الشاعر:

إن لك الفضل على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرامكا

حتى يعود الشذو من لونه ... أسود مضنونا به حالكا

وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال هو الشِذو. وقد أصاب المتنبي وغلط ابن ولاد في فتحه.

وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الطاء): والطُرقي في النسب من قولهم الطُرقي والقُعدي فالطُرقي أبعدهما نسباً والقعدي أدناهما نسباً.

وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال الصواب الطرفي بالفاء. وقال ابن الأعرابي يقال فلان أقعد من فلان أي أقل آباء وأطرف من فلان أي أكثر آباء. وهو مأخوذ من الطرف وهو البعد. وقال الأصمعي يقال فلان بين الطرافة إذا كان كثير الآباء إلى الجدّ الأكبر. وهو عندهم مدح كما قال الشاعر:

طرفون لا يرثون سهم القُعدُد

وهذا الذي حكاه المتنبي مشهور معروف من قول ابن الأعرابي والأصمعي (وهو) الصحيح. وقد ادعى هذا الرد ابن الملتقط (يريد أبا الحسن المهلبي) وكذب في ادعائه وهو من رد المتنبي.

وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الغين) غضبي مائة من الابل معروفة كقولك هنيدة وأنشد:

ومستخلف من بعد غضبي صُريمَة ... فأحربه لطول فقر وأحربا

وهذا ما رواه المتنبي فادعاه ابن المنبوذ (يريد المهلبي أيضاً) فقال الذي راوه أبو العباس (ابن ولاد) غضنى بالنون. وهو خطأ إنما هو غضيى بالياء. وهذا صحيح).

ذلكم أبو الطيب في علمه باللغة وشواهدها ونحوها وصرفها. . . الخ الخ.

عبد الوهاب عزام