الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 165/دانتي ألليجييري

مجلة الرسالة/العدد 165/دانتي ألليجييري

بتاريخ: 31 - 08 - 1936

6 - دانتي ألليجييري

والكوميدية الإلهية

وأبو العلاء المعري ورسالة لغفران

تتمة البحث

الإسراء والمعرج

اختلف المؤرخون ومفسرو القرآن الكريم في هذه الأساطير الكثيرة التي زخرف بها كل من حادثي الإسراء والمعراج، ولم يشأ الثقات منهم أن يتورطوا في تصديق كل ما عُزي إلى الرسول ﷺ أنه قاله؛ ورجح بطلان هذه الأحاديث اختلاف روايتها بالزيادة والنقصان في مختلف كتب التفاسير والسِّير. وقد وقف منها الإمامان - البخاري ومسلم - موقفاً حازماً فلم يثبتا في صحيحهما إلا هذا الحديث المشهور القصير الخاص بزيارة جبريل للنبي وركوبه (ص) البراق ثم الإسراء به فمروره ببعض قوافل العرب ثم بلوغه بيت المقدس، فصلاته بالأنبياء ثمة، فعروجه إلى السماء الأولى وفيها فلان النبي وإلى الثانية وفيها فلان، حتى يبلغ سدرة المنتهى.

ولعل أقدم المصادر التي أوردت زيادات على حديث البخاري ومسلم، ويبدو عليها أثر شديد من الصنعة والتكلف، هي سيرة ابن هشام التي نسج على منوالها كتاب السير الآخرون. وقد رفض صاحب الكشاف أن يثبت في تفسيره شيئاً من تلك الزيادات، ولكن مع الأسف الشديد، تورط مفسرون أجلاء مثل الطبري والألوسي وابن كثير وغيرهم فرووا كل ما وضع الوضّاعون وزخرف المبطلون من حواشٍ وتهاويل عن الإسراء والمعراج ثم تركوا كل ما رَوَوْا من غير ما تمحيص ولا تزييف، فكان عملهم تزكية صامتة لهذه الترهات التي لم تنفرج شفتا الرسول عن حرف واحد منها.

ولقد بدا لنا ونحن نقارن ما جاءت به أسطورة المعراج الموضوعة بما جاء في كوميدية دانتي؛ ولا سيما في الجزء الخاص بجهنم في كل منها، أن يكون هؤلاء الوضّاع قد سطوا على خيال دانتي نفسه فانتحلوه لحادث المعراج، ورَوَوْا، وليتبوءوا مقعدهم من النار، عن الرسول الكريم هذا الحديث الطويل عن فئات المجرمين الذين رآهم يتعذبون بمختلف ألو العذاب في دركات السعير. . . خيل إلينا أنهم سطوا على دانتي، ولكنا عدنا فوجدنا هؤلاء الوضاع يسبقون دانتي بمئات السنين، فأسقط في أيدينا، وأوشكنا نقر القائلين بأن دانتي تأثر في كوميدياه بأسطورة المعراج الملفقة، بعد إذ نفينا ذلك، وهنا، رأينا المخرج صعباً، وفي فشل البحث الذي أخذناه على عاتقنا هوان علينا؛ ولكنا ما كدنا نلخص الجزء السادس من الأنيد للشاعر اللاتيني الخالد فرجيل حتى حصحصت الحقيقة أمام أعيننا، وحتى أيقنا أن كلا من دانتي ووضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج كلٌّ على فرجيل وعيال على خياله الخصب وتصوُّرِه العميق.

والمحققون من علماء المسلمين والمستشرقين على السواء على أن الترهات الكثيرة والزخارف الباطلة التي نقرؤها في غضون كتب التفسير (كالخازن وغيره) هي إسرائيليات انتقلت إلى الإسلام باعتناق بعض اليهود لهذه الحنيفية الغراء، فهم عندما قرءوا في القرآن أسماء أنبيائهم وبعض الحوادث المشهورة الواردة في كتبهم راحوا من تلقاء أنفسهم يقصون قصصهم الإسرائيلية على أنها إسلاميات يقرها كتاب الله وحديث رسول الله، ومن هنا هذا البهرج الكثير الذي دخل على القصص الإسلامي، ومن هنا أيضاً ضياع الحقيقة بين ما قال الرسول الكريم وما لم يقل.

على أننا لا ندري لماذا يكون كل ما دخل على الرواية الإسلامية إسرائيلياً ولا يكون أشمل من ذلك؟ لم لا يكون هندياً مع من اعتنق الإسلام من الهنود، ومصرياً مع من اعتنق الإسلام من المصريين، وفارسيا مع الفرس وآشوريا مع الآشوريين ويونانيا مع اليونان، ثم لم لا يكون لاتينيا مع من اعتنق الإسلام من أمم البحر الأبيض المتوسط، وفيها أسبانيا وصقلية وجزر كثيرة من جزر هذا البحر؟!

لقد ازدهرت الثقافة الإسلامية في فارس والعراق والشام ومصر وتونس والمغرب والأندلس وصقلية، بل هي كانت تمتد إلى أبعد من ذلك، إذ أثبت المحققون أنها كانت تغزو فرنسا وسويسرا وبعض المدن الإيطالية، ولم تكن ثقافة إسلامية بحتة، بل كانت خليطاً عجيباً من أشتات الثقافات، كانت مزيجاً أقله إسلامي وأكثره محلي بحسب الإقليم الذي تتفشى فيه. ومن الإرهاق أن تفرض الثقافة الإسلامية نفسها على الأمم المغزوة دون أن تتأثر هي بثقافات تلك الأمم، ونحن نعلم أن رومة حينما فتحت أثينا عسكرياً كانت أثينا تتوثب لفتح عدوتها ثقافيا، وقد تم لها ذلك بأسهل مما تم الفتح العسكري لرومة فأصبح الأثينيون أساتذة للرومان في بضع سنين، ولم يبدأ العصر الروماني الذهبي بالفعل إلا بعد أن تلقحت أذهان الرومان بهذا اللقاح اليوناني العجيب.

والمسلمون أيضاً. فعصرهم الذهبي لم يكن عصر النبي ﷺ ولا عصر الخليفتين أبي بكر وعمر، ولا عصر معاوية أو عبد الملك بن مروان أو الوليد بن عبد الملك، بل كان ذلك في عصر هارون وابنه المأمون في الشرق، وفي عصر عبد الرحمن الناصر في الغرب. أما العصور الإسلامية قبل ذلك فقد كانت عصور دعوة وجهاد في سبيل الله وتعليم المسلمين الجدد تعاليم الدين الجديد، فلما استقر له الأمر في البلاد المفتوحة جاء دور الحضارة وجاء دور التفكير الهادئ، وجاء دور التلقيح للذهن الإسلامي بثقافات الأمم المختلفة التي دخلت زرافات في دين الله، فأثرت في الآداب الإسلامية كما أثر الإسرائيليون سواء بسواء.

وقد رجعنا إلى عشرات من المصادر علنا نوفق إلى أصل لأحاديث المعراج الملفقة في المائة سنة الهجرية الأولى فلم نهتد إلى شيء منها، وأكبر ظننا أنها لم تكن قد لفقت بعد، وأكبر ظننا أيضاً أن الأمم اللاتينية لم تكن قد تحرشت بالمسلمين في هذه الفترة. . . أما بعد أن عرفت هذه الأمم الإسلام والمسلمين فقد راجت السير عن المسلمين وعن نبي المسلمين وعن الفتوح الإسلامية، وقد ازدحمت هذه السير بالأخيلة الرائعة والقصص الممتع الجميل الذي يستحيل أن يكون إسلامياً بحتاً، لأن نظرية رومة (فتحت أثينا عسكرياً وأثينا فتحت رومة ثقافياً) لابد أن تنطبق على المدينة من جهة، وعلى فارس والشام ومصر والأندلس من جهة أخرى. وما أشبه الرومان بالعرب وما أشبه الأعاجم بالأثنيين في تلك العصور السحيقة المتقادمة!

ولسنا نزعم أن وضاع الأحاديث الملفقة عن حادث المعراج قد انتحلوا ما جاء في الأنيد اعتباطاً، بل هم انتحلوه كما فعل الإسرائيليون حينما انتحلوا كل ما جاء في كتبهم أو أكثره فزوقوا به القصص الإسلامي. وإن مقارنة سريعة بين الجزء السادس من أنيد فرجيل وبين الروايات التي نَسَّقها وجعل منها قصة المعراج العالم المسلم نجم الدين الغيطي (999هـ) لتجعلك تتأكد صدق استنباطنا، وتتفق معنا على أن الأدب اللاتيني، ومنه أدب فرجيل، قد صبغ ناحية هامة من الأدب الإسلامي لم تكن مزدهرة قبل ذلك. ولولا مخافة الإملال لسقنا لك هذه المقارنة، فارجع أنت إلى الخلاصة التي أعطيناكها في العدد السابق للكتاب السادس من الأنيد، ثم ارجع إلى سيرة ابن هشام أو تفسير الطبري أو قصة المعراج لنجم الدين الغيطي تجد أننا لم نبالغ قط في كلمة مما قلناه.

صور تأثر بها دانتي من القرآن الكريم

كانت هزائم المسيحيين المتوالية في الحروب الصليبية والتي انتهت بفشل هذه الحرب تذكي نيران البغضاء والحنق في قلب دانتي على الإسلام والمسلمين، وقد رأينا كيف بلغ به عَتهُهُ وضيق عطنه أن زج بالرسول ﷺ وبابن عمه علي وبالسلطان صلاح الدين في جحيمه، وكيف جعلهم مع الفجار وأهل الفسق والمهرجين في درك واحد. وليس معقولاً أن تنتهي هذه الحرب دون أن تكون لها نتائجها من احتكاك الأذهان بين الشرق والغرب ومن إلمام الغرب بشطر كبير عن الإسلام ونبي المسلمين وكتاب المسلمين، والذي يتلو ما جاء في السور المكية من نذير شديد وأوصاف ممتعة لجهنم ودركاتها لا سيما في سور الأعراف والصافات والواقعة وجزء عم يروعه تأثر دانتي بالقرآن الكريم فيما ذكره في الـ (الجحيم)، فبرغم وثوقنا من أنه سار على درب فرجيل في الجزء السادس من الأنيد في هذا الجزء من كوميدياه إلا أننا ندهش لكثير من وجوه الشبه بين ما جاء في جحيمه وما جاء في القرآن من وصف جهنم وأهلها. ونحن نحيل القارئ هنا أيضاً على السور التي ذكرنا وعلى الملخص الذي عملناه لجحيم دانتي.

ولا ريب أنه تأثر أيضاً بالقرآن الكريم في فردوسه، ولكنه أثر غير عميق، إذ كان ينهج في جنته منهاج فرجيل في الأنيد، وبحسبنا ما قدمنا من خلاصات.

دانتي والأدب اليوناني

المشهور عن دانتي أنه لم يكن يعرف اليونانية، ولكن هذا لم يمنعه من الإطلاع على الأدب اليوناني اطلاعاً وإن يكن أبتر قليل الغناء إلا أنه كان ذا أثر كبير في تكوينه الأدبي. ومما لا شك فيه أن دانتي قرأ ما قرأ من أدب اليونان في التراجم التي قام بها مواطنه الشاعر الكبير أوفيد تلك التراجم الخالدة التي حفظت لنا جانباً كبيراً من أساطير الإغريق وتراثهم الأدبي. ولعل رحلة هرقل ورحلة أرفيوس الموسيقي إلى الدار الآخرة كانتا ذواتي أثر كبير أو قليل في دانتي حينما كتب كوميدياه، ففيهما وصف بارع للجحيم نسج على منواله فرجيل في الأنيد.

دانتي ورؤيا يوحنا اللاهوتي والأدب المسيحي

وإذا كان دانتي قد تأثر بكل ما ذكرنا من هذه الآداب المتفرقة، فمما لا ريب فيه أنه تأثر بالأدب المسيحي عامة، والعهد الجديد خاصة، ونخص من العهد الجديد آخر أسفاره (رؤيا يرحنا اللاهوتي)، فهي رؤيا جميلة حقاً، وفيها من ألوان الخيال (الخيال الأدبي طبعاً) شيء كثير، ونحسب أن دانتي قد اقتبس الفصل الخاص ببحيرته في جحيمه من نفس المنظر الخاص بالبحيرة في هذه الرؤيا، بل نحسب أن الوُضّاع الذين لفقوا أحاديث المعراج الموضوعة قد دسوا هذا المنظر في أسطورتهم من رؤيا يوحنا نفسها. بيد أنه ينبغي ألا نغالي في مقدار تأثر دانتي بهذه الرؤيا كما ذهب إليه بعض إخواننا من الأدباء المسيحيين بل ربما كان تأثر دانتي بأخيلة القرآن (نقصد دائما معنى الكلمة الأدبي) أبعد مدى من تأثره بأخيلة الإنجيل، لأن القرآن وصف جنة النعيم وشقاء الجحيم بما لا يسمو إليه خيال شاعر مهما تفنن وأبدع، ولأن دانتي كان يرد بكوميدياه على أعدائه خاصة وأعداء المسيحية من المسلمين في زمانه عامة، ولذا كان يحسب أنه يحارب بسلاح أعدائه.

خاتمة

هذا ما عن لنا أن نقول في دانتي وأبي العلاء، وشتان بينهما! شتان بين أعمى المعرة الساخر الملحد الفيلسوف المتفنن القانع بالعدس والفول والتين والخيار من لذائذ الدنيا الخاتلة، وبين دانتي السني المتدين المتعصب للكنيسة ولو أذلت رومة وطنه ووضعت أنف فلورنسا في التراب، الساخط على مواطنيه لأنهم حرموه المناصب التي تدر عليه العسل واللبن، المتبرم بزوجه، الناقم على أطفاله، المقلد لغيره في كل خطوة من قصيدته.

ليس ضيراً إذن على أبي العلاء ألا يكون دانتي قد قلده ونسج على منواله، بل الضير كل الضير هو في مقارنة قصيدة دانتي برسالة أبي العلاء، فلقد كان دانتي عالة على فرجيل في الكوميدية الإلهية كما شهدنا، ولكن أبا العلاء لم يكن عالة على أحد، بل كان الشاعر ذا الخيال الخصب والفكر الجبار والقلب المتمرد على الأديان وما تقول به من جنة ونار. هذا ولا ننكر أن أبا العلاء كان خضعاً في رسالته لتداعي المعاني كما ذكرنا في الكلمة الأولى من هذا البحث.

د. خ