الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 165/الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 165/الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي

مجلة الرسالة - العدد 165
الخيال في الأدبين العربي والإنجليزي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 08 - 1936


للأستاذ فخري أبو السعود

الخيال - وهو القدرة على انتزاع شتى الصور من الواقع المشاهد واستحضارها في الذهن في أي وقت، والتصرف فيها على مختلف الأشكال والأوضاع - عنصر من أهم عناصر الأدب مهما اختلفت أنصبة الأدباء منه، وهو أسس التشبيهات والمجازات، ولولاه لالتزم الفكر الإنساني الواقع المتحجر أيما التزام.

وللخيال في الأدب وظائف شتى: فالخيال الصحيح يعين الأديب على إبراز الحقائق بشتى الوسائل، ويقدره على سبك موضوعه سبكاً فنياً لا شذوذ فيه، وعلى نبذ ما لا حاجة به إليه من تفصيلات قد تشوه ما هو بسبيله، ويساعده على إضفاء ثوب من الجمال على ما ينشئ.

وللخيال يد طولى في الأدب الإنجليزي؛ فالأديب الإنجليزي غزير العاطفة، إذا جاشت أطلق العنان واسترسل مع خياله، وأثار به منظر طبيعي أو غناء طائر أو ذكرى طارئة أو أثر من آثار الغابرين أو أسطورة من أساطيرهم، أو غير هذا وذاك كله، شتى الخيالات والأحلام والأطياف، وتناهت به عاطفته إلى حدود الأماني وآفاق الماضي والمستقبل، وهذا الاسترسال للخيال إذا أثارته فكرة رئيسية هو مرجع وحدة القصيدة في الإنجليزية.

وهناك عدا هذا الخيال المنبث في كل مناحي الأدب أغراض خاصة من الأدب قوامها وهيكلها الخيال، يجمع أطرافها وينهض بكيانها، ويوثق وشائجها، وهذه هي الملاحم الطوال في الشعر والقصص الممثلة أو المقروءة شعراً أو نثراً، ففي هذه لا يلتزم الأديب الواقع المجرد، بل يفترق عنه افتراقاً جسيماً، ويصوغ من شتى أفكاره وتجاريبه وأمانيه عالماً يجيش بالحياة والحركة، ويموج بالعواطف والنوازع، ويفيض بالجمال والإمتاع.

والأدب الإنجليزي حافل بهذه الضروب القائمة على أساس من التخيل المحض؛ فهناك ملاحم ملتون وهاردي، وفيها يستعرض كلٌّ من الشاعرين مشاغل عصره ويبحث آراءه وينفث لواعج نفسه؛ ومن طبيعة أشعار الملاحم أنها تعج بالمردة والجبابرة والآلهة، وتحفل بخوارق الأعمال وجسائم البطولة، وهي على رغم هذا كله لا تخرج عن عالمنا الإنساني ولا تغفل النفس الإنسانية، بل تظل نوازع تلك النفس ومشاغلها هي الهدف الوحيد الذي يرمي إليه ناظموها، إذ فيها يتخذ أولئك الأرباب والجبابرة طبائع الناس وم فاقو البشر قوة وعظماً، ومن هنا يتأتى للشاعر أن يبسط آراؤه في ميدان متسع وإلى مدى فسيح، فالخيال هنا لا يعدو الحقيقة، وإنما يوضحها أحسن توضيح، فضلاً عما يمتع النفس به من قصص متسق وجمال وجلال.

وفي الأدب الإنجليزي مالا يعد من قصص في الشعر أو النثر ممثلة ومقروءة. وقوام القصة بطبيعتها الخيال، وإن تراوح نصيبها منه؛ فهناك القصص الواقعية التي تلتزم الحقيقة إلى أكبر حد مستطاع وتصور المجتمع الحاضر تصويراً دقيقاً، كقصص هاردي ودرامات جالزورذي؛ وهناك القصص التي ترمي إلى أغوار الماضي وتدور حول عظيم من رجال التاريخ أو الأساطير، من طَموح يبيع نفسه للشيطان ليعينه على مطامحه، إلى دائن يتقاضى دينه من لحم غريمه ودمه، كما في روايات شكسبير ومارلو وغيرهما؛ كما أن هناك القصص التي تتطاول إلى آفاق المستقبل، وفارس هذه الحلبة ولز.

هذه الأغراض والأوضاع التي سداها ولحمتها الخيال غير ظاهرة في الأدب العربي: فلا قصص ولا ملاحم. والمقامات وأشباهها إذا زج بها في هذا المجال بدت هزيلة عجفاء تدعو إلى السخرية، فأولى بها أن تظل حيث أراد كاتبوها وقصدوا بها من غرض بعيد عن القصص. والأثر الوحيد الذي يعتد به - بل يفتخر به - في هذا الباب رسالة الغفران: ففيها من آثار الخيال ومتعاته ما لا نظير له في الأدب كله. على رغم اكتظاظها بأخبار الأدباء ومسائل الأدب والنحو.

وفضلاً عن انعدام هذه الفنون الخاصة فإن نصيب الأدب العربي عامة من الخيال ضئيل إذا قيس بنصيب الأدب الإنجليزي منه، فالأديب العربي كان شديد الحرص على الواقع يلزمه به موضوعه وأفكاره، شديد الاختصار في مقاله وتعبيره عما يحس، يعبر عن تلك الأفكار أشتاتاً كلما عنَّ له حافز إلى الكتابة، لا يدخر أفكاره ولا يربط منها حاضراً بماض، بل يرسلها على السجية أبياتاً محكمة النسج موجزة البيان. فالفكرة التي تخطر للأديب الإنجليزي فيحوك حولها قصة تربط ما يتصل بها من أفكار، وتنشئ حولها شتى الصور المنتزعة من الحياة، يكتفي الأديب العربي بصوغها في بيت شعر محكم يذهب مثلاً ثم (ينام ملء جفونه).

فكبح عنان الخيال هذا سبب انعدام القصص وكثرة الحكم والأمثال في الأدب العربي. وهو كذلك سبب توسط طول القصائد وعدم تراوحها بين الملاحم الطوال والمقطوعات الصغار، ثم هو سبب اكتظاظها بالأفكار لا يربطها رباط جامع من خيال وثيق.

ولا ترجع ندرة آثار الخيال في الأدب العربي إلى ضعف ملكته بين الشعوب العربية، فإن كثيراً من تلك الآثار تدوولت في العامية دون الفصحى بين الشعوب الناطقة بالضاد، وإنما ترجع تلك الندرة إلى التقاليد الجامدة الشديدة التي تسلطت على الأدب العربي لظروف خاصة سبقت الإشارة إليها في كلمات ماضية: من محاكاة للأدب القديم - وهو نادر آثار الخيال لأنه أدب بدائي - ومجانبه للآداب الأخرى ولا سيما الأدب الإغريقي.

وليس أدل على أثر الثقافة الإغريقية في تربية الخيال من أن إطلاع العرب على جمهورية أفلاطون حدا ببعض فلاسفتهم إلى محاكاته في تخيل الدولة المثلى، فكان من ذلك (المدينة الفاضلة) و (حديث حي بن يقظان) وغيرهما، مما هو داخل في موضوع الفلسفة لا الأدب، فلو درس العرب دب الإغريق دراستهم لفلسفتهم لكان ذلك أثره المحتوم.

فالأدب الإغريقي حافل بالخيال البعيد المرامي، مليء بالعوالم الزاخرة بشتى العظائم والمحاسن، واغتراف الأدب الإنجليزي من مناهله هو الذي أمده بفيض من الخيال لا يفنى: وضَّح أمامه مذاهب التخيل وأشكاله، وأمده بالخرافات والأقاصيص العديدة تحاك حولها أعمال الخيال في الشعر والنثر، وتفعم بصور الجمال وترصع بالآراء النقدية والنظريات الثاقبة في شؤون العالم وأحوال المجتمع، وتلك لعمر الحق مادة الأدب وصميمه.

أما الأدب العربي فظل الواقع قبلته والحاضر ديدنه، وحين ضرب في مرامي الخيال في الغزل الاستهلالي والمكرمات المصطنعة ينسيونها إلى الممدوحين والمرثيين إنما كان يفعل ذلك مطمئناً إنه يحذو حذو المتقدمين ولا يخرج عن الحدود المرسومة للأدب في عهودهم، فجاء ذلك الخيال غثاً ممجوجاً لا يتجاوز جانب الأوهام والتلفيقات إلى جانب التعبير الصادق عن الحقيقة العميقة.

وبينما أساغ الأدب العربي هذا الخيال الغث المتكلف نبذ ضروب الخيال المطبوع الصادق الذي يمت إلى الحياة والذي هو عماد القصة النثرية والشعرية، فترفَّع عن ذلك تاركاً إياه للعامة يروون به غلتهم، تلك الغلة التي يشعر بها كل إنسان وتنزع به إلى القصص وإلى الخيال.

فخري أبو السعود