مجلة الرسالة/العدد 165/أسبوع في سبتمانيا
→ السيارة المسروقة | مجلة الرسالة - العدد 165 أسبوع في سبتمانيا [[مؤلف:|]] |
لَمَعات ← |
بتاريخ: 31 - 08 - 1936 |
من ذكريات العرب والإسلام في غاليس
للأستاذ محمد عبد الله عنان
في أحد أبهاء قصر فرساي مجموعة من الصور الرائعة تمثل مناظر من الوقائع الحربية الشهيرة التي انتصر فيها ملوك فرنسا؛ وبين هذه المجموعة صورة لموقعة بلاط الشهداء التي نشبت بين العرب والفرنج على ضفاف اللوار في سنة 732م، يبدو فيها عبد الرحمن الغافقي أمير الأندلس، وقائد الجيش الإسلامي، شيخاً رائعاً ذا لحية طويلة بيضاء، وهو شاهر سيفه، ومن حوله بعض جنوده قتلى، وأمامه جنود الفرنج يكرون على خصومهم بشدة، وتبدو عليهم إمارات التفوق والنصر.
وهذه الصورة إحدى الذكريات القليلة التي تحتفظ بها فرنسا عن عصر يكاد يمحوه النسيان من صحف تاريخها، ونحن نعرف ماذا كان من أمر العرب في بلاط الشهداء، فقد قتل قائدهم عبد الرحمن خلال الموقعة، ثم ارتدوا في ظلام الليل إلى الجنوب؛ وغنم الفرنج الموقعة، واقترنت ذكرى النصر إلى الأبد باسم قائدهم وزعيمهم كارل مارتل، واعتبرته التواريخ النصرانية منقذ أوربا والنصرانية من الإسلام وسلطانه وتعاليمه.
بيد أن ذكرى هذا النصر الفرنجي لا يمكن أن تحجب ذكريات عصر قصير باهر قضاه العرب في جنوب فرنسا، فقد افتتح المسلمون ولايات فرنسا الجنوبية في أوائل القرن الثامن واستقروا في سبتمانيا زهاء نصف قرن؛ ثم عادوا في أوائل القرن العاشر جماعات مغامرة مجاهدة واحتلوا كثيراً من أنحاء بروفانس والرفييرا، واستعمروها زهاء قرن، وتركوا كثيراً من آثارهم وذكرياتهم المعنوية في تلك الأنحاء.
ولكن الأوربي، والفرنسي بنوع خاص، قلما يذكر هذا الفصل من تاريخ العرب والإسلام في أوربا؛ وإذا كان بعض الباحثين والمؤرخين الأخصائيين يعرضون إليه في كتبهم، فإن التواريخ الغربية العامة تمر عليه غالباً بالصمت، أو تذكره عرضاً كحادث طارئ طوى صفحته تعاقب الأحقاب؛ وإذا قصصت على الفرنسي المثقف شيئاً من تفاصيل هذه الغزوات الإسلامية لجنوب فرنسا، وذكرت له أن العرب قد انتهوا في فتوحاتهم إلى أعالي نهر الرون، وأنهم استولوا على بيزانصون مسقط رأس شاعرهم فكتور هوجو، وعلى ل وماسون وصانص، وأنهم احتلوا الأنجدول وبروفانس دهراً، وأن قواعد سبتمانيا مثل أربونه وأجده ومجلونه وقرقشونه، ما زالت تسمى بأسمائها العربية محرفة إلى الفرنسية: إذا ذكرت للفرنسي المثقف شيئاً من ذلك أصغى إليك بمنتهى الدهشة وكأنما يصغي إلى قصة خرافية يطبعها الخيال المغرق.
ولقد أتيح لي أن أقضي أسبوعاً في هاتيك الربوع التي خفقت عليها الأعلام العربية حقبة من الدهر. أجل، خطر لي أن أجوز إلى سبتمانيا القديمة، وأن أشاهد قواعدها التي ما زالت أسماؤها تنم عن ذكرياتها العربية. ولقد كانت سبتمانيا - وهو اسمها القديم ومعناه ذات المدن السبعة - أولاً نجدولا الحديثة، أول أرض فرنجية غزاها العرب عقب افتتاح الأندلس، واتخذوها قاعدة لغزواتهم في جنوب فرنسا، وجعلوها ولاية أندلسية سميت بالثغر أو الرباط لوقوعها على ساحل البحر الأحمر؛ وكانت مدن سبتمانيا السبعة: أرله، وأربونه، ونيمه، وقرقشونه، وبيزيه، وأجده، ومجلونه. وكانت أربونه عاصمتها، وكانت أمنع المعاقل العربية في غاليس (جنوب فرنسا). ولما وقعت الحرب الأهلية في الأندلس، عندما أشرفت الخلافة الأموية على نهايتها، كانت أربونة قاعدة المعارضة لحكومة قرطبة، وكانت منزل الحركة التي قام بها حاكمها عبد الرحمن اللخمي (أشجع فرسان الأندلس) لانتزاع إمارة الأندلس؛ ولما اضطربت أحول الأندلس الداخلية، انتهز الفرنج الفرصة لاسترداد سبتمانيا، وكانت أربونه آخر معقل عربي وقف في وجه الفرنج، ولم تسقط إلا بعد دفاع مجيد سجلته الروايات المعاصرة، وكان ذلك في منتصف القرن الثامن الميلادي (سنة 758م).
تلك هي خلاصة المأساة العربية في سبتمانيا. أجل كان العرب سادة في هاتيك الربوع منذ ألف ومائتي عام؛ ولكن سبتمانيا لا تحمل اليوم أقل أثر مادي من طابعها العربي القديم. بيد أنه مما يلفت نظر السائح المتجول أن اسم (حي العرب) أو (شارع العرب) يطلق على كثير من الأنحاء في مدن الرفييرا وسبتمانيا؛ وهذا يرجع بلا ريب إلى وحي الذكريات العربية؛ وقد توجد أيضاً أطلال دراسة لبعض الحصون العربية، ولكنها مما يصعب تعيينه وتحقيقه.
على أنه توجد ثمة آثار معنوية كثيرة من العهد لعربي في الحياة الاجتماعية في تلك المنطقة، وبخاصة في بروفانس حيث تأثر التفكير والآداب عصراً بالمؤثرات والأساليب العربية، وحيث طبع المستعمرون المسلمون في القرن العاشر حياة هذا الإقليم بطابع من عاداتهم وتقاليدهم. وقد كانت هذه الحقائق التاريخية موضع عناية بعض الباحثين في القرن الماضي فتناولوها بالشرح والاستقصاء، وكانت مباحثهم فتحاً جديداً في هذا الميدان؛ ونستطيع أن نخص بالذكر منهم العلامة المستشرق رينو، فقد كتب عدة فصول بديعة في كتابه (غزوات العرب في فرنسا) عن الآثار الفكرية والاجتماعية في جنوب فرنسا وبخاصة في بروفانس.
ولقد اخترقت سبتمانيا من آرله حتى جبال البرنيه؛ ووقفت مدى حين في دينة أربونه وقد أذكى خيالي حين شهدت عاصمة الرباط الأندلسي القديم، تلك الذكريات العربية البعيدة التي تغيض في عالم القرون والتي لم أجد لها أثراً في المدينة الفرنسية الحديثة. وحينما وقفت في (بربنيان) تذكرت أنها كانت مجاز الجيوش الأندلسية إلى غاليس، وأن عرب الأندلس كانوا يفضلون اجتياز جبال البرنيه من الناحية الشرقية من ممر بربنيان، مخترقين قطلونية إلى (الثغر) ثم يتجهون بعد ذلك شمالاً إلى أقاليم الرون، أو غرباً نحو (اكوتين)؛ بيد أنه توجد إلى جانب ممر بربنيان ممرات أخرى كان يتدفق منها عرب الأندلس إلى جنوب فرنسا، وأشهرها ممر (رونشفال) الشهير الذي يسميه الإدريسي (باب الشزري). ولرونشفال ذكرى خالدة في التاريخ والقصص الفرنسيين، فقد كانت مسرحاً للموقعة الشهيرة التي مزق فيها العرب جيش كارل الأكبر (شارلمان) حين عوده من غزوته لأسبانيا الشمالية، التي نظم فيها رولان وصيف شارلمان أنشودته الشهيرة
وإن السائح المتجول ليتساءل حين يتأمل تلك الوهاد كيف استطاع العرب الذين برزوا من بسيط الصحراء إلى الغزو أن يجتاحوا تلك الهضاب الوعرة، وأن يحرزوا النصر الباهر في هاتيك السهول النائية على حين أن أعداءهم أعرف بطبائعها وجنباتها. ولقد كان اجتياز جبال البرنيه الشامخة أعجوبة في التاريخ القديم، ولكن العرب اجتازوا تلك الربى الهائلة واقتحموها مراراً في سبيل الفتح. ولقد خالجني مثل هذا الشعور حينما اجتزت صحراء العرب منذ بضعة أعوام، وأذكى القفر الشاسع خيالي، فتساءلت كيف استطاعت الجيوش العربية الزاخرة أن تجتاح هذا القفر الرائع في عصر كان التنقل فيه محفوفاً بأعظم المشاق؟ وكيف كانت هذه الجيوش تمون نفسها بالزاد والماء خلال أسابيع طويلة تستقبل فيها الشمس المحرقة والرياح السافية؟ أجل لقد كان اجتياز الجيوش الإسلامية في مختلف العصور لصحراء العرب وصحارى الشام وشمال إفريقية أعجوبة من أعاجيب العصر، بل إن اجتياز هذه الصحارى في عصرنا يعتبر عملاً من أعظم الأعمال الحربية.
ولقد ذكرت بهذه المناسبة ملاحظة غريبة أبداها المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون عن خواص الفتح العربي، فقد عقد في مقدمته فصلاً ذهب فيه إلى (أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط) وأورد كعادته أمثلة وأسباباً، ولكني أعتقد أن ابن خلدون غير محق في ملاحظته؛ ويكفي أن نذكر أن العرب افتتحوا هضاب فارس وأرمينية والأناضول والغرب، وافتتحوا أسبانيا وتغلبوا على وعرها بأيسر أمر، ثم اقتحموا جبال البرنيه الشامخة إلى فرنسا وافتتحوا ما وراءها من الهضاب والسهول؛ ولم تكن هذه كلها من البسائط التي يعنيها ابن خلدون.
هذه خواطر أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا أو الرباط الأندلسي القديم؛ ولقد قضيت في تلك الربوع أياماً؛ وكنت كلما وقفت بأحد هذه المعاهد القديمة ارتد خيالي إلى ما قبل ألف ومائتي عام وتصورت العصر الإسلامي كله ماثلاً أمام عيني بحوادثه ووقائعه الحافلة، ومرت بذاكرتي أسماء عربية رنانة روت بدمائها تلك الأرض: السمح بن مالك بطل موقعة تولوشة، عبد الرحمن الغافقي بطل موقعة بلاط الشهداء. . . . ولقد كنت في الواقع على سفر إلى الأندلس، وكنت اعتزم أن أتجول في ربوعها التي ما زالت تحمل ذكريات عزيزة للإسلام وآثاره، ولكن الثورة الأسبانية المشئومة حالت دون تحقيق هذا الأمل، فلبثت أياماً في سفح جبال البرنيه أرقب الحوادث وأنتظر سنوح الفرصة، ولكن شاء ربك أن يندلع لهيب الثورة في جميع أنحاء أسبانيا بصورة مروعة تحمل أشد المغامرين على الزهد في زيارتها.
على أن الزمن كفيل بتحقيق الأمل، والصعاب تشحذ العزائم. وسوف أستعين بالله دائماً على المضي في مباحثي الأندلسية إلى ن يحقق أملي كاملاً في إخراج تاريخ العرب والإسلام في أسبانيا.
فينا في 18 أغسطس
محمد عبد الله عنان