مجلة الرسالة/العدد 164/من دروس البادية
→ لقصص | مجلة الرسالة - العدد 164 من دروس البادية [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 24 - 08 - 1936 |
محنة الرجولة
للأستاذ أديب عباسي
مرت السنون وتصرمت الأعوام، والأمير الكبير يلتمس رحمة المولى ويرتقب جداه ليهبه وارثاً من صلبه، يرث اسمه ويخلد ذكره، وينتهي إليه ماله وجاهه. بيد أن الأيام كانت كلها سواء في إذهاب الرجاء وتخييب الأمل، وأوشك الأمير أن يصفي ولما يجيء الوارث المرتقب.
غير أن المولى افتقد الأمير في سنة من سني يأسه، وحملت زوجته بعد طول الخيبة، ووضعت طفلة أسمياها (سلافة). ولم ييأس الأمير أو يبتئس إذ كان الوليد أنثى ولم يكن ذكراً. وماذا كان يرجو من الأيام ليبتئس بعد أن خاصمته في آماله وتجهمت له هذه الأعوام الطوال؟
ونشطت عواطف الأبوة قوية جائشة بعد طول الكبت وغياب الحافز، وهب الأب يريق على الصغيرة من عطفه وحبه ما صيرها سلواه وكل أمله في باقي حياته.
وشبت الصغيرة كما تشب بنات البادية غضة نضيرة، بقامة هيفاء وصحة مترعة؛ هذا إلى ما حباها الله وأفردها به إفراداً من جيد أغيد، وثغر أبلج، ووجنتين تفيضان بالحياة وتنضحان البشر نضحاً، إلى جبين مشرق نبيل يكلله ويزينه فرع أثيث وحف، ثم ما يتجمع جميع ذلك النور والسحر في مجتمعين للنور والسحر، ومن ثم كل ذلك الفيض فيهما من الفتنة القاسرة والقوة الآسرة.
هذا، ولم يدع الأمير وسيلة من وسائل التهذيب التي تيسرها البادية إلا اصطنعها في تهذيب (سلافة)، حتى غدت إذ شبت فتنة البادية، وحديث المجالس، ومدار الهواجس، ومطاف الأحلام في صدور الشباب. وذاعت شهرة الأميرة في طول البلاد وعرضها، وتواصفها الأمراء والأشراف، وأخذت تحوم حولها الأنظار، ويهطع إليها الخيال من جميع نواحي الطموح في البادية.
بيد أن الأمير اشترط على الخطاب الطامحين أن يجوزوا امتحاناً يعده لهم، ومن يفز فيه فاز بفتاته وأضحى الوارث الشرعي له في إمارته. وأما من فاته الفوز وخانه التوفيق فيتلقى عقابه لوعة الحرمان ومرارة الفشل، ومائة جلدة وجز شعر الناصية؛ وأباح الأمير امتحانه هذا كل طامح بلا تفريق في الجاه أو المال أو الشهرة أو خلافها من وسائل التمييز.
وخشيت (سلافة)، مع هذه المساواة التامة بين الخاطبين، أن يجوز الامتحان غير كفء، وغير من تهوى وتحب، وقد يكون الفائز صعلوكاً من صعاليك البادية، أو ذئباً من ذؤبانها؛ وقد يكون أسود بغيضاً مرخي المشافر واللحيين؛ وقد يكون فتى مخنثاً فاتر العزم، باهت الرجولة؛ وثمة فللموت أهون عليها وأعذب.
فاتحت أباها فيما يساورها من مخاوف ويدب إليها من ريب، ولكن أباها الأمير طمأنها وأكد لها أن امتحانه لن يجوزه غير كفء، وأنها سوف تحمد له عاقبة هذا التدبير الذي يدبر.
جاء الخاطب الأول، وكان زعيماً ذائع الشهرة كثير المال، شريف المنتسب، حسن البزَّة والمظهر، وجاء يسوق بين يديه عديد الهدايا وأنواع الطرف، وقدمها وسيلة للأغراء والزلفى، وحلَّ ضيفاً كريماً على الأمير بعد أن كشف عن غرضه ومبتغاه.
واستقبله الأمير - كعادته مع جميع الأضياف - مرحباً مؤهلاً، ثم عمد إلى خير ناقه وأعزها عليه وعقرها ثم نحرها أمام البيت، ودعا إلى الوليمة أدنى من في الحي؛ وبعد أن نال الجميع من الطعام إلى حد الشبع ثم أديرت القهوة التفت الضيف الخاطب يخاطب الأمير:
أي أميرنا العزيز! لقد جئناك في (سلافة) درة البادية، وفتنة العقول، وغاية السول؛ فماذا ترى أن تضع بيننا من الحواجز، وماذا ترى أن تقيم بيننا من العقبات؟ لقد ملأ نفسي ذكر فتاتك، ولست بعائد ومؤيدي بعد الله همتي إلا بها.
فأجاب الأمير: على رسلك يا ضيفنا العزيز! إن ضيفنا يقيم بيننا أياماً عشرة، ثم يكون الامتحان، وعندها إما (سلافة) له، وإما المائة جلدة والشعر المجزوز.
ولم يسع الخاطب الطامح إلا الإذعان والصبر حتى يحل اليوم الموعود.
وفي صبيحة اليوم التالي عمد الأمير إلى ناقتين من خير ناقه ليجزرهما كاليوم الفائت، وهنا أراد الضيف الخاطب أن يعارض الأمير ويمنعه أن يعقر ناقتيه محتجاً بأن في جزور البارحة الكفاء وان نحرهما إسراف وإتلاف للمال لا مبرر لهما. إلا أن أميرنا لم يجبه بشيء ومضى يعقر الناقتين ويجزرهما ويعد الوليمة، وعند الظهر أقبل المدعوون من أدنى الحي وأواسطه وتناولوا الطعام مع ضيف الأمير. ومضى الأمير يفعلها كل صباح ويزيد العدد المنحور ناقة ناقة إلى اليوم العاشر؛ ومضى الضيف يزداد لجاجة في الاحتجاج وإلحافاً على الأمير أن يقتصد في ماله فلا يتلفه هذا الإتلاف، ولكن بلا جدوى.
وتقدم الضيف بعد اليوم العاشر بطلب إلى الأمير أن يجري امتحانه، فلقد طال ثواؤه وعيل صبره وافتقده أهله، ولكن كم دهش وكم حلَّ عزمه اليأس والخيبة إذ فاجأه الأمير:
أي ضيفنا! يعز علينا أنك خسرت الرهان وفاتك الفوز، فلتذعن إذا لجزائي المفروض وتستكن.
عندها أجاب الخاطب المحنق محتجاً بأنه لم يجر عليه امتحان ليعد فاشلاً يستحق العقاب، وطلب إلى الأمير أن يفسر له ما يدعي إن يكن يروم الإقناع بالدليل والبرهان، ولكن الأمير أصر على أنه خسر الرهان وأن ليس حاجة إلى التفسير ثم أشار إلى غلمانه أن يتسلموه. . .
وقام صاحبنا ينكث أذياله وغادر الحي بناصية مجزوزة، ومائة أثر في ظهره لمائة جلدة، وصدر يغلي بالحقد ومرارة الفشل، واعتقاد جازم أن بصاحبه الأمير لما أو لمماً إن لم يكن ذا جنة وخيال.
وذاع أمر المحنة والجزاء ثم ما أصاب أول الخاطبين من جز الشعر والضرب الأليم. إلا أن ذلك لم يوئس الخطاب بادئ الأمر ولم يمنعهم من الوفود على الأمير علهم ينجحون من حيث فشل صاحبهم. على أن نصيبهم لم يكن بخير من نصيب أولهم، فكلهم كان يعود باللمة المجزوزة والظهر المجلود، ولولا أن الأمير كان برجاله وفروسيته عزيز الأبطال لكان لهم معه شأن غير ذلك الشأن، ولنالوا منه بحد السيف ما فاتهم بالامتحان.
وبعد الفشل المتوالي الذي مني به عديد الخطاب تجافى الخاطبون مضارب الأمير وعافوا الوفود عليه خاطبين، إلا فتى شريفاً جاء من أطراف البادية وآلى ألية لينالن سلافة أو يقتلن أباها ويربح البادية من عتوه أو يهلكن على حد السيوف دونهما.
ولم ير فتانا أن يثقل كاهله بنفيس الحلل وغالي الثياب، ولم يسق بين يديه الهدايا والطرف، واكتفى ببزة بسيطة وتخفف من كل ما يحمل المسافر إلا سيفه القاطع وبعض الزاد، وسار يغذ السير أياماً إلى أن وافى الأمير وحل ضيفاً عليه وأبان غايته من الوفود عليه.
وشرع الأمير كدأبه مع جميع الخاطبين، ينحر الجزر يوماً بعد يوم والفتى صامت لا يعترض ولا يجادل، ولا يتكلم إلا حيث يجمل الكلام، ويصمت حيث يجب الصمت.
وقد اجتذب فتانا بحسن سمته وقلة حديثه عن نفسه أنظار القوم وأيقنوا بأنه فتىً يختلف أبين الاختلاف وأشده عن بقية الخطاب، فلا ظهور ولا إدلال بالجاه ولا غرور ولا شيء من ذلك الذي كان يضيفه أولئك الخطاب إلى شخوصهم ليتقربوا به زلفى إلى الأمير. هذا إلى رجولة صريحة وفكر موزون ونبل ظاهر. وصار همَّ الجميع أن يجوز الفتى الامتحان المقيد ليكون هو وارث أميرهم والمؤمر عليهم بعده.
وبلغت أوصاف لفتى وذكر شمائله خدور النساء، وأضحى اسمه لديهن ملء الأفواه والأسماع. ولم تكتف سلافة بالسماع وكثيراً ما يفتن، وأرادت أن تشاهد هذا الفتى الموصوف وترى هل يصدِّق الخبر عنه الخبر أو لا يصدِّق. وانتحت ناحية خفية من بيت الأمير الواسع وأخذت تتقرى الرجال وتتفرس في الملامح وتصغي إلى الحديث، إلى أن وقع بصرها على الفتى الموصوف. . . .
وفجأة شعرت أن قلبها يخفق أكثر مما اعتاد أن يخفق، وخيل إليها كان رئتيها لا تتسعان لكل ما تريد أن تدفعه إليهما من الهواء، وشعرت كذلك كأن هذا الفتى قليل الكلام يتحدث إليها ويخاطبها أعذب الخطاب. . . وخشيت إن هي بقيت حيث هي أن يشي بها اضطرابها أو تنم عليها أنفاسها المتهدجة، ويعلم القوم أن فتاتهم الرصينة الخفرة قد خفت ورعنت فجاءت تشهد خطابها خلسة من وراء السجوف، فتركت مكانها وفي قلبها كالسهام من العواطف المتباينة المتأججة، فثمة هذا الحب المفاجئ الذي أخذ عليها جميع مسارب الشعور؛ وثم خشيتها أن يفشل الفتى في الامتحان - إن يكن ثمة امتحان - وأخيراً إحساس قوي باللوم لهذا الأب المتعنت الذي لا يرضيه من الفتى ما رأى ورأى الجميع إلا أن يجوز الامتحان. وفي الحق لقد بدأ يخامر سلافته أن أباها إنما يصطنع هذه الأساليب الغريبة لينفر الخطاب وليبقيها عانساً يتأكلها الجوى ويغويها الحرمان. والمحب - كما تعلم - إذا أحب حباً قوياً فقد التمييز واختلطت عليه الأفكار، ولا عجب إذن أن تنتهي في أبيها الذي يعبدها إلى مثل هذا الرأي الغريب.
حل اليوم العاشر وأوشك أن يزول، فقام الأمير يوجه الحديث إلى فتانا وقال: أيها الفتى النبيل، هل أنت مستعد لامتحاني أن أنت تخشى العاقبة فتعود سالماً لا لك ولا عليك؟ فأجاب الفتى باختصار وحزم: إني لعلى استعداد. وعندها أقبل الأمير على قومه يخاطبهم: أهنئكم يا رجالي بوارثي العتيد وأهنئ نفسي. ثم التفت إلى الفتى وخاطبه: أهنئ بك سلافة وأهنئها بك. فلأنت خير من يستأهلها يا بني وهي خير من يستأهلك.
ووجم الجميع إلا سلافة التي برزت من وراء الخباء (إذ كانت جاءت خفية لتشهد المحنة) وخاطبت أباها عابثة أو كالعابثة:
أي أبت، كيف تتعجل وتسميني لهذا الفتى ولما يجز الامتحان بعد؟ فهلا أبقيت ذلك لنرى مبلغ همته ومقدار رجولته التي سيتكشف لنا عنها في ذاك الامتحان؟
فأجاب الأب، أي بنيتي العزيزة، لقد حاز فتاك الامتحان من حيث لا يعلم ولا تعلمين. جاءنا هذا الفتى الشريف مستبهماً لم يسم نفسه قط ولم ينتسب، ثم هو لم يحاول أن يدهشنا بثروته وجاهه وإن يكن له من ذلك الشيء الكثير (كما دلني على ذلك العيون وعيناي)، لقد جاءنا واثقاً من نفسه واثقاً أنه أهل لك دون أن يضيف إلى شخصه الأسماء الكبيرة والمال الوفير والدعوى العريضة. ثم ألم يبلغك كيف لم يعارض ولم يجادل فيما حاولنا أن نغمره ونحرجه به من وسائل الإكرام، شأن الخطاب الآخرين لنرى ما هو قدر نفسه عند نفسه؟ ولو كان رأيه في نفسه كرأيهم في نفوسهم وإن حاولوا الظهور بخلاف ذلك، لفعل فعلتهم وناله مثل ما نالهم. ولكن هو المحتد الكريم يأبى ألا أن يظهر ويستعلن. ثم أليس في سكوته دون الذي حاولنا من غمره بأسباب الإكرام ما يدل على أن فضيلة الكرم هي طبع فيه وسجية فلا يستهولها في غيره؟ أو لم يكن استهوال الخطاب الآخرين مظاهر الجود والكرم التي رأونا نغمرهم بها دليلاً لا يخطئ على أنهم ليسوا الكرام الذين يدعون؟ أليس المقل من المال أو الشحيح هو الذي يستكثر أعطيات الناس ومظاهر جودهم؟
ولم يبق بعد هذا التفسير من لم يقتنع بخطة الأمير الحكيمة وأسلوبه المبتكر في امتحان الرجال. وفي اليوم التالي عقد للفتى على فتاته بين أشد مظاهر الغبطة والحبور. وقضياها حياة مديدة هي السعادة والهناء.
أديب عباس