الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 164/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

مجلة الرسالة/العدد 164/من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع

مجلة الرسالة - العدد 164
من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 24 - 08 - 1936


لغة الأحكام والمرافعات

للأستاذ زكي عريبي

- 3 -

مطابقة المرافعة لمقتضى الحال

إن أهمها بلا شك هو مطابقتها لمقتضى الحال. فللإسهاب منها مواضع وللإيجاز مواضع. يجب استعمال اللفظ المجلجل مرة والسهل البسيط أخرى. يغلب المنطق هنا والعاطفة هناك حسب الظروف والأحوال.

وليس يستطيع هذا إلا المتكلم المصقع المتصل بالأدب بأوثق صلة، العالم بطبائع الناس العارف لمواقع الكلام، المتصرف في أنواعه المختلفة بما يريد ويشتهي.

كفايات صعبة بل شك، ولكنها لازمة أدرك الأقدمون ضرورة توفرها فيمن اتخذ الكلام صناعة. فكان محامو اليونان أفصح أهل زمانهم وأعلمهم. وسار الرومان في أثرهم فلم يكن لطلاب البلاغة في عهدهم غير ساحة القضاء يقصدونها للأخذ عن أئمتها وحاملي لوائها من المترافعين المبرزين أمثال أنطونيوس وهورتنسنس وشيشرون. ثم تجددت هذه الحال في عصر النهضة فكان على طالب المحاماة بعد الفراغ من دراسة الحقوق أن يتنسك أربع سنوات يقضيها متأملاً باحثاً قبل أن يقدم على المهمة المقدسة الكبرى - مهمة الدفاع.

وقد بلغ من إغراق الأسرة القضائية في ذلك العهد في التأدب أن أصبحت المرافعات والأحكام عبارة عن اقتباسات مكدسة من كتب اليونان والرومان تلوح بينها الألفاظ الفرنسية وتختفي.

بل إنك لتقرأ في أخبار ذلك الزمن أن باسكييه أشهر محامي القرن السادس عشر أورد في إحدى مذكراته بيتاً لاتينياً لم يشر إلى قائله ووقعت المذكرة في يد دىنو قاضي القضاة فلم يشأ أن يحكم في الدعوى حتى يعرف مصدر الشعر.

وبقي الاتصال وثيقاً بين الأدب والقانون خلال القرن السابع عشر والذي يليه. فأصبح من تقاليد المجمع اللغوي تخصيص أحد كراسيه لأبرع المحامين أدباً. وكان يشغل هذا الكرس في عصرنا الحاضر إلى عهد قريب النقيب الأشهر المرحوم هنري روبير.

وتجد مثل هذه الرابطة بين الأدب والقانون في إنجلترا، فكثير من أشهر أدبائها شغلوا كراسي القضاة أو لبسوا رداء المحاماة.

وقد بقيت لغة الأحكام والمرافعات في مصر سقيمة تافهة حتى دخل الميدان أمثال محمد عبده وحفني ناصف ومحمد صالح وقاسم أمين وسعد زغلول فرقوا بها إلى طبقات لم تكن تحلم بها.

وهذه الصلة ما زالت إلى اليوم معقودة يوثق عراها أعلام من أدباء العصر، فالدكتور هيكل كان محامياً، وفكري أباظة والدكتور مرسي محمود ولطفي جمعة محامون مشتغلون. وكان على رأس محكمة النقض والنيابة العامة أديبان لم تسعد اللغة القضائية حتى الساعة بخير من قلميهما.

لغة المحاكم إذن جزء من أدب كل أمة. ليس لها عنه غنى وله فيها كل الغناء.

لا غنى لها عنه لأنها من دونه ضئيلة عليلة مملة مسئمة.

وله فيها غناء لأنه يجد في ساحتها ميدانً مترامي الأطراف تلقى فيه الحقيقة بالخيال ويسعد قلم الأديب بمواضيع لا حد لكثرتها ولا تباينها. فمنها العظيم الفخم ومنها الصغير الدقيق. فيها الباكي المفجع وفيها الفكه الضاحك. الإنسانية كلها هنا، بأفراحها وأتراحها، بآلامها وأحلامها، بنبلها وضعتها، بخيرها وشرها. فالقلم الذي لا يجري في هذه الحلبة الواسعة خير له أن يكسر.

ولكن للغة المرافعات مع ذلك خصائصها ولها مميزاتها.

لغة المرافعة لغة حديث لا كتابة

إنها قبل كل شيء لغة حديث لا لغة كتابة.

وإن كان للحديث على الكتابة مزايا فإن له متاعبه وله صعابه.

فمن مزاياه أن المحدث يلقى السامع وجهاً لوجه؛ وفي استطاعته إذ يلقاه على هذه الصورة أن يستعين على إقناعه بلسانه وعينه، بصوته وإشارته، بحركته وسكونه، ببديهته ودقة ملاحظته، بل بما فيه من قوة مغناطيسية كامنة.

ولكن يقابل هذه المزايا أن المحدث مضطر بحكم طبيعة الموقف إلى الابتكار السريع والكلام المرتجل ومواصلة الحديث في غير توقف ولا تردد.

فكيف يجب أن تكون لغته؟

إن أولى صفاتها من غير شك بساطة التعبير.

بل قل إن هذا الشرط شرط ضرورة؛ فقد يملك الكاتب أن يستعمل اللفظ المنمق، وأن يحتال على المعاني البعيدة، وأن يطلق العنان للخيال فيواتيه بصور شعرية رائعة. ولكن شيئاً من هذا غير مستطاع ولا ميسور لمتكلم تكتنفه صعاب الارتجال، وتستحثه الحاجة الملحة إلى إفهام سامع يرمقه بعين تتسع انتظاراً قد ينقلب في لحظة إلى تململ أو سآمة.

صحيح أن الطبيعة لن توات جميع الناس بالبديهة الحاضرة التي تستطيع الكلام عفوا، فهم مضطرون إلى تحبير مرافعتهم ثم إلقائها. ولكن حتى هؤلاء يجب أن يكتبوا بغير اللغة المعدة للقراءة، إن عليهم أن يتصنعوا لغة الارتجال؛ وليس هذا بميسور إلا أن يحتذوا حذو محام نابغة يدعى فارير، تكلم عن طريقته في كتابة الممتع فقال إنه يرى صامتاً مفكراً مدى أيام كلما اعتزم الدفاع في قضية هامة، فإذا ما كان قبل الجلسة بقليل اعتكف في مكتبه ثم جلس للكتابة فأطلق العنان لقلمه لا يلوي على شيء مما يعني به الكاتب من فصل أو وصل، وبعبارة أخرى إن الرجل كان يترافع بقلمه في القضية متمثلاً أنه أمام المحكمة، حتى إذا فرغ طوى صحفه وقام عنها وقد رسمت هذه المرافعة المكتوبة في رأسه معالم واضحة توجه فكره إذا ما وقف للدفاع، وتقيه شر جموح الخاطر دون أن تمنع تدفق بيانه المطابق لمقتضى الحال.

العاطفة في لغة المرافعات

وليس أجمل في لغة المرافعات بل ليس ألزم من غلبة العاطفة فيها.

إن كلام المحامي ليبقى مجرد كلام لا طائل تحته حتى تغشاه عاطفة صادقة فتصبح له قوة السحر. وقديماً قالوا إن القول ينفذ إلى القلب إذا صدر من القلب. ولكن كيف السبيل إلى مثل هذا القول؟ ليس أعصى في موضوعنا من التعبير عما نقصد (بالعاطفة) هي لا شيء. وهي كل شيء.

يقف محاميان يطلبان الرأفة لمتهم، فيفوه أحدهما بكلام لا يعدو السمع. ويقول الآخر قولاً يهز القلوب هزاً.

كلاهما يترافع بالعربية. وكلاهما يستعمل كلمة الرأفة أو الشفقة. فكيف يتفاوت أثر مرافعتهما هذا التفاوت؟

فتش وابحث وسل علماء النفس ينبئوك بأن واحداً من الاثنين حساس يستشعر ما يقول ويتأثر به فتنتقل منه عدوى التأثر إلى الغير.

والتأثر لكي يكون له هذا الأثر يجب أن يكون صادقاً. وهو لا يكون صادقاً إلا أن يصدر عن يقين واقتناع.

وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الاقتناع يبدو لك صادقاً - وهو صادق بالفعل - في قضايا يستحيل على العقل أن يصدق أن كلام المحامي فيها وليد الاقتناع وليس في الأمر مع ذلك معمي.

ذلك أن المحامي القادر إذا ما أخذ على عاتقه المرافعة في قضية صعبة راح يفكر في صعوبتها ورائده الرغبة في التغلب عليها وتلح عليه هذه الرغبة وتلحف بقدر ما يستعصي المخرج ويبعد الحل.

ثم ينتهي الأمر بتذليل المحامي للعقبة أو اعتقاده أنه ذللها. وفي هذه الحالة الثانية تطغى الرغبة على العقل وتستعبده، وقد يكون جباراً قوياً يندفع بقوة الإيمان الصحيح.

جمعني وأستاذي الكبير مرقس فهمي قضية مخدرات كان المتهم الأول فيها رجلاً معروفاً. ولم يكن في القضية منفذ لإبرة لا من حيث أدلتها ولا من حيث أدبياتها. فالمتهم ضبط متلبساً بالجريمة ولم يكن له عذر مقبول من أي نوع. بل بالعكس كانت الأسباب تحتشد وتتضافر لأخذه بالشدة، فقد كان الرجل مثقفاً غنياً لا يشفع له جهل ولا مسيس حاجة. فجئت الجلسة وكلي آذان لسماع مرقس فهمي. ماذا يستطيع الأستاذ العظيم أن يقول في هذه القضية اللعينة؟ أي دفاع يتحسس وأي عذر يتلمس؟ جلست أترقب وأنتظر. وأخيراً وقف مرقس للكلام. فإذا به يهاجم هذا الحصن المنيع من أكثر نواحيه منعة وأقلها توقعاً للهجوم. أجل لقد أخذ مرقس القضية عنوة من ناحيتها الأدبية، متوسلاً بما لاحظه من أن التحقيق كان سرياً فيها وأن المحامين قد منعوا عن حضوره. وانظر إليه كيف يرقى بقضيته التاعسة من أعماق الحضيض إلى سماء الرفعة، يجعلها مثار الكلام على الضمانات التي يشترطها القانون لصحة التحقيق وقدسية مهمة المحامي. أنظر إليه كيف يبدأ هذا الدفاع المجيد وقل إن في مصر محامين:

(نحن المحامين نعالج آلام الناس ونرافقهم في شقائهم، ولهذا نرتدي الثوب الأسود ونقف في هذا المكان المنخفض. فإذا ما أعيانا التعب جلسنا على هذا الحجر الصلب فيزيدنا تعباً. فنحن حقيقة بؤساء، رفقاء البؤساء. ولكن برغم هذه المظاهر الخداعة فأن الذي في قلبه إيمان بالحق يرتفع من هذا المركز المتواضع إلى السمو الذي لا حد له. ذلك لأن عماده كله الحق، ولأن مأمورية المحامي تمثل حق الدفاع المقدس. والقداسة لا تحتاج لسلطة ولا تحتاج لمظهر قوة بل هي جميلة، جميلة بنفسها مهما كانت مظاهرها. مظاهر التعس والتواضع، ولأن المحامي مأموريته التي تسمو به إلى أقصى ما يعرف من معاني السمو هي أن يوجه ضمير القاضي وأن يحدثه فيما يصح أن يتجه إليه عدله. فحقيقة لا يوجد سمو آخر يمكن أن يتصور.

قلت هذا لا تفاخراً بموقف المحامي، لأن الذي يدرك واجبه ليس في حاجة - بل عيب عليه - أن يفخر، لكني قلته ليعلم حضرة القاضي أني أعاهد نفسي بألا أعرف لها كرامة إلا إذا تقدمت إلى ضميره بكلمة الحق، وفي هذا السبيل فليقفني في الكلام حضرة وكيل النيابة في الوقت الذي يريده. إلى أن قال:

(إن التحقيق ليس هو ما يكتب لا. لا. التحقيق هو أولاً وبالذات الضمانات، احترام الكفالات التي قررها القانون في حق المتهم. كيف تستجوبه؟ من هو الشخص الذي وضع فيه الشارع ثقته في أن يتلقى هذا المتهم المسكين وديعة في يده ليتصرف في شأنه، لعله يعنفه، لعله يخدعه، لعله يمنيه، لعله يخيفه أو يهدده. فحتى لا تكون قداسة القضاء مستندة إلى تلك الطرق المخجلة المعيبة قال المشرع إن المتهم في حماية النيابة وحدها، والمتهم أول ما تقر به النيابة تستجوبه في ساعات 24 ساعة. والمتهم إذا حبسته له ضمانه معينة. والمتهم يا سيدي القاضي لا يقابله أحد في سجنه حتى إذا أراد المحامي أن يقابله. المحامي ممثل حق الدفاع إن رأى أن يقابله ليأخذ سر هذا المسكين، لا يقابله إلا بإذن.

ولكن ماذا جرى في هذه الدعوى؟ جرى أن المتهمين جميعاً قذف بهم يا حضرة القاضي إلى هوة من النار).

ويذكرني تلمس مواضع الإحساس هنا بما يرويه هنري روبير عن سلفه العظيم لاشو إذ قبل أن يضطلع بمهمة الدفاع عن القائد بازين أمام المجلس الحربي الأعلى في قضية اتهامه بالخيانة العظمى في حرب السبعين. وكان مركز المتهم بالغاً نهاية السوء، والبلاد من أقصاها إلى أقصاها مرجلاً يغلي بالحقد على من سلم إلى العدو مائة ألف مقاتل بمعداتهم وأسلحتهم. فمضى لاشو يترافع ثلاثة أيام، وهو كمن يضرب في حديد بارد حتى أسعفه الحظ وقد أخذ اليأس منه كل مأخذ بسقطة لسان من النائب العام إذ وصفه في رده على مرافعته (بالمدافع عن المزورين وقطاع الطريق). وهنا وثب لاشو وثبة الأسد قد وخز بسكين. وعاودته قوته الهائلة بفعل الكرامة المجروحة، وانطلق بيانه الساحر من عقاله فأتى بما لم يسبقه إليه متكلم. واستطاع بعد دفاع مرتجل ملتهب أن ينقذ رأس موكله.

(يتبع)

زكي عريبي

المحامي أمام محكمة النقض والإبرام