الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 164/في النقد

مجلة الرسالة/العدد 164/في النقد

بتاريخ: 24 - 08 - 1936


بقلم داود حمدان

في الأسابيع الأخيرة كتب في (الرسالة) أساتذة كبار بحوثاً جليلة في النقد، توخوا منها شحذ همم النقاد، وحملهم على النقد المفيد الذي طالما كان عاملاً هاماً في نموّ الأدب وتمحيص العلم. وكان في كلام بعضهم كلام يوهم التعريض بأشخاص انبروا للدفاع عن أنفسهم، فكان لنا معشر القراء من ذلك فائدة ولذة.

وما كنت، وأنا من القراء، لأزج بنفسي بين الكتاب، لولا أن شيئاً مما كتبه الأستاذ إسماعيل مظهر في العدد 161 من (الرسالة) لم أفهمه، فجئت أستأذن (الرسالة) بنشر ما يقوم بنفسي حول هذا الموضوع، لعل الأستاذ يتفضل بتصحيح فهمي، فأكون له من الشاكرين.

يتساءل الأستاذ: (هل وضعنا للنقد قواعد يقوم عليها هيكله وتشيد من فوقها أركانه؟ ألنا في النقد مذاهب مقررة ينتحيها الناقدون؟ وهل لنا في النقد قواعد تحدد للنقد حدوده، وترسم تخومه، وتعين اصطلاحاته، شأن كل الأشياء العلمية والأدبية التي لها أثر في تطور العقليات والمعقولات؟).

ثم ينفي الأستاذ أن لنا في النقد مذاهب (وإنما اتبعنا إلى الآن في النقد طريقة ميزانها الذوق والشعور).

وفهمي الكليل لا يرى محلاً لهذا التساؤل، ولا يتصور كيف يكون للنقد قواعد ومذاهب، لأن النقد - كما أفهم أنا - شيء إضافي ليس له حقيقة مستقلة، ولذا يقال: نقد الدراهم، ونقد العلم، ونقد الأدب، وغير ذلك. وهو كل ذلك معناه التمييز والتمحيص ومعرفة الزائف من الصحيح.

ولما كان لكل علم وفن حدود وقواعد فهي هي حدود وقواعد للنقد، وليس للنقد بعدها حدود ولا قواعد.

وإنما للنقد شروط لابد من توفرها في الناقد قبل الإقدام على النقد: فأولها أن يكون الناقد عالماً بالشيء المنقود علم إحاطة لئلا ينقد شيئاً لا يكون داخلاً في حدود علمه. ولعل هذا ما حمل الأستاذ أحمد أمين على أن يعيب على النقاد أن ينتقدوا ما ليس من اختصاصهم، وذلك لأن عدم الاختصاص لا يتيح للناقد الإحاطة بالشيء المنقود. فناقد الدراهم مثلاً يجب أ يكون عالماً بماهية الدراهم ليستطيع نقدها، وناقد علم من العلوم يجب أن يكون عالماً بقضايا ذلك العلم واصطلاحاته، وناقد الأدب يجب أن يكون عالماً بأصول الأدب ومقاييسه ليستطيع تميز الصحيح من الفاسد، فمعرفة الصحيح من الفاسد في شيء ما، هي عبارة عن معرفة ذلك الشيء نفسه، ومن هذا يتبين أنه ليس للنقد حقيقة قائمة بذاتها ليوضع لها حدود وقواعد.

وثاني الشروط أن يكون الناقد حسن النية في النقد غير ميال مع الهوى بحيث ينظر إلى العمل من حيث هو عمل لا إلى العامل، فإن ذلك أدعى إلى العدل وأحفظ للسان من الوقوع في الإفراط في المدح أو الذم. وليس معنى هذا أنه لا يجوز مدح المحسن في عمل ما بما يستحق، فإن هذا كفران للجميل وقتل للمواهب التي ينميها التشجيع ويحييها الإطراء، وأما المسيء فيكفي بيان إساءته ووقف الناس على خطئه ما دام المقصود من النقد نفي الباطل وإقرار الحق.

وشرط آخر لناقد الأدب ونحوه من الفنون التي يكون للذوق فيها نصيب. وهو: أن يكون ذوق الناقد وذوق المنقود من بيئة واحدة أو متقاربة، وأن يكون المؤثر فيهما واحداً أو متقارباً ليكونا متقاربين لا متساويين فإن هذا مستحيل، فلا ينقد مشرقي مغربياً مثلاً في شيء تختلف فيه أذواق المشارقة عن أذواق المغاربة.

وشرط التقارب هذا يعتبر ضابطاً لا بأس به في الأدب ويكون الحكم بعد بين الناقد والمنقود الرأي الأدبي العام في تلك البيئة.

وإنما لزم هذا الشرط في الأدب لأن الأدب من ضمن عناصره الذوق والشعور فلا جرم يكون الذوق والشعور من عناصر النقد الأدبي، بيد أنهما لا يكونان كل ما في النقد الأدبي من شيء. وما دام الذوق والشعور غير محددين فمن المستحيل وضع قواعد وضوابط لهما، ولذا يكفي لقبول النقد القائم على الذوق تقارب ذوقي الناقد والمنقود.

وبعد، فقد ظهر - بحسب ما أفهم - أن قواعد النقد هي قواعد العلم والفن والأدب المنقود، وأنه لا يمكن وضع قواعد خاصة للنقد من حيث هو فن خاص، وإنما له شروط - والشروط غير القواعد - وهي لا تكاد تخفى معرفتها على أحد من كثرة ما نوه بها الكاتبون في هذا الموضوع.

أقول قولي هذا وأنا خجل من نفسي ومن الناس أن أناقش أستاذاً كبيراً في رأيه حول موضوع ليس لي من الخبرة به عشر معشار ما له، ولكنني أضع رأيي بين يديه ليدلني على مكان الخطأ منه، وليتفضل ببيان أوسع عن رأيه إذا بقي مصراً عليه ولحضرته مني الشكر الجزيل.

(اللد - فلسطين)

داود حمدان