مجلة الرسالة/العدد 162/هاجر العانس
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 162 هاجر العانس [[مؤلف:|]] |
مأساة من سوفوكليس ← |
بتاريخ: 10 - 08 - 1936 |
للسيدة وداد السكاكيني
تسألينني يا صديقتي عن كآبة (هاجر) ووجومها، وتتساءلين ملحة عن تجافيها وإيثارها العزلة والانفراد. إنك تريدينني على أن أفضي إليك بخبرها، وأصرح بما أعلمه عنها؛ ولاشك أن طلبك هذا يثير في نفسي ذكريات الطفولة ويحملني على أن أنحدر إلى أغوار الماضي، حين كنت أعرف هاجر في المدرسة تلميذة في صف الشهادة، وكم كان يشتد فرحي حين تدخل هذه الفتاة بيتنا في البكور لتأخذني معها، فإن عمتي أوصتها بمرافقتي إلى المدرسة، وكانت رحمها الله صديقة حميمة لأسرة هاجر
كانت تدق باب بيتنا دقات مستعجلة، فأبادر إلى صداري الاسود، وأعلق إلى جانبي محفظة كتبي بنجاد قصير، فإذا أسرعت هاجر في سيرها عدوت خلفها، فأتعثر بمحفظة كتبي التي تتدلى على جنبي أو على ظهري، وكنت لا أقف لاصلاحها حتى لا تتأخر هاجر عن ميعاد المدرسة فتحرمني مرافقتها في الطريق
وكان يعظم سروري حين تغيب معلمتنا العجوز الشمطاء ذات النظارة التي تربطها بالخيط إلى أذنيها وتحدرها إلى أرنبة أنفها فتطالعنا بنظرها المخيف من فوقها، كنت أفرح وأمرح حين تغيب هذه المعلمة الغاشمة فترسل إلينا المديرة (هاجر) كبرى تلميذات المدرسة لتحل محل المعلمة الغائبة، وتعلمنا الدرس فأزهو يومئذ وألهو، وألمس بأناملي رؤوس رفيقاتي اللاتي أمامي فيتلفتن وراءهن فإذا أنا صنم لا يتحرك
هذه صورة أولى لهاجر ما تزال في ذاكرتي جلية بينة؛ إنها كانت غضة الأهاب، أنيقة الثياب، ذات وجه أسمر مجدور، وشعر جعد أسود، قسمته ضفيرتين كثيفتين تنوسان على كتفها؛ وكانت صَناع اليد تغزل من الصوف أردية شتوية لأختيها سعاد ومليحة، وقد كان أبوها قاسياً جامداً ندم على تعليمها بعد أن حازت الشهادة، لكيلا يفتح العلم بزعمه قلبها وعينها، فحلف ألا يعلم أختيها
ومرت الأيام فإذا مليحة وسعاد فتاتان ناهدان، تلوح عليهما ملامح الجمال، وتبسم لهما الحياة والشباب، فراحتا تحلمان بالزواج، وقد خطرت للوالدين هذه الفكرة فتمنيا تحقيقها قريباً، وكانا يرتاحان لكل من يفاتحهما في خطبة الفتاتين؛ أما هاجر فكانت تضطرب أعصابها كلما رأت أبويها يسعيان لتوفير الزينة والدلال لأختيها، ولاسيما بعد أن رأياهما تستويان على عرش الأنوثة والجمال
ولا تسألي يا عزيزتي عن أحزان هاجر حين كانت تختصها أمها بتدبير المنزل والخياطة لأختيها، وإعداد ما تستطيع من الجهاز لهما، خشية أن تخطبا معا ويضيق الوقت عن تهيئة المعدات اللازمة في حياتهما العتيدة
وكانت هاجر تنمو آلامها وتشتد، وتحس الغصة تقطع نياط قلبها، وكثيراً ما خلت إلى نفسها، وتحدثت عن جدها العاثر عند والديها، فتلعن الجمال الذي بدا على أختيها، فحرمها الدلال وجعلهما تستأثران بعناية الأم واهتمام الأب
وأخذ شعورها يطغي على نفسها فلا تستطيع إلى كبته سبيلا، ولاح الوجوم في وجهها، وكان تفكيرها في دمامتها يبعث في روحها القلق والعذاب
كانت تناجي ربها حين تلجأ إلى فراشها وتحاول النوم فلا يرنق في عينيها، فتستعرض مظاهر الاهتمام بأختيها وإهمال أمها لها فتطفر الدموع من عينيها حزناً على حياتها الجافة البغيضة. وا رحمتاه لهاجر! كم كانت تتكلف الهناءة والهدوء أمام والديها وأختيها فتتظاهر بالانشراح لخطبتهما!
وكان لسوء مصيرها أن تلألأ حظهما وتكاثر الأخطاب، ففي عصر يوم جاء بيتهن ثلاث نسوة فاستقبلتهم الأم وهاجر بملابس البيت وأوعزت الأولى إلى سعاد ومليحة بأن تتزينا بأحسن ما عندهما من اللباس الجديد وتتضمخا بأزكى العطور، وما استقر المقام بالسيدات حتى أقبلت مليحة وسعاد وكأنهما عروسان ليلة الزفاف، فلما رأينهما بهرتاهن وعلقت بهن أنظارهن، فتجاذبن أطراف الحديث بسهولة وسرعة كأنهن صديقات العمر، وبعد قليل طلبت إحداهن من الفتاتين شربة ماء، ولم يكن بها ظمأ ولا حاجة إلى نقع غلة، بل كان مرامهن جميعاً، أن يرين انقلابهما بالمشي وانتقال أرجلهما على الأرض، وأن ينعمن النظر في طولهما وحركاتهما
كل هذا حدث وهاجر المسكينة جالسة إلى جانب أمها تنظر الحظ يضحك لأختيها ويقهقه، وتفكر في نفسها فترى حظها عابساً مكفهراً، ثم أخذت تطالع في عيون الخاطبات ومضات الافتتان والإعجاب بأختيها، فلم يسعها البقاء في الغرفة فخرجت منها خشية أن تهي إرادتها وتستحيل كآبة نفسها دموعاً كاوية فتفضح وجومها وآلامها
وآن ذهاب السيدات فقمن يودعن الأم والفتاتين بالسلام والتقبيل، فلثمن ثغري سعاد ومليحة ليشممنها فيعلمن إذا كانت فيهما رائحة تكره، وعانقنهما لينشقن إبطيهما لعلهما تعرقا، وهصرنهما إلى أجسامهن ليحسسن هل هو عظم جاثم أم لحم وهو لطيف، وكانت الأم والبنتان يشيعن الزائرات بمنتهى المجاملة والإغراء
كانت هذه الزورة المأنوسة يوم سعادتهن المشهود، فما أغلق الباب خلف السيدات حتى انثنت الأم إلى ابنتيها الجميلتين تدعو الله لهما بفتح البخت ومجيء النصيب السعيد، وأن يقيض لهما زوجين من أحسن الرجال وأغناهم، ثم سكتت إذ شعرت أنها استرسلت في الدعاء لهما دون هاجر فقالت وهي تشير إلى غرفتها وأنت يا (هاجر) الله لا ينساك يا حنونتي)!
بعد أسبوعين كنت ترين يا صديقتي في إصبعي سعاد ومليحة خاتمي الخطبة، وكنت أتردد على بيتهما لأساعد الأم وهاجر في إعداد الجهاز، أما هاجر الكئيبة فكانت ترنو بعينيها إلى الخاتم الجاثم في يد أختها فيحز في روحها الشعور المؤلم بالحقيقة الراهنة، فتجاهد حسها وتكابد العذاب في مغالبة ما تعانيه من قلق واضطراب لئلا يقال: إن غمامة من الغيرة والحسد تخيم على نفسها فتسيء إلى سمعتها، وبرغم ذلك كله كانت تنتابها من حين لآخر نزوات من السخط، فتدعي بأنها تبرم بأعمال البيت المرهقة واستعجال الأهل في تهيئة الجهاز بوقت حرج قريب
لقد تزوجت الأختان ويعلم الله كيف حضرت هاجر عرسيهما، إنها لم تسمع الغناء بأذن واعية، ولا أبهت للرقص، ولا ذاقت من صفوف موائد الحلوى
لم تحقد هاجر على أختيها وإنما كان في قلبها غضب على الأيام كالنار في الحشا تتمنى لو أن الله خلقها جميلة فاتنة أو خلقها ذكراً
أصبحت هاجر وحدها في البيت مع أمها وأبيها، وقد جاوزت الثلاثين فكانت تعيش في نضال دائم بين الأمل والقنوط، وتتساءل بحرقة وحيرة عما تتوقع من الأيام وهي تمر وشيكة عجلى، أيشفق الحظ عليها وإن تقدمت سنها، أتهيئ الأقدار لها حياة زوجية كأختيها؟ ألا يوجد بين الرجال من يؤثر جمال الخلق والنفس على جمال الجسم والوجه؟ فتزدحم في مخيلتها صور من الأحلام والآمال تكبح جماح نقمتها وتبعث في نفسها قليلاً من الاطمئنان، ثم تقوم إلى كتبها فتواسيها بحوثها وتسليها وتبحث فيها عن مآسي الحب والحياة، ولبثت ردحاً من الزمن تساورها الأماني برغم ما كان يبعدها من الواقع عن تحقيقها فتلمست في هذه الظاهرة الجديدة لوناً من العزاء والجمام
لقد صبرت هاجر بضع سنين انقلب عزاؤها بمرور الأيام ثورة نفسية أليمة جعلتها غريبة الأطوار قليلة الكلام، فأهملت العناية بألبستها وتسريح شعرها الذي عدا عليه الشيب كما أنها هجرت الاكتحال والصباغ وغارت عيناها وبرز جبينها المستدير وبدا في وجهها الشاحب ما يبدو للمراهق الطرير
عاشت هاجر البائسة في هذه الحقبة القصيرة يغمرها يأس عاصف وتصدمها الحقيقة الواقعة، ثم عبثت يد السآمة برغبتها في المطالعة فأعرضت عنها ونشدت السلوة في المتنزهات القريبة
كانت أمها تشهد اضطرابها وتديم التأمل والتفكير فيها، وتطالع في عينيها إمارات القلق والنقمة فتحس في نفسها عذاب الضمير لأنها كثيراً ما حالت دون خطبتها بشتى المعاذير، فكانت ترد أخطابها دون علمها؛ وكان هاجر إبان ذلك في ميعة العمر وريق الشباب، فأدركت الأم أن أنانيتها الحمقاء هي التي كانت تسول لها الازدراء بفتاتها الكبرى كلما أسرعت بها الأعوام حتى آثرت أن تبقيها عزبة لخدمة شيخوختها، ولولا أثرتها وإهمالها لكانت هاجر مثل أختيها زوجاً سعيدة وأما حنوناً
وطغى على روح الأم شعور الندم، وران عليها الغم والاكتئاب، فأحبت أن تكفر عن خطيئتها بتوفير الخدمة والمداراة لهاجر، وترغيبها في ممارسة التعليم الخاص في بيتها وزيارة صديقاتها
واستمرت السنون في سيرها فمات أبوها ولم يترك لها ما يؤمن معيشتها، وبقيت أمها عندها، أما أختاها فشغلهما عنهما الزوج والأولاد، وكان لكل منهما حماة غاشمة لئيمة، لا ترتاح لزيارة الأم والأخت لها، فأهملت المتزوجتان أمهما لئلا تعصف في بيتهما عواصف السوء والأحقاد
وفي جو هذا العيش الغائم الخانق كانت هاجر تناقش نفسها في مصيرها فرأت من الحكمة وفصل الخطاب أن تحترف التعليم فعينت في المدرسة التي نشأت فيها وثقفتها
كان بين هاجر العانس ومديرة المدرسة دالة ومودة، فكانت تستشف في أحاديث هاجر حسرة ومرارة وتبرما بتكاليف الحياة، فتنفس عنها - بعطفها ولطفها - بعض ما يحتدم في نفسها من ضيق وانقباض
وعهد في المدرسة إلى هاجر بتعليم العربية لبعض الصفوف الابتدائية، فكانت شديدة العناية بتعويد التلميذات حسن الإلقاء وتجويده، وكلما آنست منهن تقدما ونجاحاً أوصتهن بالمثابرة على لهجتهن التي أخذنها عنها، إذ كان أملها القديم الذي غدا أوهن من بيت العنكبوت يعاودها الفينة بعد الفينة، ويوقظ فيها ما رقد من رجاء في الزواج، فتقول للتلميذات: حافظن على لهجة الإلقاء فربما لا أعود إليكن في العام القابل
جالت المديرة مساء يوم أرجاء المدرسة وراقبت صفوفها، فوقفت بباب صف سمعت فيه لغطا ولغوا، فاقتحمته وهي تظن أن ليس ثمة معلمة فيه، وشد ما شدهت حين رأت هاجر تحدق بنظرها في الأفق البعيد دون أن تتنبه لوجودها
تقدمت إليها المديرة بلطف وابتسام، وسألتها: فيم تفكرين يا هاجر؟ فأجابت: إنني أتأمل هذه الطفلة الجالسة ههنا، وأشارت إليها ثم أردفت قائلة:
انظري يا سيدتي مآسي الدهر ومهازله؛ إنني أفكر في أم هذه الطفلة، فلقد كانت تلميذتي!.
(دمشق)
وداد سكاكيني