مجلة الرسالة/العدد 162/في النقد أيضا
→ بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق | مجلة الرسالة - العدد 162 في النقد أيضا [[مؤلف:|]] |
شعراء الموسم في الميزان ← |
بتاريخ: 10 - 08 - 1936 |
ً
بقلم محمد مظهر الجلاد
إلى الأساتذة الأكابر:
كان للفصول التي كتبتموها في النقد أثر كبير في كشف غوامض العلل التي أصابت الأدب والنقد معاً، وما أراني تكلفت الصبر في شيء كما تكلفته في انتظار (الرسالة) حين كتابة هذه الفصول. وإني لها لعلى انتظار واشتياق
كتب الأستاذ الزيات مقالين في (الرسالة) افتتح بأحدهما باب النقد واختتمه بالآخر، وكانت بينهما معركة، وكانت بينهما نفحة من نفحات النصر الجميل تخطَّر لها الأدب، وانتعش بها النقد، والتذت بها الفكرة؛ حتى إذا تمتع الطرف، وأرهف الحس وثارت العاطفة علا هُتاف الإلهام يقول: ألا إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها
كتب الأستاذ أحمد أمين مقالين ألقى فيهما مسؤولية النقد على الشيوخ ردَّ في غضونهما الدكتور طه حسين على الأستاذ الأمين؛ ثم كتب الدكتور هيكل فصلاً رمى فيه تبعة النقد على الشباب، ثم ختم الأستاذ الزيات مقاله قائلاً: (الحق إن ركود الأدب وفوضى النقد لا يرجعان إلى الشيب ولا إلى الشباب، وإنما يرجعان إلى تهريج الصحف وكسل الكتاب)
وأنا لا أجد بأساً من التعليق المجمل على ما كتبه السادة الأدباء في هذا الموضوع، لا لأني سأزيد على ما كتبوه شيئاً لم يكن، وإنما هي كلمة الأستاذ الزيات أثارت في نفسي شيئاً حملني على الكتابة، ووجدتني مضطراً إلى التعبير عن هذه الثورة، وألجأتني إلى الخجل والاستحياء من أساتذتي الكرام، حيث كتبت فيما يكتبون، في حين أن البون شاسع بيني وبينهم؛ غير إني لم أنس أيضاً أن للتلميذ حقاً كما أن للأستاذ حقاً، ولكل منا مقام
أبدع الأستاذ الأمين فيما كتب؛ غير أني أعتقد أن علة النقد ترجع إلى أساسين اثنين: أحدهما العلم، وثانيهما الخُلُق. فأجاد هو في شرح أكثر الأول، ولا أدري علامَ أرجأ الثاني. إنه سطوة الهوى، وفتنة الغرور، وغلبة العاطفة
إن الأدب والذوق والعلم عدة النقد الكافية، وإن هذا الأدب والذوق والعلم ليثقف العقول ويرهف المشاعر، وإن هذه العقول وهذه المشاعر لتبدع النقد، وتجيد التمحيص، وتعرف موضع الداء والدواء. وبقي أن نعرف أن هذه الملكة الأدبية الصافية قد تتحوّل ع أحياناً أو أبداً إلى ملكة نفسية تتصرف بالقلم لا كما يشاء الأدب والفن، بل كما يشاء الغرور وكما يريد الهوى
ليت شعري أي رجل من الرجال يتقلد مفاتح النجاة من حق فاضح، وحكم صحيح، ونقد نزيه، ثم لا يفر من خصمه بأي أساليب الحيلة شاء، وبأي ضروب القول أراد، إذا لم يؤت سَعَة في الصدر وقوة في الخُلق ترغمه على قبول الحق مهما يكن مُراً؛ ولاسيما من أوتي قوة الجدل المنطقي والحوار اللانهائي
أين ذلك الخُلق الذي يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة: هناك ناس يخبطون في النقد خبط عشواء، فلا يحملون في نفوسهم غير الضغينة، ولا تعرف ألسنتهم غير البذاء. وكم يتعجرف هؤلاء وكم يجدون لأنفسهم من مكانة، ولأدبهم من شعر وفن وجمال، ولنقدهم الصحة والدقة والذوق؛ فهم يتطاولون ليجثموا فوق القمر، ويجلسوا على النجم، ليكون للناس منهم نصيب وافر وحظ عريض
وهناك من ينقد عن بصيرة وعلم، فهو يفتش عن علل العيب في خصمه، لا لينقده ويرشده إلى الصواب، بل ليحط من قدره وينال من كرامته. فأنت تجد في نقده الصحة والذوق والسمو، ولكنك لا تجد طهر السريرة ونزاهة النقد. على أن هناك أساتذة أدباء وهبهم الله العلم والذوق والخُلق الجميل يكتبون بلغة الناس وروح السماء، لا تكاد تقرأ لهم شيئاً حتى تخال نفسك طائراً ملائكياً يسبح في عالم الجمال، فيه الملائكة والروح تتنزل بإذن الله على من يشاء من عباده
لابد من الأخلاق في هذا الموضوع إذن، وإنها لمن أكبر ضروراته وأعظم مميزاته؛ وأنا أعرف أن النقد شيء والخلق شيء آخر، ولكن شدة الصلة بينهما وقرب الوشيجة دعواني لربط أحدهما بالآخر، وما أرى أن أحداً ينكر عليَّ هذا
وأرى أيضاً أن في النقد الحاقد المشوه هدماً لكيان أمة برمتها وسبباً من أسباب الأحن الفتاكة التي تكبر وتكبر حتى لكأنها دولة فيها الجند والأسطول والمدفع والغاز لا تهدأ إلا لتثور، ولا تخمد إلا لتستقر، وهكذا دواليك
لعل قائلاً يقول: إن النقد اللاذع يبعث على النضج الأدبي السريع إذ تشحذ الأذهان، وتبرى الأقلام، وتلتهب الغيرة، ولن يتاح هذا الإنتاج السريع بهدوء النفس وفتور المشاعر، فنقول له: إن ما يخسره الأدباء من الصلة الأدبية بينهم وما يكون من اجتماعاتهم وروابطهم حيث تعطى عصارة الرأي وناضج الأدب وصرف الجمال، أكبر من الربح السريع فيه معاني التجزئة، وحقيقة التشويه، وذل الأمة
النقد النزيه وحده كاف لأن يكون أثراً فعالاً وقوة ريّضة لإيقاد الشعور وتحفيز الهمة. ولِمَ لا وقد يجد المنقود في النقد النزيه أخاً يجادله في حب، ويناظره في لين، ويكاتبه في ابتسام وسرور. وكم يجد لعزائه من سلوة حينما يجد ناقده النزيه يكشف له عن عيبه في رقة وعن خطئه في إشفاق. ولا تنس أن ذكر المحاسن في النقد والتماس التشجيع في امتداح الجودة وشكر الجميل وسيلة كبرى في نشر الثقافة ورقي الأدب وانتصار النقد
قد يحجم أكثر المتأدبين عن النقد ويركنون إلى الدعة والراحة إذا ما رأوا كاتباً من الكتاب يحترق في لهيب النقد الغاضب راضين من الغنيمة بالإياب، وتلك هزيمة منكرة تشنها الفوضى الأخلاقية على العقل والعلم والأدب والنقد جميعاً، كما أني لا أقصد الإفراط في التلطف والشكر على قبيح يشوه حقيقة النقد من أجل رعاية الخلق والأخلاق. لا. وإنما أريد الاعتدال والنصفة، حيث يلتقي كلا الخصمين على شاطئ الإخاء يقودهم الأدب إلى حيث اللقاء الدائم والصفاء المستمر
محمد مظهر الجلاد