مجلة الرسالة/العدد 162/بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق
→ خواطر في السياحة | مجلة الرسالة - العدد 162 بمناسبة المهرجان الألفي لأبي الطيب في دمشق [[مؤلف:|]] |
في النقد أيضا ← |
بتاريخ: 10 - 08 - 1936 |
2 - دين المتنبي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
للأستاذ سعيد الأفغاني
أنتقل الآن إلى الكلام عن اعتقاد أبي الطيب، وهو الموضوع الذي زلت فيه أقدام كثيرين، إما لميل إلى الرجل أو عليه، وإما لاكتفائهم من البحث بأدنى نظرة، وتعلقهم مظاهر من القول دون نفاذ إلى حقيقته ولا تطلع إلى ما حف به من قرائن. والحيطة في هذا ضرورية لمن يريد استنباط أمور من الشعر العربي وخاصة في عصر كعصر أبي الطيب فشا فيه المدح والغلو والتلاعب بالألفاظ، وأصبح كل مادح على مذهب ممدوحه في الأغلب، فإن كان شيعياً أشاد الشاعر بسراة الشيعة ورفع من مقالتهم، وإن كان يقول بالتناسخ مال الشاعر إليه، وان كان معتزلياً أو سنياً فالشاعر معتزلي أو سني. . وهكذا دواليك
فشت هذه الظاهرة من النفاق في الناس وكانت أشد ما تكون في الشعراء، حتى لقد شهد المعري عليهم وعلى عصرهم بذلك؛ وحسب التاريخ شهادة شيخ المعرة، فقد أيدها بالدليل، وأرسل فيها قولاً حكيما يعرف رشده وصوابه كل من أمعن الفكرة، ولم يكتف بالنظرة. قال بعد أن ذكر تنبؤ أبي الطيب والأبيات تدل على تألهه:
(وإذا رجع إلى الحقائق فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق، ويحتمل أن يظهر الرجل بالقول تديناً وإنما يريد أن يصل به إلى ثناء أو غرض؛ ولعله قد ذهب جماعة هم في الظاهر متعبدون وفيما بطن ملحدون. وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع وإنما غرضه التكسب؛ ولا أرتاب في أن دعبلاً كان على رأى الحكمي وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشئة.)
وقال في موضع آخر: (وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصل به إلى الدنيا الفانية، وكان لهم (يعني القائلين بالتناسخ) في المغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين فكان يغلو في مدح المعز غلواً عظيما حتى قال فيه وقد نزل بموضع يقال له رقَّادة:
حل برقَّادة المسيح ... حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي ... وكل شيء سواه ريح
فمن الضلال البين إذن أن نلزم أبا الطيب عقيدة ذكرت في شعره عرضاً، إلا إذا صحبتها قرائن تقويها وتدل على اعتقاده إياها. وليس من الصواب في شيء اعتبار الشعر - وحاله ما بيّنا - مصدراً من مصادر التاريخ وما أجهل المؤرخ إذا حكم على أخلاق سيف الدولة أو كافور بشهادة شعر المتنبي فيهما
بهذا الحذر أخوض الكلام في اعتقاد المتنبي مع علمي بأنه لم ينظم شيئاً يبين فكرته في الدين خاصة، وإنما هي أبيات وقعت في جملة شعره، بوسع المؤرخ أن يستأنس بها بعد أن يدرس سيرته
جاء في خزانة الأدب للبغدادي كلام عن اعتقاد أبي الطيب منقول عن الأصفهاني وهذا نصه:
(وهو (أي أبو الطيب) في الجملة خبيث الاعتقاد؛ وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوّسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون، وقوله:
هون علي بصر ما شق منظره ... فإنما يقظات العين كالحلم
مذهب السوفسطائية. وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
مذهب التناسخ. وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا ... نعاف ما لابد من شربه
فهذه الأرواح من جوه ... وهذه الأجسام من تربه
مذهب القضائية. وقوله:
فإن يكن المهدي من بان هديه ... فهذا، وإلا فالهدى ذا، فما المهدي؟!
مذهب الشيعة (كذا). وقوله: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل: تخلد نفس المرء باقية ... وقيل: تشرك جسم المرء في العطب
مذهب من يقول بالنفس الناطقة. ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية، والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه وأسلمه الله عز وجل إلى حوله وقوته وجد في الضلالات مجالاً واسعاً، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحاً.) اهـ
فأبو الطيب في رأى هذا الفاضل: سوفسطائي، تناسخي قضائي شيعي حشيشي. . مجموعة مذاهب لو فُرقت على مملكة عريضة لخربتها في يومين؛ فما الحال إذا اضطلع بها كلها قلب رجل واحد؟
على أن الشواهد التي استند إليها في أحكامه هذه لا تحمل ما حمّلها: فالشاهد الثاني (تمتع من سهاد. . البيت) ليس فيه ما يصرح بالتناسخ. وقوله: (فإن يكن المهدي. . .) يخرجه من الشيعية إخراجاً، لأنه شك في المهدي أول البيت، ثم جعل ممدوحه هو المهدي إن كان هناك مهدي، ثم ختم البيت بهذا الاستفهام التهكمي: ما المهدي!!؟
وإن دل الشاهد الأخير (تخالف الناس. . البيتين) على شيء فعلى تردد أبي الطيب بين القولين وعلى شكه وحيْرته بدليل البيت الذي بعدهما:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب
والذي استفدناه من كل ذلك أن المتنبي وقع في حداثته إلى رجل من المتفلسفة فهوّسه وأضله، والظاهر أن أثر هذا الأستاذ كان في أبي الطيب بالغاً، فقد بقي ضعف العقيدة وعدم الاعتداد بآداب الدين ملازماً أبا الطيب حتى مات
ومهما يكن فقد ألم المتنبي بكثير من النحل الشائعة في عصره دون اعتقاده بواحدة ما. وذكر بعضها في شعره منزّلة خير تنزيل: مدح طاهراً العلوي مرة فقال:
إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجة للنواصب
والنواصب الخوارج الذين نصبوا العداء لعلي
وذكر المانوية أصحاب الاثنين الزاعمين أن الخير كله من النور وأن الشر كله من الظلام فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبّر أن المانوية تكذب وعرض لذكر المجوس ومذهبهم في نكاح الأخوات حين أراد الثناء على حسن امرأة ود أخوها لو كانت تحل له لفرط جمالها فقال:
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثَمّ أرق منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده ... أن المجوس تصيب فيما تحكم
ووقع في شعره ذكر كلمة يصح أن يتعلق بها من يريد جر أبي الطيب إلى طائفة ما، وهي كلمة (الوصيّ) في قوله:
هو ابن رسول الله وابن وصيه ... وشبههما شبهت بعد التجارب
وقوله:
وتركت مدحي للوصي تعمداً ... إذ كان نوراً مستطيلاً شاملاً
وقد فرغت من بيان أن مثل هذا لا يدل على شيء، ولا ينهص دليلاً ولا بعض دليل، لجريان عادة الشعراء بمجاراة الممدوح في عقيدته ورأيه
وبعد، فإن لم يكن للحكم على دين المتنبي مجال في شعره، ففي تلك الشناعات القبيحة التي زجه فيها الغلو في المدح حتى قل أدبه مع الله ومع رسله وكتبه، حين زعم لممدوحيه علواً يرفعهم إلى ذلك المستوى. والمدح متى جاوز الواقع فهو محظور في كل الأديان فكيف إن بالباطل وإلى التغالي. دع ما يريق من ماء وجه المادح وما يكسر من عزته ويضيع من كرامته. ومتى كان مسلما من لا حياء له ولا عزة ولا كرامة؟
وودت والله لو أن شعراءنا هجروا هذا الباب، باب المديح، مرة واحدة بمحاسنه ومقابحه، وشغلوا عنه بغيره من فنون القول الواسعة، فما هو بالفن المشرف ولا المأسوف عليه إن فقد. وقد حفظ الأدب العربي كثيراً من المبالغات الممقوتة والغلو الشنيع، ولكن ما في ديوان أبي الطيب وحده هو بكل ما في مكتبتنا قبحا وشناعة وإساءة أدب:
مرة يحاول السجود لممدوحه فلا يكفه إلا الزجر:
طلبنا رضاه بترك الذي ... رضينا له فتركنا السجودا
ومرة يشرك هذا الممدوح بالله فيقول:
ما يرتجي أحد لمكرمة ... إلا الإله وأنت يا بدر
ويقول: ترى القمر والأرض والملك الذي ... له الملك بعد الله والمجد والذكر
ويقول:
إذا بقيت سالما أبا علي ... فالملك لله العزيز، ثم لي
ويقول:
أنا مبصر وأظن أني نائم ... من كان يحلم بالإله فأحلما
ويقول:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدنا
يعني الله سبحانه. ويستخف تارة بالمصطلحات الدينية استخفافا ظاهراً فيقول:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وقد أرادوا تأويل هذا البيت فكان التكلف والتعسف ظاهريْن في تأويلهم. وقال:
وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربك والسلام
وجعل ممدوحه أعظم معجزات النبوة في قوله:
وأبهر آيات التهامي أنه ... أبوك وأسمى مالكم من مناقب
وهو لا يرى لممدوحه شبيها أبداً فيقول:
لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبداً وظني أنه لا يخلق
ويقول:
إن كان مثلك كان أو هو كائن ... فبرئت حينئذ من الإسلام
وانظر هذا الغلو الممقوت في قوله:
لو كان علمك بالإله مقسما ... في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهمُ ما أنزل ال ... قرآن والتوراة والإنجيلا
وفي قوله:
أو كان صادف رأس عاذر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
يا من نلوذ من الزمان بظله ... أبداً ونطرد باسمه إبليسا
وهذا الهذيان ما معناه؟ يأيها الملك المصفى جوهراً ... من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لا هو تِيُّهُ ... فتكاد تعلم علم ما لن يعلما
وهو حيناً كالمسيح (ما مقامي بأرض نخلة. . . البيت)
وحيناً كصالح (أنا في أمة. . . البيت) ولا يخجل بعد هذا الادعاء أن يضرع إلى من سجنه بهذه العبودية:
أمالك رق ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
هو من حداثته مهوس مضلل لم يستنر قلبه بنور عقيدة، ولا شعر صدره ببرد يقين. فلم ينشأ تنشئة دينية في صباه، ثم طرح إلى هموم الحياة وأتعابها فاضطر إلى التكسب بالمدح من صغره، وشغل عن عبادة الله والتدين بعبادة الناس والمال لهذا السبب، لا (لأنه صاحب مطامع دنيوية وعقل موكل بالأعمال والوقائع لا بالعقائد والعادات) فليس هناك تناف بين التوكيل بالأعمال والتدين، ولم يخل المتدينون يوماً عن مآرب ومطامع في هذه الحياة
وهذا وليس للمتنبي فلسفة إلهية حتى نقول إنه استهان بالدين تفلسفا؛ وليس لعقله ما لعقل أبي العلاء من مواهب تؤهل صاحبها للنظر والحكم في المقالات والمذاهب، بل هو في هذا الاستخفاف الذي نم عليه شعره لا يترفع كثيراً عما نرى عليه بعض العامة المستخفين
كان إلى جانب المحن والثورات الداخلية التي منى بها المسلمون في القرن الرابع غارات أجنبية متواصلة تشن على ثغور المسلمين؛ وكان أمراء العرب في تأهب مستمر لرد هذه الغارات فيظفرون تارة وتارة يغلبون، وسيف الدولة أحد هؤلاء الأمراء الذين أصلوا الروم بنيرانهم وشغلوا برد غاراتهم
ونزعة الحروب في الشرق - قديما وحديثا - دينية أبداً ما تغيرت يوما من الأيام، إلا أن الروم كانوا في القرن الرابع الهجري صريحين، لم يهتدوا بعد إلى هذا الطلاء الكاذب الذي أسموه تمدينا بعد عشرة قرون
وشاعرنا أبو الطيب شارك سيف الدولة في جهاده الديني فقاتل بجسمه وتعرض للخطر، وناضل بلسانه. وفي شعره من مواطن الغيرة على الدين وأهله من تسلط الروم ما يحمل المنصف على عدها في حسناته، كان يرى هذه الحروب كما كان يراها غيره من أهل زمانه وكما هي في الواقع - دينية لا قومية، وهذ1 هو الفارق بينها وبين حروب سيف الدولة مع خصومه من الأمراء. فكانت قصائد أبي الطيب التي يصف فيها هذه الحروب تطفح بالحمية الدينية والنزعة الإسلامية، فهو يثني على سيف الدولة الذي هزم الدمستق وأنقذ المسلمين من إكراه الروم لهم على الردة فيقول:
فخرُّوا لخالقهم سجداً ... ولو لم تغث سجدوا للصُلُب
ولم تعجبه هدنتهم مع الروم فقرعهم ومدح سيف الدولة لتدينه فقال:
أرى المسلمين مع المشرك ... ين فإما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب ... قليل الرقاد كثير التعب
ومن هنا تلقيبه سيف الدولة بسيف الرب وسيف الدين في أقواله:
أيا سيف ربك لا خلقه ... ويا ذا المكارم لا ذا الشطب
يا سيف دولة دين الله دم أبدا ... وعش برغم الأعادي عيشة رغدا
يا سيف دولة ذي الجلال ومن له ... خير الخلائف والأنام سميا
خضعت لمنصلك المناصل عنوة ... وأذل دينك سائر الأديان
ونعته بنفرته الشديدة من الردة وتعلقه بالإسلام فقال:
كأن سخاءك الإسلام تخشى ... إذا ما صلت عاقبة ارتداد
وهو رجاء الإسلام والموقي من الرحمن ونصير التوحيد:
ولست مليكا هازماً لنظيره ... ولكنك التوحيد للشرك هازم
هنيئاً لضرب الهام والمجد والعلا ... وراجيك والإسلام أنك سالم
ولمْ لا يقي الرحمن حديك ما وقى ... وتفليقه هامَ العدا بك دائم
أبو الطيب يذهب أبعد من هذا: لا يكتفي باستنكار سلطان الروم على قومه، بل يأنف لهم أن يحكمهم مثل كافور، وإن كان مسلماً مثلهم، ولا يرضيه سكوت الناس عليه؛ ويغضبه أن يعظموه فيصرخ فيهم هذه الصرخة ويعرض بأم كافور:
نُوَببيّة لم تدر أن بنيها ال ... نوبي دون الله يعبد في مصر
ثم يرسلها ملعلعة تتنزى بالألم والحسرة والأسف على ما صار إليه الإسلام فيقول:
سادات كل أناس من نفوسهم ... وسادة المسلمين الأعبد القزم
رحم الله أبا الطيب! ما تراه كان قائلاً لو بُعث اليوم فشاهد ما نشاهد! إذن لرأى هؤلاء الأعبد القزم شرفاء قياساً إلى غيرهم، بل أنبياء
لصاحبنا إزاء ما تقدم من أبيات يأباها الدين والعقل، أبيات أخرى هي من صميم الدين وروحه، يتقاضاني الإنصاف ذكر شيء منها كما ذكرت تلك، فقد نص في بعضها على أنه لا يخضع لمخلوق أبداً
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكما
وقد جعله أبو العلاء بهذا البيت من المتألهين. ويعترف بتصرف الله المطلق في الكون:
ألا إنما كانت وفاة محمد ... دليلاً على أن ليس لله غالب
وأن الله هو الملحوظ في كل فعل وحركة:
فأنت حسام الملك والله ضارب ... وأنت لواء الدين والله عاقد
وهذا البيت ينظر إلى قول الله مخاطباً نبيه: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وهو يجعل شكر الله واجباً في دوام النعمة حين قال في ممدوحه:
مقلداً فوق شكر الله ذا شطب ... لا تستدام بأمضى منهما النعم
وكما أبى قبول الحكم من غير خالقه أبى الشكوى إلى الناس وهذا غاية ما يأخذ به الموحد نفسه:
ولا تَشَكّ إلى خلق فتشمته ... شكوى الجريح إلى الغربان والرخم
ولنذكر أن صاحب دمشق وكان يهودياً يعرف بابن ملك حمل المتنبي على مدحه فأبى أنفة، وكذلك فعل مع ابن كيغلغ وكان رومياً
هذا ما رأيت في شعر أبي الطيب من تعلق بالدين سلباً أو إيجاباً، ذكرته على حقه بحرية وصراحة. أما سيرته العملية فقد ذكروا له أخلاقاً يحمده عليها الدين وهي عفة المذهب والصدق. وقد كان المتنبي - كما ذكروا - لم يؤثر عنه فسوق قط. وقوله
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها. . الخ
صحيح كل الصحة في الدلالة على عفته، فقد أيدته سيرته طول حياته. وكذلك في التزامه جانب الصدق:
ومن هوى الصدق في نفسي وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب
ثم ذكروا له خلالاً ثلاثاً دلت على أن الرجل لم يأخذ نفسه بشيء من التكاليف الشرعية، أي لم يكن مسلماً بالعمل. قال أبو حمزة البصري:
(بلوت من أبي الطيب ثلاث خلال محمودة: هي أنه ما كذب ولا زنى ولا لاط، وبلوت منه ثلاث خلال مذمومة وهي أنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن.)
فإذا أضفت إلى ذلك ما تعرف في سيرته من البخل والتعاظم وسلاطة اللسان، وأن له في القذف فحشاً ما عرف أقبح منه ولا أدنس، استقام لك من كل ما قدمت رأي لعله أن يكون أقرب الآراء من صواب
وأنا لست أقول فيه ما قالوا من أنه: (خبيث الاعتقاد قد خلع ربقة الإسلام) ولا أتكلف له التأويل والمحال، فقد قدمت الإشارة إلى بطلان المذهبين معاً
ولكني ألاحظ أنه شاعر، والشاعر كثيراً ما يبيع دينه بدنيا غيره، فإن خرج على الإسلام في غلوه فما قصد إلى هذا الخروج قصداً، وإنما أراد الزلفى عند الممدوح، فأداه الغلو إلى الخروج
وليس من الحق أن نحكم على آخرة رجل بنزوة كانت منه في الحداثة، أو حماقات صدرت في فترات من حياته. ومن ذا زعم أن أبا الطيب كان يعتقدها اعتقاداً حتى نجعله بها صاحب مذهب في الدين، وقد علمنا أن عقله لم يفرغ لهذا قط؛ فمن سره أن يجر النوابغ المشهورين إلى طائفة بالسلاسل والأغلال، يكثر بهم سوادها فما أراني مضطراً إلى شيء من هذا، وقد فرغ أهل البصر من هلهلة هذه الطريقة التي سلكها بعض المؤلفين الحديثين في كتب التراجم جهلاً وعصبية، فما هي إلى علم ولا إلى أمانة. والحكم على دين رجل أبعد منالا من أن يكتفي فيه بورود اسم هذا الدين في كلامه، فما بالك إن كان ذكره له مجاراة أو حكاية أو ردا أو شتيمة؟
وقد ذكر المتنبي في شعره هذه الديانات: المانوية، المجوس، اليهود، النصارى. . . الخ أفيستقيم في هذا الزمان أن ينهض منتسب إلى العلم فيعد أبا الطيب مانوياً أو مجوسياً؟
إن العلم والأدب أمانة، فلينظر قارئ في كتاب ما ترك مؤلفه من عقله وأمانته وما أخذ
أما أنا فأستطيع الآن بعد ما قدمت من بحث تحريت فيه بجهدي، ودعمته بما رأيت من برهان أن أرسل كلمتي مطمئناً في دين أبى الطيب فأقول:
آمن لسانه وتخلف عمله، ولم يكن الدين همه يوما من الأيام (دمشق)
سعيد الأفغاني