مجلة الرسالة/العدد 160/بين عالمين
→ مقتل أبي الطيب المتنبي | مجلة الرسالة - العدد 160 بين عالمين [[مؤلف:|]] |
دانتي ألليجييري والكوميدية الإلهية ← |
بتاريخ: 27 - 07 - 1936 |
نظام الطلاق في الإسلام
(بقية المقال المنشور في العدد السابق)
للأستاذ أحمد محمد شاكر
هذا عن الدليل على وجوب الإشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وأما الدليل على أنه شرط في صحتهما، وأن من طلق أو راجع بغير إشهاد فقد بطل طلاقه وبطلت رجعته، ولم يصح واحد منهما - فان الطلاق عمل استثنائي صرف، يخالف القواعد العامة في العقود والفسوخ، وكذلك الرجعة، لأن كلا منهما تصرُّفٌ في عقد بين اثنين، يقوم به أحد طرفي العقد وحده، وهو الرجل من غير اختيار أو مشاركة له فيه من الطرف الآخر، وهو المرأة، أَذِنَ بهما الشارع الحكيم، في حدود معينة، وبنظام خاص، وليسا مما يملكه الرجل وحده بطبيعة التعاقد، لأن الزواج عقد كسائر العقود، لا يملك أحد طرفي العقد التصرف فيه بالإلغاء أو الإنهاء وحده، لولا ما أذن به الله للرجل من حق الانفراد بالطلاق؛ وكذلك الرجعة، هي إعادة للعقد الذي نسخه الرجل وحده بما جعل الله له من الحق في ذلك، وهي إنما يملك الرجل الانفراد بها - دون الطرف الثاني من العقد - بما أذن الله له فيها، ولو لم يأذن الله بالطلاق وبالرجعة للرجل، لم يكن له أن ينفرد بواحد منهما من غير رضا الطرف الآخر في العقد
وقد أذن الله في شريعته للرجل بالاستقلال بإيقاع الطلاق، وبالانفراد برد المطلقة إلى عصمته، بصفات معينة، وفي أوقات خاصة، فتكون كلها شروطاً في صحة ما يفعله المطلق حين طلاقه، والمراجعُ حين رجعته. فإذا تجاوز الصفات التي رُسمت له فيهما، أو الأوقات التي أُقِّتَتْ له، كان عملاً باطلاً، لأنه خرج عن الحدّ الذي ملك فيه الانفراد بالتصرف بالإذن من الشارع الحكيم
ولذلك قلنا ببطلان الطلاق لغير العدة، وببطلان الطلاق من غير إشهاد، وببطلان سائر أنواع الطلاق الذي يسمى (الطلاق البدعي). وقلنا أيضاً ببطلان الرجعة من غير إشهاد، وببطلانها إذا قصد بها المضارّة ولم يقصد بها الإصلاح، كما قال الفقهاء جميعاً ببط الرجعة إذا كانت بعد انقضاء العدة، وببطلانها إذا كانت بعد الطلقة الثالثة وهكذا
وهذا المعنى قد أوضحته مراراً في كتاب (نظام الطلاق في الإسلام)، فمما قلته (ص60 - 63):
(وليس المقصود من الطلاق اللعبَ واللهوَ، حتى يزعم الرجلُ لنفسه أنه يملك الطلاقَ كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء؛ وأنه إن شاء أبان الْمَرْأَةَ بَتَّةً، وإن شاء جعلها معتدةَ يملك عليها الرجعة)
(كلا، ثم كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لَدُنْ حكيم عليم، شَرعَهُ الله لعباده ترفيهاً لهم، ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضرار، ورَسمَ قواعدَه، وحدَّ حدودَه بميزان العدالة الصحيحة التامة ونهى عن تجاوزها، وتوعد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذكر حدود الله، والنهيَ عن تعديها وعن المضارَّة: (تلك حدود الله فلا تعتدوها. ومن يتعد حدود الله فأؤلئك هم الظالمون). (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون). (ولا تمسكوهن ضِراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزُوا) (واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فأحذروه))
(وهو تشريعٌ تَقَطَّعَتْ دونه أعناق الأمم قبل الإسلام وبعده، وهأنت ذا ترى الأمم العظيمة التي تزعم لنفسها المدنية ويزعمها لها الناس: - تحاول إصلاح نظام الأسرة، وتشريع القوانين لديها للطلاق، فلا تصل إلى شيء معقول، بل هي تتخبط في الظلمات، وتأتي بالبلايا والمضحكات وذلك أنها تصدر في تشريعها عن العقل الإنساني القاصر. أما التشريع الإسلامي فأنه وحيٌ الهي كريمٌ، أَرسَل به أعظم رجل وأعقل رجل ظهر في هذا الوجود، وأمره أن يفسره للناس ويبينه لهم، ثم يحملهم على طاعته والعمل به)
(وإنما المقصود من الطلاق في هذه الشريعة النقية الواضحة الكاملة: أن بين الزوجين عقداً - كسائر العقود - على المعايشة والمعاشرة بالمعروف، فإن هما فعلا تحقق المقصد الصحيح من الزواج وطاب عيشهما، وإن هما تباغضا وتنافرا وخافا ألا يقيما حدود الله ورغبا في الفراق، فهما كغيرهما من كل متعاقِدَيْن: لهما أن يتفقا على الانفصال في مقابل عوض من المرأة للرجل، كما تعاقدا في أصل النكاح في مقابل الصداق من الرجل للمرأة. وبذلك جاء نص القرآن الكريم: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فشرع لهما الخلعَ والمبارأة، وكانت المرأة به بائناً تملك أمر نفسها، وليس للرجل عليها حق المراجعة إلا بعقد جديد واتفاق آخر؛ ولم يكن عليه للمرأة حقوق أخرى من حقوق العقد، كالصداق والنفقة وغيرهما، إلا أن يتشارطا على شيء: فالمسلمون عند شروطهم)
(واختار الله لعباده - لحكمة سامية - أن يستثني النكاح من القاعدة العامة في فسخ العقود، فأباح للرجل أن ينفرد بفسخ هذا العقد بإرادته وحده، بشرائط خاصة ونظام واضح، ورَتَّب لكل من المتعاقدين حقوقاً قِبَلْ صاحبه، لا يجوز لأحدهما أن يتهرب منها. فمن وقف عند حدود الله وفَسَخَ عقد النكاح الذي بينه وبين زوجه في دائرة الحدود التي حدَّ الله له، كان قد استعمل حقاً يملكه بتمليك الله إياه، وجاز عمله، وترتبت عليه آثاره. ومن تجاوز حدود الله، واجترأ على حل عقدة النكاح على غير المنهج المرسوم له. كان عابثاً، وكان عمله باطلاً لغواً، كما إذا انفرد أحد المتعاقدين بإلغاء عقد البيع أو عقد الرهن مثلاً، فإن عمله لاغٍ لا أثر له في العقد. فكذلك المطلق في غير الحدود التي أذن فيها)
وقلت أيضاً (ص71): (إذنْ، فقد منح الله الرجلَ حق الانفراد بالطلاق، وهو حل لعقدة النكاح: بين الزوجين عقد كسائر العقود، وهو عقد الزواج، فإذا أراد أن يطلق بمحض إرادته وحده، فلن يملك من ذلك إلا أن يتبع أمر ربه الذي شرع له هذا الحق وأذنه به)
فهذا التفسير لمعنى الطلاق ولمعنى الرجعة هو المطابق كلَّ المطابقة لنصوص القرآن الكريم. ولمقاصد الشارع الحكيم، ولقواعد العقل السليم، وللفقه الصحيح في الدين. وليس من المعقول أن تترك هذه الشريعة الدقيقة - شريعةُ الطلاق والرجعة - لأهواء الناس وآرائهم وألاعيبهم في الألفاظ. إنما هي مقاصد سامية، تتعلق بأدق الشؤون الاجتماعية وأشدها خطراً في حياة الإنسان وأشرف الروابط بين الناس وأعلاها وأنفعها للنوع الإنساني، وهي رابطة الحياة الزوجية. (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودَّةً ورحمةً، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)
فلم يكن الطلاق - في الشريعة الإسلامية - حقاً مطلقاً للرجل من غير قيد، كما يفهم ذلك أكثر الناس، بل عامتهم، وإنما هو مقيد بقيود كثيرة، بعضها قيود في نفس إنشاءه وإيقاعه، وهي شروط في صحته عندي وفي رأيي، وبعضها قيود تتعلق بحال المطلق وظروف طلاقه، وهي تعليم من الشارع وتأديب، لأنها ترجع إلى أمور نفسية وأحوال دقيقة في المعايشة والمعاشرة، لا تدخل تحت القواعد القضائية التي تكاد تكون مادية، فجعل الرجل فيها أمينَ نفسه، ورقيباً على أعماله، أو جعلت تحت رقابة ضميره - كما يعبر الكتاب من أهل هذا العصر -
فإن أتبع في ذلك أوامر الله في كتابه وفي سنة رسوله ووقف عند حدود الله: كان طلاقه صحيحاً، وبريء من أثم العدوان في الطلاق، وإن لم يتبع ما أمر به، ولم يجعل طلاقه في الحدود التي حدت لإنشائه وإيقاعه، فكأنه لم يعمل شيئاً ولم يوقع طلاقاً، وإنما كسب خطيئة وإثماً بمخالفة أمر ربه
وإن جعل طلاقه في الحدود التي حدت للإنشاء والإيقاع ولكنه تجاوز في القيود الأخرى التي تتعلق بحاله وظروف طلاقه كان طلاقه واقعاً، ولكنه كان آثماً بمخالفته وعدوانه، لأن هذه الشؤون ليست مما يدخل تحت سلطان الحاكم وتقدير القاضي، وإنما يحاسب عليها بين يدي ربه يوم القيامة
لأن الشريعة الإسلامية يمتزج فيها - دائماً - التشريع القانوني القضائي بالشؤون الدينية النفسية والخلقية التهذيبية، وتجمع في أحكامها بين الوجوب أو الإباحة أو الندب أو الكراهة أو الحل أو الحرمة: وبين الصحة أو البطلان أو الفساد، وهكذا فهي شريعة ودين معاً
وكذلك الرجعة: ليست من حقوق الرجل بإطلاق من غير قيد، بل هي مقيدة بقيود كالطلاق، ولكنها أقل قيوداً منه، تيسيراً من الشارع الحكيم، وترغيباً في وصل ما انقطع من علائق الزوجية
فمن قيودها ما هو راجع لأصل إيقاع الفعل وإنشاءه، فيكون شرطاً في صحته، وكلها منصوص عليه في القرآن نصاً: فمن ذلك ما اتفق عليه أهل العلم ولم ينقل فيه خلاف عن أحد منهم، وهو أن تكون المطلقة مَدْخولاً بها، وألا يكون ذلك بعد الطلقة الثالثة، وأن تكون الرجعة وهي في عدة المطلق
ومن ذلك ما اختلف فيه، واخترنا انه شرط في صحة الخلع أيضاً ونصرنا القول به، وهو أن تكون الرجعة بإشهاد شاهدين على ما بينا أنفاً، (واشهدوا ذوي عدل منكم) وأن يريد برجعتها إصلاح ما أفسد الطلاق، وإصلاح حاله وحالها (وبعولتهن أحقّ بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً) لا يقصد بها الإضرار والعدوان (ولا تمسكونهن ضراراً لتعتدوا) وقد بيّنا ذلك في كتابنا بوضوح (ص121 - 124) ومما قلنا هناك: (إن الطلاق والرجعة بإرادة الرجل وحدة عملان مستثنيان من القواعد العامة، أذنه الله بهما بصفات خاصة فلا يملك منهما إلا ما أُذِنَ به. والشأن هنا في الرجعة أقوى، لأن الله سبحانه جعل الرجلَ أَحَقَّ بها بشرط صريح، وهو إرادة الإصلاح، فإذا تخلف الشرط لم يكن الرجل أحقَّ بردها، فصار لا يملك هذا الحق)
وهذا الذي اخترناه وذهبنا إليه لا ينافي ما ذكره أستاذنا شيخ الشريعة (مما هو أدق وأحق بالاعتبار، من حيث الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وشموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها)، لأن القيود التي قيد بها حق الطلاق أوثق وأقوى مما اشترط في صحة الرجعة، (على القاعدة المعروفة من أن الشيء إذا كثرت قيوده، عزَّ أو قَلَّ وجوده)
وما اشترط في صحة الرجعة إنما اشترط ضماناً لبقاء الحياة الزوجية صحيحة سالمة من إرادة العبث بها، وبعداً بها عن مواطن الشبهات، وعن الأضرار بالمرأة عن إرادة النكول والجحد لإضاعة حقها
ولست أظن أني بحاجة إلى بيان وجه (الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية) في اشتراط إرادة الإصلاح في صحتها، إذ هو واضح بالبداهة، وصريح من نص الكتاب الكريم
وأما اشتراط الأشهاد فأنه ليس قيداً يفوت به مقصد الشارع في تقليل وقوع الطلاق والفرقة، وفي إرادة التعجيل بالرجعة، وإنما هو شرط يقيد في ضمان ثباتها وبقائها، وفي حفظ عزة المرأة وكرامتها
فالرجل حين يطلق يُشهد على طلاقه، وهو إعلان له واثبات، ثم يذهبُ فيراجع سرّاً من غير حضرة الشاهدين؛ ولعله قد يبدو له أن يندم على رجعته، أو يرى له فائدةً مادية حقيرة في إنكار ما فعله وجَحده، وتعجز المرأة عن إثبات حقها واثبات إجرامه، ولا ترى لها شاهداً ولا دليلاً؛ وقد يفعل ذلك ورثتُه إذا مات قبل إعلان رجعته، فيضيع في الحالين حقها، وتهدر كرامتها، ويُمس عرضها، وهي عاجزة في أول أمرها وآخره
ولو رأى الأستاذ - حفظه الله - ما نرى في مجالس القضاء من ألاعيب الناس وحيلهم، وإقدامهم على إضاعة الحقوق، وحرصهم على أكل أموالهم بينهم بالباطل، وجرأتهم على تعدي حدود الله، لعلم أن هذه الشروط ليست قيوداً يعزُّ معها وجود الرجعة أو يقلُّ، ولا يستيقن أنها تطابق الحكمة الشرعية، والفلسفة الإسلامية، وتدل على شموخ مقامها، وبعد نظرها في أحكامها
وبعدُ: فإني أرسل تحياتي إلى أستاذي الجليل على صفحات (الرسالة) الغراء، مجدداً ذكرى صداقةٍ لم تزدها الأيام إلا ثباتاً وقوة، مذ كان الأستاذ حفظه الله في مصر، من نحو خمس وعشرين سنة، وكنا نقتبس من بحار علومه، ونقتدي به في مكارم أخلاقه، وكنت له كالتلميذ الخاص، ألازمه في غدواته وروحاته. بارك الله فيه، ونفع به الإسلام والمسلمين
وأخيراً: أدعو المثقفين من المسلمين، وقادتهم من علماء الدين، لينظروا في مسائل الزواج ومشاكله، وهي جمة متوافرة، لا بالنظر التقليدي القديم، ولا بالنظر الإفرنجي الحديث، ولكن بالنظر الإسلامي الصحيح.
أحمد محمد شاكر
القاضي الشرعي