مجلة الرسالة/العدد 154/دراسات أدبية
→ الحياة الأدبية في المغرب الأقصى | مجلة الرسالة - العدد 154 دراسات أدبية [[مؤلف:|]] |
يا ليل! ← |
بتاريخ: 15 - 06 - 1936 |
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونه
- 5 -
حنة فيفانتي وروايتها عن مصر
تعد حنة فيفانتي أستاذة في الخيال الواضح والأسلوب الرفيع، وقد بدأت حياتها في إنجلترا، ولم تر وطنها - إيطاليا - إلا في الثانية عشرة من عمرها عندما نزحت من إنجلترا لتتعلم فن الغناء. ففي هذه السن المبكرة تتلمذت لطائفة من رجال الأدب وفي مقدمتهم كاردوتشي، ونشرت ديوانا من الشعر الغنائي (ليريكا) يفيض بالعواطف الذاتية والخيال الراقي، فلم يلبث نجمها أن تألق في سماء الأدب الحديث
والواقع أن غنى اللغة الإيطالية خطر عليها من بعض الوجوه، فأن طبيعة هذه اللغة تساعد على التمادي في الوصف والاستغراق في الخيال. ولما كان كتاب هذا العصر في إيطاليا أميل إلى التأنق في موسيقية اللغة، وإلى المزاج الفني الصريح، فأن أسلوب فيفانتي الخلاب وجد البيئة التي ينمو فيها، وانطلق في الجو الحالم مرددا العواطف المشبعة بعناصر الجمال. ففي روايات هذه الشاعرة نجد صفة نادرة الوجود عن كتاب الجيل المعاصر، تلك هي غريزة الجمال. والإنسان يشعر لدى مطالعته روايتها بأن الطبيعة في فنها تجاوزت منطقة الجلال؛ وكما يفوق الناس بعضهم بعضاً في المواهب وقوة الإدراك السامية، وتمييز الألوان والأصوات، فأن لفيفانتي قدرة على هتك أسرار الطبيعة وإبرازها في إطار فني جذاب.
ولما كان أسلوبها الروائي ليس من النوع التحليلي فالنتيجة هي أن الشخصيات الثانوية في روايتها أغزر حياة وتأثيراً من البطل نفسه، كما في رواية الغجرية ويمكن تقسيم أبطالها إلى قسمين: الفريق الأول وهم الأبطال الأقوياء الذين يتمتعون بالحياة إلى أبعد حد، مع استفادتهم من ضعف الآخرين؛ والفريق الثاني الفقراء الذين يحنون رؤوسهم أمام قسوة الحياة ذاكرين أنه من فعل القدر.
وحنة فيفانتي صديقة وفية لمصر، ويرجع تاريخ هذه الصداقة إلى يوم آزرت الوفد المصري وهو واقف بباب مؤتمر الصلح في باريس. وكانت من أخلص أصدقاء المغفور له سعد زغلول باشا، وطالما أيدته في صحف بلادها؛ ولا عجب أن توحي إليها هذه الصداقة وتثمر فيها الضيافة التي لاقتها في وادي النيل كتابة رواية (أرض كيلوباترا التي بدأتها بالرحيل إلى مصر، إذ تقول:
حقاً إنني أحلم حلماً جميلاً من تلكم الأحلام الذهبية المترامية الأطراف؛ فعندما يستيقظ الإنسان في الصباح، ويحاول أن يقربها إلى ذهنه تفر أشباحها بعيدة عنه، ولا تلبث أن تختفي في وادي النسيان. برهة وجيزة أستيقظ بعدها فإذا بي في صحراء ليبيا، فوق بعير يجوب في الصحراء متجهاً نحو قبر الملك الشاب توت عنخ آمون. يقود زمامه إعرابي طويل القامة، عريض الهامة، وتتفتح عيناي عن هذه الصحراء الذهبية، فإذا بسرب من الفلاحات المصريات يرتدين أردية سوداء، وفوق رؤوسهن جرار الماء، وعندما أقترب منهن يحدقن في بعيونهن الدعجاء، قائلات: (سعيدة نهارك لبن)
واستطردت الكاتبة في وصف مشاهد الصحراء وأسواق القاهرة، إلى أن أتت على مقابلتها للمرحوم زغلول باشا فقالت: (وفي غداة يوم وصولي إلى القاهرة قصدت إلى بيت (الرئيس الجليل) الذي استقبلني واقفاً خلف مكتبه، وعلى رأسه ذلك الطربوش الأحمر الذي لا يرفعه المصريون للتحية، بل يبقونه فوق رؤوسهم كرمز للوقار. ويبدو لي الرئيس كما كنت أعرفه في باريس منذ سنوات؛ فلا العظمة ولا الاضطهاد، ولا النفي ولا الهتاف باسمه في الشوارع، استطاع أن يغير هذه الهامة الطويلة، ويضعف من ضياء عينيه الوقادتين. وكانت تقف إلى جانبه (صفية زغلول) التي حيتني باشة مبتسمة. ودار الحديث بيننا بالفرنسية إذ أنها لغة الأجانب الرسمية في مصر، ولأن البحث في الإنجليزية أمر بغيض إلى قلوب المصريين، وما إن بلغته تحية أصدقائه من كتاب إيطاليا وصحفييها الذين أحاطوا قضية بلاده بعطفهم حتى قال:
- إنك كنت صديقة هذه البلاد، وقد أعطيتها محبتك قبل أن تريها؛ فها هي ذي أمامك! اذهبي إلى أي مكان تشائين، عسى أن تتكشف لك نفسية هؤلاء الفلاحين المساكين، فهي نفسية نبيلة شريفة لكنها مجهولة.
وعندما ودعته ختم حديثه معي بأن قال:
- عودي إلينا مرة ثانية، ولا تحسبي أن هذه آخر زياراتك، وعدينا بذلك.
وغادرت منزل الزعيم الوطني ووجهتي مصر العليا عن طريق النيل، لأشاهد الأقصر بحدائقها الغناء، وطيبة ذات المائة باب، وكوم امبو بلدة المعابد، وفيلي جوهرة مصر المكنونة.
هانحن أولاء في أسوان (مدينة الشلالات) التي يقصدها المسلولون طلباً للشفاء، ويأتيها المكروبون عسى أن يفرجوا عن قلوبهم الحزينة أساها وبلواها. هنا حيث الإقامة في بقعة هادئة عميقة، تكتنفها الصحاري من كل جانب، يجد الإيمان الصحيح طريقه إلى السماء.
الله أكبر، الله أكبر! أدعية حارة صادرة عن قلوب عامرة بالإيمان، يرددها العرب في كل آن، فيترجع صداها على شفاهنا المتبتلة بالتسبيح، على حين يتوجه أبناء الصحراء شطر مكة، وهم جاثون على الرمال، ويرددون أسم الله في تقوى وخشوع
أشرف على النيل ومياهه التي ينعكس عليها نور السماء الأزرق، وعلى منظر الصخور التي تتراءى عن بعد كوحوش كاسرة، راقدة تحت أقدام (اخنوم) إله الشلالات.
وأخذ القارب ينساب بنا بين الجزر كالأفعى، وترى الشمس تسقط رويداً رويداً عن الشفق، فتلتهب السماء، ويتغير لون الماء من سائل فضي إلى سبيكة من الذهب الإبريز، ثم تنحدر الشمس ككرة من نار، والسماء تحترق فيقع ظلها المتورد الناري على صفحة المياه حتى حسبنا أنفسنا نسير في بحر من دماء.
هانحن أولاء أمام قصر أنس الوجود، أمام فيلي، جوهرة مصر المكنونة، ودرتها الساطعة، عروس النيل وريحانته؛ إيه أيتها الجزيرة الصامتة الحزينة! أيتها الجوهرة الميتة، يا زهرة اللوتس، يا جزيرة السحر ومهبط الجمال، أيتها الجزيرة التي يتربع فوق صدرك آخر معبد فرعوني، لقد غمرتك المياه فغرقت وتواريت، ورحت ضحية قحط الأرض وجوع الرجال!
والرواية مشجعة بأمثال هذه الصور الوصفية، وتحت ستار شفاف من الحنين إلى الماضي، والإشادة بمجد الفراعنة، والتفاؤل بالمستقبل.
بابيني
وجيوفاني بابيني من أغرب الشخصيات في الأدب الإيطالي الحديث، وقد اشتغل بالنقد قبل أن يصبح روائياً؛ على أن الانتقال من النقد إلى الأدب، والمسرح، أو الرواية أمر مألوف في إيطاليا.
قبل الحرب العظمى كان بابيني ألمع شخصية في سماء الأدب، ومحور الحياة الفكرية في الأوساط الإيطالية؛ وقد ظفر بهذه الشهرة إثر المقالات النقدية العنيفة التي كان ينشرها بعنوان (التدمير)، والدراسات الفلسفية التي تحدى - شوبنهاور ونيتشه وهيجل، وأساتذة مدرسة الفلسفة الألمانية. ثم بفضل المجلات الأدبية العديدة التي كان يصدرها لثلاثين ما خلت، أي في الوقت كانت الشبيبة الإيطالية تتلهف على اتهام كل ما يقدمه إليها من ألوان الثقافة الحديثة، فوجدوا ضالتهم بابيني، ومجدوا من شانه. ولكن شباب هذا الجيل سرعان ما حولوا اتجاههم الأدبي عن فنه، إذا أنهم لم يجدوا شيئاً يتعلمونه في كتبه سوى فلسفة جامدة، وفن جاف مضطرب، وتبشير بأساليب الكثلكة مع الرجوع إلى أحضان الكنيسة.
وتعد أقوى روايات بابيني على الإطلاق (مذكرات الله) التي تحدث فيها عن خلق العالم ونشأته، فرواية (الرجل الذي انتهى)، وقد رسم بين سطورها حياة المتاعب والآلام التي تنتاب طبقة المفكرين الذين يقضون نصف أعمارهم بين بطون الكتب، والنصف الآخر في ظلال الفلسفة والنظريات السفسطائية.
(البقية في العدد القادم)
محمد أمين حسونة