مجلة الرسالة/العدد 153/من أسخلوس
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 153 من أسخلوس [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 08 - 06 - 1936 |
لايوس وأوديب
(درامتان مفقودتان)
للأستاذ دريني خشبة
مقدمة: كانت محنة بيت لايوس ملك طيبة، من أعمال بووطيه إحدى مقاطعات هيلاس، مرتعاً خصيبا لأخيلة شعراء اليونان، وقد اتخذوا منها مادة خالدة لمآسيهم، وكتب فيها اسخيلوس ثلاثا من أروع مآسيه هي لايوس، أوديبوس، سبعة ضد طيبة. وقد فقدت الدرامتان الأوليان مع الأسف الشديد، وبقيت الثالثة التي تنم بأسلوبها الرائع عما كانت عليه أختاها من الكمال والسمو. ومما يعزينا من فقدتينك الدرامتين ما وصل إلينا من آثار سوفوكليس؛ فقد ساهم هو الأخر في تخليد تلك المآسي وأبقت غير الأيام على درامتيه القويتين (أوديبوس الملك) و (أوديبوس في كولونوس) ولما كنا لم نسغ تقديم الدرامة الباقية من ثلاثية إسخيلوس وهي (سبعة ضد طيبة) دون التعريف بالدرامتين اللتين تقدمتاها فقد آثرنا تلخيص هاتين الدرامتين عن مصادر محترمة موثوق بها على أن نلخص الدرامة الباقية بعد ذلك.
- 1 -
تزوج لايوس ملك طيبة من الأميرة الجميلة جوكاستا، ومضت سنون والملكة لا تنجب؛ فكان عقمها يشجي الملك، ويكدر صفو حياته؛ وكانت هي أيضاً تحس بما يحس زوجها من مرارة الحياة بلا ولد، وإقفار القصر من بلبل غرد يملؤه موسيقى ويعمر ما أجدب روحي المليكين، ويربط قلبيهما برباطه المقدس، الذي لا ينفصم.
فكان الملك وقتاً ما شقيا وكانت الملكة وقتا ما شقية
- 2 -
ثم أخذها المخاض فجأة، وتحقق الأمل المنشود فوضعته غلاماً زكياً مشرق الوجه مفتر الثغر وضاح الجبين. يقبض كفيه الصغيرتين فكأنما يقبض بهما على نواصي المشرقين والمغربين! وبدا للملك أن يرسل رسله إلى دلفي يستنبئون كهنة أبوللو عما سيكون من شأن الغلام، وما يضمره له الغيب في صفحته
وا أسفاه! لقد عاد الرسل من دلفي بأشأم نبوءة!!
(إذا عاش هذا الغلام فأنه يقتل أباه، ويتزوج من أمه، ويجر على شعبه شقاء ما ينتهي حتى تفنى ذريته!!)
يا للهول! لقد سمع الملك إلى النبوءة؛ وكأنما انطفأت في عينه شمس السعادة المشرقة، وكأنما ران على قلبه من الهم ما يضنيه، فما يدري ماذا يصنع!؟
أما الملكة، فيالها من شقية مرَزَّأة! لقد أحست، مذ عرفت النبوءة، كأنما قد ولدته أفعوانا أرقم، كهذه التنانين الخرافية التي تمتلئ بها أساطير قومها!. . .
- 3 -
وأسقط في يد الملك، ثم أعتزم أن يقتل الغلام، فعسى أن تبدله الآلهة خيراً منه: (إن نبوءات دلفي لا تكذب ولا تطيش، ومادام هذا الولد سيقتلني إذ عاش، فأني قاتله، ومجنب أمه الفضيحة، وشعبي الرزايا والأشجان!)
ودعا إليه واحداً من خدمه المخلصين فأسر إليه بكلمات. . . وأحتمل الخادم الغلام ومضى به إلى البرية ليذبحه. . .
ونظر الرجل في وجه الطفل فرأى البراءة والطهارة والنقاء، ورأى عينين صافيتان تطل منهما السماء بما فيها من آلهة. . . كأنما تأمره ألا يفعل!. . .
ورأى شفتين رقيقتين كأنما تكلمانه بلغة علوية في ألفاظ كالنسيم الحلو لا تبين، ولكن تغمغم. . . ولا تسمع ولكن تفهم. . . تسترحمانه!
ورأى أذنين ترتعشان كالدينارين، كأنما تقولان له: (أيها الرجل لقد سمعنا ما اسر إليك الملك فحذار أن تقتل هذا الطفل صاحبنا!. . .)
ثم نظر الرجل في السماء فرأى سحاباً رقيقاً ممزقاً تصبغه الشمس بأرجوان خفيف كالدم المطلول، فيجفل قلبه، وتراع نفسه ويقسم ألا يقتل الولد!
ولكن ماذا يقول للملك؟ إذن: (لأربط من عقبيه في هذا الفرع الغليظ من الشجرة، ولأتركه للآلهة تصنع به ما تشاء. . . فإذا حق عليه القتل، سعت إليه وحوش البرية أو عقبان السماء فاغتذت به. . . وإلا، فليحي حياته التي تريدها الآلهة. . . وليكن بعد ذلك ما يكون!)
- 4 -
وبكى الطفل، وملأ البرية بصراخه المحزن، ورددت الآكام ومشارف الجبال عويله المؤلم، ثم مر به راع كان يتفقد أحد نعاجه الضالة فرثى له، وتقدم فحل الرباط عن عقبيه، وشدهه أن يجدهما متورمين مما ألم بهما، فسماه (أوديبوس!)
وأرتحل به إلى كورنثه، فرآه معه من نم عنه إلى الملك الذي كانت امرأته عقيما لا تلد، فحبب إلى يوليبوس أن يرى الطفل عسى أن يتخذه ولداً. فلما أحضر أليه أنس في عينيه بريقاً عجيباً وفي جبينه لآلاء قويا، وفي روحه الصغيرة روحا كبيراً يكاد يملأ الأكوان. . . فقال للملكة: (إن لم يكن هذا الطفل ابن ملك، فما أحسبه خلق إلا ليكون ملكا. . . ألا نتخذه ولي عهد؟)
وشب أوديبوس، أو أوديب، وأحبه الملك، وغمرته الملكة بإعزازها، وكان هو يهتف بالملك (أي أبي) وبالملكة (يا أمي!) وهو لا يعرف مما أخفياه عنه شيئاً!
- 5 -
أما لايوس، ملك طيبة، فأنه تنفس الصعداء لما حسب من قتل الطفل، وتنفست الملكة الصعداء كذلك. . . أما الأقدار، فما برحت تسخر منهما، وتضحك ملء أشداقها عليهما. . . وما برحت كذلك تعد العدة للمستقبل الرهيب!
- 6 -
وترعرع أوديبوس، ونشأ مفتول العضل هرقلي الصدر، قويم الأخلاق، فيه نخوة الملك، ورفعة العرش، إلى كرم أرومة وطيب محتد.
وحُم القضاء. . . وأقيم في القصر الملكي حفل فخم، دعي إليه سادات طيبة وشبابها. . . وقدمت الآكال والأشربات. . . وققهت أباريق الخمر في الكؤوس. . . وفي الرؤوس، وذهبت أشوابها بوقار الشباب فتحرش بعضهم بأوديب، الذي لم يكن ممن تأسر الخمر لبه، فرده أوديب في حزم، وفي أدب؛ ولكن الشاب خاشن ولي العهد، ثم لمزه، وهو لا يدري ما يقول، لمزةً نبهت غافل أوديب؛ ذلك أنه عيره بأصله المجهول. . .
(أصلي المجهول؟ ماذا يقول هذا المعتوه؟ مجهول كيف؟ أولست ابن بوليبوس ملك كورنثه؟ أوليست هذه الملكة الجليلة أمي؟ بلى؟! لقد كنت أحس دائماً أنني لا استنشق هواء الأبوة في هذا القصر!. . . ويلاه! السر العجيب. . . السر العجيب. . .)
وأنطلق المسكين إلى مخدعه يبكي وينتحب. . . وانطلقت الملكة في إثره ترفه عنه وتواسيه، وتحلف له بالأيمان المغلظة أنه أبنها. . . وأنها أمه. . . ولكن. . . هيهات! فلم يكن أوديب من البله والغفلة بحيث ينخدع بهذه الأيمان التي لا تصدر عن إخلاص الأم الحقيقة، ولا يشف عن صدقها جب الأمهات الذي يدل على نفسه. . .
(لا! بل أنا أوديب التاعس! أنا أوديب المسكين الذي لا يعرف له أماً، ولا يدري له أباً. . . الوداع أيها القيصر المملوء بالخداع. . . الوداع أيها الملك الذي أكرمتني كأنني ابنك. . . اغفري لي أيتها الملكة التي أحبتني كأنني أبنها. . . سأنطلق. . . سأهيم على وجهي في القفار والفلوات. . . لا بد أن أعرف. . . لا بد أن أعرف من أنا. . . من أبي. . . من أمي. . . الوداع. . . الوداع. . .)
وأنطلق المسكين لا يلوي على شيء. . . غير مزود من هذا الملك العريض والسلطان الواسع إلا بسيفه. . . حتى إذا بلغ أفق طيبة، وقف على ربوة عالية يلقي على ملاعب الصبي ومراتع الشباب نظرة باكية. . . ثم مضى. . .
- 8 -
كانت الشكوك القاتلة تعصف بنفس أوديب، وكان يحاول أن ينسى كلمة الشاب المفتون الذي لمزه. . . ولكن عبثاً حاول ذلك. . . وكان يجهد فيما بينه وبين نفسه أن يفسر تلك النظرات الصارمة التي تبادلها ضيوف القصر بعد أن قال الشاب قالته، ولكنها كانت تعتاص بالمعاني السود في نفسه، وتثير في أعماقه ألواناً من الريب تغلي بدمه في رأسه. . .
وذكر أمه - أو الملكة - وهي تحاول أن تتغفله، وذكر سمات الخداع في ألفاظها، فوقر في نفسه أنه لا بد ابن أبوين آخرين غير بوليبوس وزوجه.
(إذن. . . إلى دلفي! لأذهب إلى دلفي! لأستوح كهنة أبوللو، فعندهم الخبر اليقين) وهام على وجهه حتى كان في دلفي، وحتى وقف في هيكل أبوللو يبكي ويستنبئ الكهنة!
وساد المعبد صمت رهيب، وانعقدت في أرجائه سحابة داكنة من بخور العنبر، ثم انقدحت ثمة شرارة هائلة هي التي تسبق كلمات الآلة دائما. . . وإذا بصوت مذبوح يتهدج قائلاً:
(ويح لك يا أوديب! أهو أنت؟ اذهب أيها التعس، فقد قضي أن تقتل أباك، وتتزوج من أمك، وتجر التعاسة على شعبك. . .)
وصمت الصوت، ومضى أوديب لطيته. . . أو لغير طيته!
(لها بقية)
دريني خشبه