مجلة الرسالة/العدد 153/القصص
→ نشيد وطني | مجلة الرسالة - العدد 153 القصص [[مؤلف:|]] |
من أسخلوس ← |
بتاريخ: 08 - 06 - 1936 |
قصة أندلسية واقعية
محمد الصغير
للأستاذ علي الطنطاوي
قال:
كنت يومئذ صغيراً، لا أفقه شيئاً مما كان يجري في الخفاء، ولكني كنت أجد أبي - رحمه الله - يضطرب ويصفر لونه كلما عدت من المدرسة فتلوت عليه ما حفظت من (الكتاب المقدس)، وأخبرته بما تعلمت من اللغة الأسبانية، ثم يتركني ويمضي إلى غرفته التي كانت في أقصى الدار، والتي لم يكن يأذن لأحد بالدنو من بابها، فيلبث فيها ساعات طويلة، لا أدري ما يصنع فيها، ثم يخرج منها محمر العينين، كأنه قد بكى بكاء طويلاً، ويبقى أياماً ينظر إلي بلهفة وحزنٍ، ويحرك شفتيه فعلَ من يهم بالكلام، فإذا وقفت مصغياً إليه ولاني ظهره، وانصرف عني من غير أن يقول شيئاً - وكنت أجد أمي تشيعني كلما ذهبت إلى المدرسة حزينة دامعة العين، وتقبلني بشوق وحرقة، ثم لا تشبع مني فتدعوني فتقبلني مرة ثانية - ولا تفارقني إلا باكية، فأحس نهاري كله بحرارة دموعها على خدي، فأعجب من بكائها ولا أعرف له سبباً؛ ثم إذا عدت من المدرسة استقبلتني بلهفة واشتياق، كأني كنت غائباً عنها عشرة أعوام - وكنت أرى والديّ يبتعدان عني ويتكلمان همساً بلغة غير اللغة الأسبانية، ولا اعرفها ولا أفهمها، فإذا دنوت منهما قطعا الحديث وحولاه، وأخذا يتكلمان بالأسبانية فأعجب وأتألم وأذهب أظن في نفسي الظنون حتى إني لأحسب أني لست ابنهما، وإني لقيط جاءا به من الطريق فيبرح بي الألم فآوى إلى ركن في الدار منعزل فأبكي بكاء مراً - وتوالت علي الآلام فأورثتني مزاجاً خاصاً يختلف عن مزاج الأطفال الذين كانوا في مثل سني، فلم أكن أشاركهم في شيء من لعبهم ولهوهم، بل أعتزلهم وأذهب، فأجلس وحيداً أضع رأسي بين كفي، وأستغرق في تفكيري، أحاول أن أجد حلاً لهذه المشكلات. . . حتى يجذبني الخوري من قميصي لأذهب إلى الصلاة في الكنيسة. . .
وولدت أمي مرة؛ فلما بشرت أبي بأنها قد جاءت بصبي جميل، لم يبتهج ولم تلح على شفتيه ابتسامة، ولكنه قام يجر رجله حزيناً ملتاعاً، فذهب إلى الخوري فدعاه ليعمد الطفل، وأقبل يمشي وراءه وهو مطرق برأسه إلى الأرض وعلى وجهه علائم الحزن المبرح واليأس القاتل، حتى جاء به إلى الدار ودخل به على أمي. . . فرأيت وجهها يشحب شحوباً هائلاً، وعينيها تشخصان، ورأيتها تدفع إليه الطفل خائفة حذرة. . . ثم تغمض عينيها، فحرت في تعليل هذه المظاهر، وازددت ألماً على ألمي. . حتى إذا كان ليلة عيد الفصح، وكانت غرناطة غارقة في العطر والنور، والحمراء تلألأ بالمشاعل والأضواء، والصلبان تومض على شرفاتها، ومآذنها، دعاني أبي في جوف الليل، وأهل الدار كلهم نيام، فقادني صامتاً إلى غرفته، إلى حرمه المقدس، فخفق قلبي خفوقاً شديداً، واضطربت، لكني تماسكت وتجلدت، فلما توسط بي الغرفة أحكم إغلاق الباب، وراح يبحث عن السراج، وبقيت واقفاً في الظلام لحظات كانت أطول علي من أعوام؛ ثم أشعل سراجاً صغيراً كان هناك، فتلفت حولي فرأيت الغرفة خالية ليس فيها شيء مما كنت أتوقع رؤيته من العجائب، وما فيها إلا بساط، وكتاب موضوع على رف، وسيف معلق بالجدار، فأجلسني على هذا البساط، ولبث صامتاً ينظر إلي نظرات غريبة، اجتمعت هي ورهبة المكان، وسكون الليل، فشعرت كأني انفصلت عن الدنيا التي تركتها وراء هذا الباب، وانتقلت إلى دنيا أخرى، لا أستطيع وصف ما أحسست به منها. . . ثم أخذ أبي يدي بيديه، بحنو وعطف وقال لي بصوت خافت:
- يا بني! إنك الآن في العاشرة من عمرك، وقد صرت رجلاً، وإني سأطلعك على السر الذي طالما كتمته عنك. فهل تستطيع أن تحتفظ به في صدرك، وتحبسه عن أمك وأهلك وأصحابك والناس أجمعين؟ إن إشارة منك واحدة إلى هذا السر تعرض جسم أبيك إلى عذاب الجلادين من رجال (ديوان التفتيش)
فلما سمعت اسم ديوان التفتيش ارتجفت من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي، وقد كنت صغيراً حقاً، ولكني أعرف ما هو ديوان التفتيش، وأرى ضحاياه كل يوم وأنا غاد إلى المدرسة، ورائح منها - فمن رجال يصلبون أو يحرقون، ومن نساء يعلقن من شعورهن حتى يمتن، أو تبقر بطونهن، فسكت ولم أجب،
- فقال لي أبي: مالك لا تجيب؟ أتستطيع أن تكتم ما سأقوله لك؟ - قلت له: نعم
- قال تكتمه حتى عن أمك وأقرب الناس إليك؟
- قلت: نعم
قال: - فأقترب مني. أرهف سمعك جيداً. فأني لا أقدر أن أرفع صوتي. أخشى أن تكون للحيطان آذان تسمعني فتشي بي إلى ديوان التفتيش فيحرقني حياً. . .
فاقتربت منه، وقلت له:
- إني مصغ يا أبت
فأشار إلى الكتاب الذي كان على الرف. وقال:
- أتعرف هذا الكتاب يا بني؟
- قلت لا
- قال هذا كتاب الله
- قلت الكتاب المقدس الذي جاء به يسوع ابن الله؟
فاضطرب وقال:
- كلا هذا هو القران الذي أنزله الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. على أفضل مخلوقاته وسيد أنبيائه، سيدنا محمد بن عبد الله النبي العربي ﷺ.
ففتحت عيني من الدهشة ولم أكد أفهم شيئاً.
- قال: هذا كتاب الإسلام، الإسلام الذي بعث الله به محمداً إلى الناس كافة. . فظهر هناك. . . وراء البحار والبوادي. . في الصحراء البعيدة القاحلة. . . في مكة، في قوم بداة مختلفين مشركين جاهلين، فهداهم به إلى التوحيد وأعطاهم به الاتحاد والقوة والعلم والحضارة، فخرجوا يفتحون به المشرق والمغرب، حتى وصلوا إلى هذه الجزيرة أسبانيا، وكان ملكها جباراً عاتياً، وحكومتها ظالمة غاشمة، وشعبها مظلوماً فقيراً جاهلاً متأخراً، فقتلوا الملك الجبار، وأزالوا الحكومة الظالمة، وملكوا الأمر في أسبانيا، فعدلوا بين الناس وأحسنوا إليهم وأمنوهم على أرواحهم وأموالهم، ولبثوا فيها ثمانمائة سنة. . . ثمانمائة سنة جعلوها فيها أرقى وأجمل بلاد الدنيا نعم يا بني نحن العرب المسلمين. . .
فلم أملك لساني من الدهشة والعجب والخوف، وصحت به:
- ماذا؟ نحن؟. . . العرب المسلمين
- قال: نعم يا بني. هذا هو السر الذي سأفضي به إليك. . . نعم نحن. . . نحن أصحاب هذه البلاد، نحن بنينا هذه القصور التي كانت لنا فصارت لعدونا؛ نحن رفعنا هذه المآذن التي كان يرن فيها صوت المؤذن، فصار يقرع فيها الناقوس؛ نحن أنشأنا هذه المساجد التي كان يقوم فيها المسلمون صفاً بين يدي الله، وأمامهم الأئمة يتلون في المحاريب كلام الله فصارت كنائس يقوم فيها القسس والرهبان يرتلون فيها الإنجيل. . .
نعم يا بني. . . نحن العرب المسلمين، لنا في كل بقعة من بقاع أسبانيا أثر، وتحت كل شبر منها رفات جد من أجدادنا، أو شهيد من شهدائنا. نعم. . . نحن بنينا هذه المدن، نحن أنشأنا هذه الجسور، نحن مهدنا هذه الطرق، نحن شققنا هذه الترع، نحن زرعنا هذه الأشجار. . .
ولكن منذ أربعين سنة. . . أسامع أنت؟ منذ أربعين سنة خدع الملك البائس، أبو عبد الله الصغير آخر ملكونا في هذه الديار بوعود الأسبان وعهودهم فسلمهم مفاتيح غرناطة، وأباحهم حمى أمته ومدافن أجداده، وأخذ طريقه إلى بر المغرب، ليموت هنالك وحيداً فريداً شريداً طريداً، وكانوا قد تعهدوا لنا بالحرية والعدل والاستقلال. فلما ملكوا خانوا عهودهم كلها، فأنشئوا ديوان التفتيش، فأدخلنا في النصرانية قسراً، وأجبرنا على ترك لغتنا إجباراً، وأخذ منا أولادنا لينشئهم على النصرانية. فذلك سر ما ترى من استخفائنا في العبادة، وحزننا على ما نرى من امتهان ديننا، وتكفير أولادنا.
أربعون سنة يا بني ونحن صابرون على هذا العذاب الذي لا تحمله جلاميد الصخر ننتظر فرج الله. لا نيأس لأن اليأس محرم في ديننا، دين القوة والصبر والجهاد.
هذا هو السر يا بني فأكتمه وأعلم أن حياة أبيك معلقة بشفتيك؛ ولست والله أخشى الموت، أو أكره لقاء الله، ولكني أحب أن أبقى حتى أعلمك لغتك ودينك، وأنقذك من ظلام الكفر إلى نور الأيمان. فقم الآن إلى فراشك يا بني.
صرت من بعد كلما رأيت شُرفُ الحمراء، أو مآذن غرناطة، تعروني هزة عنيفة، وأحس بالشوق والحزن والبغض والحب يغمر فؤادي؛ وكثيراً ما ذهلت عن نفسي ساعات طويلة، فإذا تنبهت رأيتني أطوف بالحمراء وأعاتبها وأقول لها:
أيتها الحمراء. . . أيتها الحبيبة الهاجرة، أنسيت بناتك وأصحابك اللذين غذوك بأرواحهم ومهجهم، وسقوك دماءهم ودموعهم، فتجاهلت عهدهم وأنكرت ودهم. أنسيت الملوك الصيد الذين كانوا يجولون في أبهائك، ويتكئون على أساطينك، ويفيضون عليك ما شئت من المجد والجلال والأبهة والجمال، أولئك الأعزة الكرام الذين إن قالوا أصغت الدنيا، وأن أمروا لبى الدهر. أألفت النواقيس بعد الآذان، أرضيت بعد الأئمة بالرهبان!
ثم أخاف أن يسمعني بعض جواسيس الديوان، فأسرع الكرة إلى الدار لأحفظ درس العربية الذي كان يلقيه علي أبي، وكأني أراه الآن يأمرني أن أكتب له الحرف الأعجمي فيكتب لي حذاءه الحرف العربي، ويقول لي: هذه حروفنا، ويعلمني النطق بها ورسمها ثم يلقي عليّ درس الدين، ويعلمني الوضوء والصلاة لأقوم وراءه وهو يصلي خفية في هذه الغرفة الرهيبة
وكان الخوف من أن أزل فأفشي السر، لا يفارقه أبداً، وكان يمتحنني فيدس أمي إلي فتسألني:
- ماذا يعلمك أبوك؟
- فأقول: لا شيء
- فتقول: إن عندي نبا مما يعلمك، فلا تكتمه عني
- فأقول: إنه لا يعلمني شيئاً
حتى أتقنت العربية، وفهمت القرأن، وعرفت قواعد الدين، فعرفني بأخ له في الله، فكنا نجتمع نحن الثلاثة على عبادتنا وقرآننا واشتدت بعد ذلك قسوة ديوان التفتيش، وزاد في تنكيله بالبقية من العرب، فلم يكن يمضي يوم لا نرى فيه عشرين أو ثلاثين مصلوباً، أو محرقاً بالنار حياً؛ ولا يمضي يوم لا نسمع فيه بالمئات يعذبون أشد العذاب وأفظعه، فتقلع أظافرهم وهم يرون ذلك بأعينهم، ويسقون الماء حتى تنقطع أنفاسهم، وتكوى أرجلهم وجنوبهم بالنار، وتقطع أصابعهم وتشوى وتوضع في أفواههم ويجلدون حتى يتناثر لحمهم. . .
وأستمر ذلك مدة طويلة، فقال لي أبي ذات يوم: إني أحس يا بني كأن أجلي قد دنا، وإني لأهوى الشهادة على أيدي هؤلاء، لعل الله يرزقني الجنة، فأفوز فوزاً عظيما؛ ولم يبق لي مأرب في الدنيا بعد أن أخرجتك من ظلمة الكفر وحملتك الأمانة الكبرى التي كدت أهوى تحت أثقالها، فإذا أصابني أمر فأطع عمك هذا ولا تخالفه في شيء
ومرت على ذلك أيام. وكانت ليلة سوداء من ليالي السَّرار، وإذا بعمي هذا يدعوني ويأمرني أن أذهب معه، فقد يسر الله لنا سبيل الفرار إلى عدوة المغرب، بلد المسلمين؛ فأقول له: وأبي وأمي؟. . .
فيعنف علي ويشدني من يدي، ويقول لي: ألم يأمرك أبوك بطاعتي؟
فأمضي معه صاغراً كارهاً، حتى إذا ابتعدنا عن المدينة وشملنا الظلام، قال لي:
- أصبر يا بني. . . فقد كتب الله لوالديك المؤمنين السعادة على يد ديوان التفتيش. . . .
(دمشق)
علي الطنطاوي