مجلة الرسالة/العدد 152/من أدينا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان
→ من الموضوعات التي نالت الجائزة في المباراة | مجلة الرسالة - العدد 152 من أدينا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان [[مؤلف:|]] |
الأدب بين الخاصة والعامة ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
اقتراح القريح واجتراح الجريح
لأبي الحسن علي الحصري
(للأستاذ الزيات عزاء وسلوة)
للأديب السيد أحمد صقر
- 2 -
الحصري المجهول: هناك بن طيات القرون الغابرة، ثبت ضخم حافل بكثير من نوابغ الأدباء، وعباقرة الشعراء ذوي الجد العاثر والطالع النكد، الذين جار عليهم الزمان فطوى ذكرهم وطمر تراثهم. ولو عنى الناس بأمر هؤلاء المحدودين، وبعثوهم من مراقدهم ونشروا آثارهم، لكان للأدب من ذلِك ثروة طائلة
من هؤلاء الشعراء المجهولين أبو الحسن علي بن عبد الغني الفهري الحصري القيرواني الضرير، صاحب كتاب (اقتراح القريح واجتراح الجريح). والحُصْري - بضم الحاء وإسكان الصاد - نسبة إلى عمل الحصر أو بيعها
ويشترك مع أبي الحسن هذا في لقبه شاعر معاصر آخر، كانت بينه وبينه وشيجة نسب، أعنى به أبن خالته الأستاذ (إبراهيم الحصري) صاحب كتاب (زهر الآداب) المتوفى سنة 453 من الهجرة (1601م)
وقد اشتبه أمرهما على كثير من الناس فحسبوا ذاك هذا، ونسبوا آثار هذا لذاك! وأرخوا لأحدهما بتأريخ الآخر، ولكن الأمر لم ينته على الراسخين في العلم، فوضعوا الحق في نصابه
أكتنف الغموض حياة أبي الحسن الحصري من كل ناحية، فلسنا نعرف نشأته ولا ثقافته، وليس فيما بين أيدينا من المصادر ترجمة دقيقة شاملة نعتمد عليها في تأريخنا له، وكل ما وجدناه نتف متشابهة، وشذرات مقتضبة، لا تجدي نفعاً؛ وقد أحببت أن أنقلها للقراء علها تلقي شيئاً - ولو ضئيلاً - من الضياء على حياة ذلك الشاعر العبقري، وترسم صورة - ولو شاحبة - لذلك 1 - ذكره أبن بسام في ذخيرته، فقال: (كان بحر براعة، ورأس صناعة، وزعيم جماعة، طرأ على جزيرة الأندلس منتصف المائة الخامسة من الهجرة بعد خراب وطنه من القيروان، والأدب يومئذ بأفقنا نافق السوق، معمور الطريق، فتهادته ملوك طوائفها تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الدار في الأنس بالمقيم، على أنه كان فيما بلغني ضيق العطن، مشهور اللسن، يتلفت إلى الهجاء، تلفت الظمآن إلى الماء، ولكنه طُوِي على غَرِّه، واحتمل بين زمانه وبعْدَ قطره، ولما خلع ملوك الطوائف بأفقنا، أشتملت عليه مدينة طنجة، وقد ضاق ذرعه وتراجع طبعه. . .)
2 - وذكره أبن بشكوال في الصلة فقال: (علي بن عبد الغني الفهري المقرئ الحصري القيرواني يكنى أبا الحسن، ذكره الحميدي وقال: شاعر أديب، رخيم الشعر، دخل الأندلس ولقي ملوكها، وشعره كثير، وأدبه موفور، وكان عالماً بالقراءات وطرقها، وأقرأ الناس القرآن بسبته وغيرها. أخبرنا عنه أبو القاسم بن صواب بقصيدته التي نظمها في قراءة نافع، وهي مائتا بيت وتسعة أبيات قال لقيه بمرسية سنة 481هـ وتوفي بطنجة سنة 488هـ)
الموافقة لسنة (1095) ميلادية
3 - وذكره أبن خلكان في وفيات الأعيان، فأورد قول أبن بسام ثم قال: (قلت وهذا أبو الحسن أبن خالة أبي إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب) ونقل كلام أبن بشكوال والحميدي ثم قال (وله ديوان شعر. فمن قصائده السائرة قصيدته التي أولها:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده؟
رقد السمار وأرقه ... أسف للبين يردده
إلى أن قال: وحكى تاج العلاء أبو زيد المعروف بالنسابة قال: حدثني أبو أصبغ نباتة بن الأصبغ بن زيدين محمد الحارثي عن جده زيد بن محمد قال: بعث المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية إلى أبي العرب الزبيدي خمسمائة دينار وأمره بأن يتجهز بها ويتوجه إليه وكان بجزيرة صقلية، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحصري وهو بالقيروان فكتب إليه أبو العرب:
لا تعجبن لرأسي كيف شاب أسى ... وأعجب لأسود عيني كيف لم يشب البحر للروم لا يجري السفين به ... إلا على غرر والبر للعرب
وكتب إليه الحصري:
أمرتني بركوب البحر أقطعه ... غيري - لك الخير - فأخصصه بذا الداء
ما أنت نوح فتنجيني سفينته ... ولا المسيح أنا أمشي على الماء
ثم دخل الأندلس بعد ذلك وأمتدح المعتمد وغيره، وتوفي سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بطنجة رحمه الله تعالى
4 - وذكره أبن العماد الحنبلي في كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب عند كلامه على حوادث سنة 488هـ فقال: فيها أبو الحسن الحصري المقري الشاعر نزيل سبتة - علي بن عبد الغني الفهري. كان مقرئاً محققاً، وشاعراً مفلقاً، مدح ملوكاً ووزراء، وكان ضريراً. ثم نقل قول أبن بسام المتقدم وعقبه يقول أبن خلكان، ثم قال وله أيضاً:
أقول له وقد حيا بكأس ... لها من مسك ريقته ختام
أمن خديك تعصر؟ قال كلا ... متى عصرت من الورد المدام
ولما كان بمدينة طنجة أرسل غلامه إلى المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية - وأسمها في بلادهم حمص - فأبطأ عنه وبلغه أنه ما أحتفل به فقال:
نبه الركب الهجوعا ... ولُمِ الدهر الفجوعا
حمص الجنة قالت ... لغلامي لا رجوعا
رحم الله غلامي ... مات في الجنة جوعا
وقد التزم في هذه الأبيات لزوم مالا يلزم رحمه الله تعالى
5 - وذكر الصلاح الصفدي في كتابه نكت الهميان وكل ما أتي به منقول عن أبن خلكان وأبن بشكوال، وزاد عليهما فذكر البيتين اللذين ذكرهما أبن العماد. أقول له وقد حيا بكأس
6 - وذكره أبن الجزري في كتابة غاية النهاية فقال: (علي أبن عبد الغني أبو الحسن الفهري القيرواني الحصري أستاذ ماهر، أديب حاذق، صاحب القصيدة الرائية في قراءة نافع، وناظم السؤال الدالي ملغزا: سألتكم يا مقرئي الغرب كله
وهي في سواءت أجابه عنه الشاطي ومن بعده
قرأ على (عبد العزيز بن محمد) صاحب أبي سفيان، وعلى (أبي علي بن حمدون الجلولي) والشيخ (أبي بكر القصري) وروى عنه (أبو القاسم بن الصواف) قصيدته، وأقرأ الناس بسبتة وغيرها. توفي بطنجة سنة ثمان وستين وأربعمائة. ثم في قول (أبن خلكان في وفيات الأعيان)، وقول أبن الجزري إن الحصري الأعمى توفي سنة 468هـ قول لم يشاركه فيه غيره من المؤرخين، ولعله وهم أو تحريف من الناسخين.
7 - وذكره العماد الكاتب في كتاب خريدة القصر. وجريدة أهل العصر، فقال: الحصري الأعمى المريني: هو أبو الحسن علي بن عبد الغني من الأندلس (!) صاحب تصنيفات وإحسان في النظم، قال في غلام أسمه هارون:
يا غزالاً فتن الن ... اس بعينيه فتونا
أنت هاروت ولكن ... صحفوا تاءك نونا
وقال يهجو أبا العرب الصقلي:
معجب كالمتنبي ... وهو لا يحسن شيا
إن هذا يحيوي ... أوتي العلم صبيا
وقال:
كم من أخ قد كان عندي شهدة ... حتى بلوت المر من أخلاقه
كالملح يحسب سكراً في لونه ... ومجسه ويحول عند مذاقه
وقال يرثي المعتضد أبا المعتمد:
مات عباد ولكن ... بقي الفرع الكريم
فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم
وقال: أقول له وقد حيا الخ البيتين
وقال:
وشاعر من شعراء الزمان ... يفخر عندي بالمعاني الحسان
وإنما أطيب أشعاره ... نصف خراسان والقيروان (؟)
وقال:
إذا كان البياض لباس حزن ... بأندلس فذاك من الصواب
وقال: مما يبغضني في أرض أندلس ... سماع معتصم فيها ومعتضد
أسماء مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وقوله إذا كان البياض الخ ذكره المقري في نفح الطيب وزاد عليه قوله:
ألم ترني لبست بياض شيبي ... لأني قد حزنت على شبابي
وذكر أيضاً أن من عادة أهل الأندلس لبس البياض في الحزن بخلاف أهل المشرق. وذكر لبعضهم أبياتاً في ذلك
ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب
لبستم في مآتمكم بياضاً ... فجئتم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب
8 - وذكره المراكشي عرضاً عند كلامه على نزول المعتمد مدينة طنجة قال: (فأقام بها أياماً ولقيه الحصري الشاعر فجرى معه على سوء عادته من قبح الكدية، وإفراط الإلحاف، فرفع إليه أشعاراً قديمة كان مدحه بها، وأضاف إلى ذلك قصيدة أستجدها عند وصوله إليه، ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم مما زود به - فيما بلغني - أكثر من ستة وثلاثين مثقالاً، فطبع عليها وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها، سقطت من حفظي، ووجه بها إليه فلم يجاوبه عن القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه. وكان هذا الرجل - أعني الحصري الأعمى - أسرع الناس في الشعر خاطراً إلا أنه كان قليل الجيد منه، فحركه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:
قل لمن قد جمع العل ... م وما أحصي صوابه
كان في الصرة شعر ... فتنظرنا جوابه
قد أثبناك فهلا ... جلب الشعر ثوابه
ولما أتصل بزعانفة الشعراء وملحقي أهل الكدية ما صنع المعتمد - رحمه الله - مع الحصري تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق، فقال في ذلك رحمه الله:
شعراء طنجة كلهم والمغرب ... ذهبوا من الأغراب أبعد مذهب
سألوا العسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق فأعجب وأعجب
لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا ساواهم في المطلب هذه هي كل النتف والشذرات التي عثرت عليها في كتب التراجم لذلك العهد السحيق. وكل هذه التراجم - إن صحت تسميتها بذلك - لا تكشف لنا عن حياة الشاعر، ولا تبين مقدار قوة شاعريته أو ضعفها، ولا توضح أثره في الأدب، ولا تتناول أدبه بالنقد والتحليل. والذي يستوقفني منها بصفة خاصة قول المراكشي: (كان هذا الرجل أسرع الناس خاطراً في الشعر) وقول أبن بشكوال نقلاً عن الحميدي (إن شعره كثير، وأدبه موفور)، فأين ذلك الأدب الموفور والشعر الكثير الذي واتاه به طبعه الدافق في يسر وسهولة؟ أين قصائده في الهجاء الذي (كان يتلفت إليه تلفت الظمآن إلى الماء؟) أين قلائده التي قلد بها ملوك الطوائف حتى تهادته تهادي الرياض بالنسيم، وتنافسوا فيه تنافس الديار في الأنس بالمقيم؟ أين خرائده في الوزراء الذين أغدقوا عليه النعم؟ أين أين ذلك الشعر الرخيم؟؟ لقد غمره طوفان الفناء فيما غمر، ولم يبق له جرس ولا أثر، والمسؤول عن ذلك هو الحصري نفسه فهو الذي أهمل ولم يحسب لذلك الطوفان حساباً، ولم يدون من شعره غير كتاب اقتراح القريح واجتراح الجريح. ولدينا مجموعة صغيرة من شعره في الغزل والنسيب أسمها (معشرات الحصري) سنتكلم عنها بعد أن نروي لك كثيراً من شعره في اقتراح القريح. . .
أحمد صقر