مجلة الرسالة/العدد 152/الأدب بين الخاصة والعامة
→ من أدينا المجهول - شاعر يرثي ولده بديوان | مجلة الرسالة - العدد 152 الأدب بين الخاصة والعامة [[مؤلف:|]] |
للتأريخ السياسي ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
لامرتين ورينيه جارد
للسيد اسكندر كرباج
(تتمة)
ثم يقول لامرتين: نبّه فيَّ هذا الحوار فكرة وضع قصص شعبية إجابة لرغبة تلك الفتاة الكريمة. لقد عشت طويلاً في الأكواخ والحقول والثكنات وعلى ظهر البواخر وفي أعالي الجبال، وعاشرت العمَّال والمزارعين والجنود والنوتية والرعاة والخدم الذين يؤلفون قسماً من عيالنا؛ وتحدثت إلى هذه العقليات الساذجة الصالحة، وخبرت عاداتها وميولها ولغاتها أكثر مما خبرت عادات رجال المجالس وميولهم ولغاتهم؛ وكنت شاهداً بل أميناً لأسرار حياة ثماني شخصيات خاملة ولكنها حافلة بنوب وآلام خفية إذا دونّت بسذاجة كما روُيت كانت قصائد حقيقية طافحة بالشعور والإحساس؛ وأعرف الأماكن والحوادث والأشخاص معرفة تامة، فسأحاول كتابة هذه القصص ونشرها أجزاء متتابعة دون أقل اهتمام بفخامة الطبع والورق أو طرافة الأسلوب وأناقة الجمل وشحذ القريحة وكدّ الذهن، لأن الطبيعة هي روح هذا النوع من الأدب، والطبقات الوضيعة أقدر على إدراكها والاستلهام بها من الطبقات العالية؛ فإذا وجدتها في هذه الرسوم العارية من زخارف الفنّ استرقتها واستزادت منها. عندئذٍ تتقدَّ أيدٍ أجد من يديَّ وأبرع لوضعها بصورة أفضل، لأن الأدب الشعبي لا يكتمل إلا بالمؤلفات العاطفية التي هي من مميزات الطبقات الجاهلة، وإنجيل العاطفة كإنجيل الدين يجب أن يُبشَّر به أولاً بين البسطاء بلغة سليمة كقلب الطفل
وأراد لامرتين أن يطلع رينيه على آرائه فيما يتعلَّق بكتابة التأريخ الشعبي فقال لها: لا يزال رجال السلطة يمالئون الشعب ويتوددون إليه لاعتقادهم أنه مصدر القوة التي يجب أن يعتمدوها في إسقاط الحكومات وابتلاع الوطنيات، فيستغوونه بشتى الوسائل، ويمثلونه بقولهم إن قوته تولد الحق، وإرادته العدل، ومجده يكتسب عفو التأريخ، وانتصار قضيته يبرر كل الوسائط، حتى الجرائم تخف أمام عظمة النتائج، فيؤمن بهم ويتبعهم ويساعدهم بقواه المادية، وبعد أن يتوصلوا بقوة سواعده وإهدار دمه وارتكاب جرائمه إلى إسقاط الطغاة وإثارة أوربا يصرفونه ويأمرونه بالعمل والصمت!
هذه هي الطريقة التي سلكوها إلى الآن في معاملة الشعب وكانت سبباً لانتشار شوائب البلاط بينه واستلذاذه التملق.
ليس هذا ما نريده للشعب؛ نريد أن يقابلنا واقفاً، ويخاطبنا وجهاً لوجه، فهو كسائر عناصر الأمة لا يقل قيمة عنها ولا يزيد؛ وإذا كان قد تعوَّد الكذب والممالأة، ففيه خلتان كبيرتان لا يجوز نسيانهما، هما الصراحة والجرأة. لذلك هو يعرف أن يحترم مقاوميه ويحتقر متخوفيه. ففي الحيوانات مالا يفترس إلا من يهرب من أمامه، والشعب كالأسد يجب ألا يجابه إلا من الأمام
يقوم التأريخ الشعبي على واحدة من هذه القواعد الأساسية الثلاث: المجد، والوطنية، والمدنية. فالمجد لا يرضى إلا أمة حربية تبهرها القوة فتعمى عن رؤية الحق؛ والوطنية تضرم نار الحمية في الشعب فيطوح بنفسه في مهاوي الأثرة والطموح
أما المدينة المستديمة فهي الأصلح لقيادة الفكر البشري بين شعاب الشك وبلبلة الآراء والأهواء والأثرة الفردية أو الوطنية، ولإفهامه أن المجد والوطنية لا ينفعان الأمة والنوع البشري إذا فصلا عن الأدب العام، لأن المجد لا يقاوم الصلاح، والوطنية ليست عدوَّة الإنسانية، والفوز لا يمكن أن يكون خصماً للعدالة، وأن التأريخ ليس هذا المزيج من الأفراد والأشياء المشوشة، بل هو خطوة إلى الأمام في طريق الدهور، إذ لكل أمة شأنها وعملها العظيم، ولكل طبقة اجتماعية أهميتها في نظر الله. وفضلاً عن ذلك فقيام التأريخ على هذه القاعدة يعلم الشعب أن يحترم نفسه، ويعرف مقدار قوته ونفعه، وأنه فوق الإمبراطورية والسلطة، وأن هذه تكون كما يريد، فإذا وجد شعباً يشكو من حكومته فهو دليل على أنه لا يستحق غيرها، هكذا كان تاسيت يفتكر في زمانه، ولا تزال فكرته تجري مجرى الأمثال إلى اليوم
واعتزامي كتابة التأريخ على هذه القاعدة نبّه فيّ فكرة قديمة كنت عرضتها على الحكومة فلم تصادف القبول، لأنها ليست آلة للحرب والتدمير بل للسلم والبناء. وهذه الفكرة هي أن حرية الصحافة وديموقراطية الحكومة وحركة الصناعة وانتشار التعليم في كل قرى البلاد وبين كل طبقات الشعب أنار الأذهان ورغب في المطالعة، وبعد أن أوجدوا في الشعب هذا الميل إلى القراءة فما هي المؤلفات التي وضعوها له؟ لا شيء!
إن لأبناء الطبقات الغنيّة كثيراً من المدارس العالية حيث يسمعون شروح كبار الأساتذة في كل أنواع العلوم والفنون، وإذا لم تكفهم المدارس فعندهم المكاتب الكبيرة والصحف التي تحمل بين دفاتها ما يغذّي العقل والفكر والروح من المواضيع الشائقة. أما أبناء الطبقات الفقيرة العاملة ومنهم الجيوش والبحّارة والرعاة والشيوخ والنساء والأولاد فكل ما عندهم لتثقيف عقولهم وتسلية نفوسهم في أوقات الفراغ هو التعليم المسيحي وبعض الأناشيد المشوهة والقصص السخيفة، فمن هذه الكتب القليلة التافهة تتألف مكتبة الشعب ومتحفه وفنّه!
فأردتُ ملء هذا الفراغ في حياة الشعب الأدبية والعقلية بكتاب لا يقرأ إلا مرة واحدة، ولكن لا أول له ولا آخر، وأعني به صحيفة يومية كبرى يتولى تحريرها نخبة من كبار علماء العصر وكتابه وشعرائه، بلغة سهلة بسيطة، وتعابير قريبة من أفهامه تطلعه على أهم أخبار الكون اليومية وسياسته وفلسفته وعلومه وفنونه. وتحقيق هذه الفكرة لا يكلف أكثر من مليون فرنك سنوياً يكفي لجمعها أن يكتتب مليون شخص بفرنك واحد في السنة؛ وإذا كنت لم أحقق هذه الفكرة فلأني لست وحدي هذا المليون، ولأنه لا توجد في فرنسا حالاً فكرة تساوي فلساً واحداً!
هذه هي فكرتي يارينيه فيما يختص بالتأريخ والأدب والشعر والعلوم والفنون التي يجب أن تكتب للشعب؛ ولا أحب إلى الطبقات الفقيرة ولا أجمل وأبلغ من تحقيق هذه الفكرة. ولو أن لي ذكاء الكتاب المعاصرين وشبابهم واندفاعهم لقمت بأعمال عظيمة في عالم الفكر والثقافة، فأمامنا عالم جديد للاكتشاف لا يتطلب عبور المحيط ككولومبوس، هو إحساس الطبقات العاملة وعقلياتها، فجغرافية العالم الأدبية لا تكتمل إلا متى اكتشفت هذه القارة الشعبية وملئت بمبادئ بحارة الفكر
فتقول له رينيه: لقد فهمت كل أفكارك يا سيدي على رغم سموها وجمالها
فيجيبها: لم أخاطبك إلا كشاعرة، والشعب شاعر أيضاً لأنه طفل الطبيعة الفطيم، والطبيعة كخالقها لا تتكلم إلا بلغة الصور. . .
ثم تودعه رينيه وتودع زوجته شاكرة لهما حسن الضيافة، وتسافر إلى إكس في مركبة المساء، وقبل أن تصعد إلى المركبة يقول لها لامرتين: (إذا وضعت بعض القصص الشعبية فاسمحي لي أن أصدر أوولاها باسمك)
اسكندر كرباج
من العصبة الأندلسية