مجلة الرسالة/العدد 152/منْ هنا ومنْ هناك
→ البَريدُ الأدَبيّ | مجلة الرسالة - العدد 152 منْ هنا ومنْ هناك [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
من العلم إلى الأدب
كثير من العلماء هجروا العلم إلى الأدب ولم يستطيعوا الجمع بينهما كما فعل ابن سينا مثلاً حين جمع الأدب إلى الطب والحكمة أو كما فعل الكندي والبيروني
والعصور الحديثة ملأى بأمثلة ذلك
فذلك إبسن الكاتب النرويجي العظيم (1828 - 1906) وواضع الدعامة الأولى للأدب المسرحي الحديث قد نشأ ليكون أول أمره كيميائياً، ولكنه وجد هواه في كتابة الدرامة، فصبأ من الكيمياء إلى الأدب. . . وفرغ له وبرع فيه
وجوته أيضاً كاد يكون عالماً يبحث في الألوان ويضع الأصول للرسم والنحت ويؤلف في الأزهار وفلاحة البساتين، فلما تفتح قلبه للحب قذفت به حبيباته الثماني عشرة إلى الأدب فنبغ فيه نبوغاً يكفي لوصفه أن يقول فيه كارليل (إنه أعظم أدباء العالم) ولم يستثن حتى شاكسبير - وهذه مبالغة لا شك من صاحب كتاب الأبطال
والكاتب الإنجليزي الكبير هـ. ج. ولز هو الآخر، فلقد تعلم الكيمياء في صغره، ثم هجر المدرسة ليكون تاجراً، ولكنه أحس ميلاً ملحاً إلى التعليم، فصارع ظروف الدهر وتصاريفه وانتسب إلى جامعة لندن وكد وكدح حتى نال درجة في العلوم وعين بالفعل أستاذا لعلم الحياة (بيولوجيا) ولبث في منصبه لمدة ثلاث سنوات، ثم شعر بشغف شديد إلى الصحافة، فاعتزل منصبه واحترفها، ثم أيقن أن الله خلقه ليكون أديباً فهجر الصحافة واحترف الأدب، فها هو اليوم أكبر كاتب اجتماعي في العالم وكتبه تطبع بالملايين!!
وكذلك الكاتب الأرلندي المعروف جورج مور، فانه كرس حياته في فجر شبابه ليكون فناناً، وفتنه الرسم والتصوير، ونال فيهما أعلى الدرجات من جامعات لندن وباريس، ولكنه بعد ذلك كله شعر بسحر الأدب ينفث في قلبه، وذلك بتأثير إدمانه قراءة الأديب الفرنسي العظيم أميل زولا فشرع يكتب قصصه الخالدة التي ينهج فيها نهج أستاذه
جوركي وروسيا السوفيتية
اشتهر مكسيم جوركي في جميع أنحاء العالم بأنه أديب الصعاليك، وذلك لأنه يجيد الكتابة عن هذه الفئة إجادة لا يجاريه فيها أحد من الأدباء. وفي الحق أن جوركي يكتب عن الخد وأوشاب الناس وأبناء الشوارع كأنه واحد منهم، حيَ حياتهم وتخلق بأخلاقهم. وكان الأدب معواناً له على التغلغل في خبايا نفوسهم، فهو يصف لك خلجات العرابيد وقطاع الطرق والقتلة ومن إليهم، فتحس من وصفه أنك تجالسهم وتنغمس فيهم! وكل ذلك بأسلوب أخاذ وعبارة رشيقة، تذكر القارئ بمواطنه البائس دستوئفسكي
وقد كانت الحرب الكبرى وبالاً على جوركي، فلقد ذاق طوالها من ضروب الفاقة والعوز ما كان تصديقاً من الزمان الصارم على ما جاء في كتبه من وصف البؤس وذكر البائسين! ولما وضعت الحرب أوزارها، وقام في روسيا هذا النظام البلشفي العنيف اشتد الفتك بالناس هناك، وذاق الأهلون - ولا سيما الأدباء - ألواناً من الفاقة والعوز تنفطر من هولها القلوب! وذهب أديب إنجلترا الكبير هـ. ج. ولز ليجول جولة في هذه البلاد التاعسة، وحل ضيفاً على صديقه جوركي!!
وكانت حكومة الاتحاد السوفيتي قد أعدت له قصراً من أفخم قصورها لينزل فيه. . . ولكنه آثر القرب من جوركي إعزازاً للصداقة وإيثاراً للأخاء. . . فلما ذهب إلى منزله راعه هذا البؤس الذي خيم في منزل أكبر أدباء العالم، وهالة العوز الشديد الذي كان يعانيه صديقه. . . فما كان منه إلا أن تولى هو النفقة على المنزل طيلة وجوده فيه!
وكان جوركي يلبس أسمالاً لفتت أنظار ولز، فباسطه وسأله إن كان لديه ملابس؟ فتبسم جوركي وذكر أنه لا يملك غير البدلة الممزقة التي يرى! وكان معهما الكاتب الروسي الكبير (أمفيتياتروف) فانتهز هذه الفرصة السانحة وسأل ولز أن ينزل له عن (طقم) من ملابسه حين يعتزم العودة إلى إنجلترا! وقد فعل ولز، فانه أهدى أكثر ملابسه الخارجية إلى جوركي، وأكثر ملابسه الداخلية إلى (أمفيتياتروف)! ولم يفت ولز أن يذكر هذه الوقائع في كتابه عن هذه الرحلة:
ولقد شب جوركي مع البؤس في مهد واحد، فلقد ولد سنة 1868، ثم مات أبوه وهو يحبو على أربع، وكفلته أمه الفلاحة القروية، وعمل خادماً على ظهر سفينة من تلك السفن التي تمخر عباب الفلجا، ثم صار خبازاً فحمالاً فبائع تفاح! وبسم له الحظ فالتحق بوظيفة كتابية في مكتب محام. . . وبرم بالعمل ثمة فهرب إلى جنوب روسيا يذرع الرحب ويطوي الفيافي. . . ثم ظهرت مواهبه فجأة سنة 1892 حين شرع يكتب أول قصصه ويبعث بها إلى المجلات
والعلاقة أكيدة موثقة بين الأدب الروسي والنظام البلشفي، وهو يكاد يكون في صميمه أدب الفقراء. . . ومن هنا اعتزاز حكومة السوفييت بجوركي وغمرها إياه بالهبات والأعطيات حتى لقد كادت حياة الترف تتخمه عن أعز ما هيأته له الحياة ألا وهو أدب الصعاليك!
والمدهش أن يرضى جوركي عن الطاغية ستالين، ويؤلف القصص تحبيذا لسياسته التي هي سياسة تخريب العالم. . . وهذا ما أفقده عطف أعضاء لجنة نوبل، فلم يحظ بجائزتها إلى الآن، مع أنه أحق بها ألف مرة من كثيرين من نكرات الأدباء والأديبات الذين نالوها
وسنفرد قصص جوركي بكلمة خاصة
أدب التراجم
من المؤلم جداً أن يكون التاريخ العربي مليئاً بهذا العدد الوافر من الفلاسفة والعلماء والأدباء ولا تروج كتب التراجم عنهم بيننا، أو لا نجد من أدبائنا من يترجم لواحد منهم مع أن أحدهم جدير بأكثر من كتاب يؤلف عنه
اقرأ هذه الأسماء: الكندي. ابن سينا. ابن رشد. البيروني. ابن منظور. القلقشندي. الأصمعي. ابن أبي أصيبعة. الجاحظ. النويري. . . . . الخ. أفنحن قوم يقدرون تراثهم؟ نحن لا ننكر أن غير واحد من أدبائنا طرق هذا الميدان البكر، ولكننا إذا استثنينا أبا العلاء والغزالي وبن خلدون ورسالات مقتضبة عن الكندي والبهاء زهير والليث بن سعد وجدنا أننا فقراء جداً إلى كتب التراجم
اللغة العربية منذ مائة عام
لما أنشأ المغفور له محمد علي الكبير دار صناعة الإسكندرية لصنع السفن الحربية لم يمض غير قليل حتى صار لمصر أسطول عظيم مرهوب الجانب. وكانت كلما أنزلت إحدى القطع من دار الصناعة إلى البحر أقيمت الحفلات وتبودلت الخطب على نحو ما يجري هذه الأيام في الممالك العظيمة مما نشاهد صوراً منه على الشاشة الفضية في دور السينما. والآن اسمع هذه الكلمات في وصف البارجة (الإسكندرية) عند نزولها إلى البحر: (الوقائع المصرية عدد 340 يناير سنة 1832) (ان الغليون ذا الهيئة السنية، المجلي باسم الاسكندرية، تعريف انشاء آلاته البهية، وعمل أدواته الحربية، ووصف أبعاده الثلاثية، قد تقدم ذكره الشائع، واندرج في سلك السطور والوقائع. والمراد ذكره الآن قطع حبال تعلقاته من القطر البري، ليطير بأجنحة العنقاء في القطر البحري، وقد وافق هذا غرة شعبان المعظم في الساعة الرابعة من النهار، حيث تجلت مشاهد الأنوار. وكان ذلك بحضرة جميع الأمراء والعظماء، وزمرة الصلحاء والعلماء، وقناصل الدول المستأمنين، وقاطبة الأهلين، مع جملة أولادهم الكبار، وعيالهم الصغار، وكانوا لدى ساحة الترسانة الواسعة الأرجاء، منتشرين كنجوم السماء. وأما سعادة أفندينا ولي النعم فانه ركب الفلك بحرا، وهلم جرا، واستصحب بمعيته أحد رجال الدولة العلية. . . . . .)
ومسكينة اللغة العربية في (هلم جرا) التي حشرت هنا حشرا!
والآن، ما رأى الأستاذ الزيات في الطفرة التي طفرتها اللغة العربية في العشرين سنة الأخيرة؟ ألسنا قد شأونا عصر ابن المقفع وأحمد بن يوسف والهمذاني وعبد الحميد الكاتب؟
صمويل بطلر والأسرة الإنجليزية
كانت الأسرة الإنجليزية من قبل العصر الفكتوري إلى أواخر القرن التاسع تشتهر بجمودها وركودها وتقديسها لسلطة الأب تقديساً هو إلى الرجعية أقرب منه إلى الاحترام. فلم تكن لأحد في المنزل إرادة بجانب إرادته، وكانت الأم نفسها خادمة لا أكثر. . . تكدح طول يومها في المطبخ أو المغسل، أو تعد الحطب للمدفأ، وهي في كل ذلك لا تألو جهدا في تلقين الأطفال محبة الوالد، وكبت غرائزهم الثورية كلما بدرت منهم بوادر التململ أو التبرم بهذا التقديس الخانق لسلطة الأب. . . وكان أكبر العبء واقعاً على الفتاة. . فلم يكن يسمح لها بتعرف الحياة ولا تشمم نسيم الحرية المنعشة، وإذا تقدم أحد لخطبتها فما عليها إلا أن تنحني خاضعة لمشيئته
ولقد كان الأدب في العصر الفكتوري، برغم ما فيه من صور حلوة وطرف براقة يساعد على هذا الركود المنزلي، ويضاعف من سلطة الأب؛ ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقد ظهر الكاتب النرويجي إبسن فجأة في الميدان؛ وإبسن هو أكبر نصير للمرأة في العصر الحديث؛ فقد ألف أكثر من عشرين درامة لنصرتها والإكبار من وظائفها المدنية التي تعدو الطبخ والغسل والخياطة وتفريخ الأطفال. وقد تأثر الأدباء الإنجليز بإبسن النرويجي وأخذوا ينتهجون منهاجه. وكان الأديبان الكبيران جورج جسنج وصمويل بطلر في مقدمة المتأثرين به. فقد ألف الأول كتابه سنة 1891 وألف الثاني سنة 1903 على ضوء إبسن
وصمويل بطلر هو أستاذ الكاتب الكبير جورج برنردشو. وما يزال شو يفخر بهذه التلمذة إلى اليوم، بل ما يزال يتغنى بمبادئ أستاذه العظيم ويرددها في جميع قصصه. وأهم هذه المبادئ الثورة الصارمة على جمود الأسرة ومنح أعضائها - غير الأب - كل حرية العمل في الحياة؛ فللفتاة أن تتزوج بمن تحب وليس لأبيها أن يحول بينها وبين مثلها العليا، فإذا شاء أن يقسرها على شيء فلها أن تثور عليه وتضرب بإرادته عرض الأفق؛ وللولد كذلك أن يستقل بنفسه عن أبيه، ويعمل وحده، ويقوي شخصيته. وعلى العموم كان يرى وجوب التحلل من مبادئ الطهريين وإطلاق الحرية للفرد. وغلا بطلر في ثورته على الآباء فسب أباه وهجاه فأقذع، وكأنه بذلك أفسح الطريق للشبان فقلبوا الأسرة في إنجلترا رأساً على عقب!
ومع أن نظرية التطور التي بهرت العالم أجمع كانت في عنفوانها في القرن التاسع عشر فقد وقف بطلر في صف المعارضين لها؛ ولكنه لم يقف في صف المتدينين دفاعاً عن الدين، بل وقف يدفع إيمان داروين بهذه المادية البحتة التي يرد إليها كل ما يحدث في هذا العالم من خلق ورقي. وكان يغيظ بطلر ما كان يقول به داروين من تنازع البقاء وبقاء القوى المحتال، فكان بطلر نصيراً للروحيين من العلماء وفي مقدمتهم العالم الفرنسي الكبير هنري برغسون ألد أعداء داروين
صيفية الفلاح
أوشك العام المدرسي أن ينتهي، وسيتبطل التلاميذ أربعة أشهر حتى يعودوا إلى مدارسهم، فلو أنصفوا لصرفوها في تعليم الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة. إن في مصر شعباً من الأميين لا يقل عن 85 % من مجموع سكانها، وليس في الدنيا عار أشد من الأمية في هذا العصر الذي نعيش فيه. فلو أن كل تلميذ مصري أخذ على عاتقه أن يعلم فلاحاً مصرياً أو فلاحين في الإجازة الصيفية القادمة لانخفضت نسبة الأمية في وطننا العزيز إلى 80 أو 75 % ونكون قد اقتدينا بالهند التي تحاول أن تصلح من شأن المنبوذين وتنتفع بالبقرة!! فهل يفعل التلاميذ؟
د. خ