مجلة الرسالة/العدد 152/بعد انهيار الحبشة
→ العجوزان | مجلة الرسالة - العدد 152 بعد انهيار الحبشة [[مؤلف:|]] |
امتزاج الأحاسيس ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
الخطر الفاشستي والصراع بين الفاشستية والإمبراطورية
البريطانية
لباحث دبلوماسي كبير
انتهت أعمال القرصنة الإيطالية في الحبشة إلى نتيجة لم يتوقعها كثيرون من رجال الحرب والسياسة؛ فقد انتهت بانهيار قوى الحبشة بسرعة، وسقوط قواعدها في يد العدو المغير بلا مقاومة، ومثول عاهلها الإمبراطور إلى الخارج، تاركاً ملكه ووطنه وأمته إلى مصاير مجهولة. واستطاع موسوليني زعيم الفاشستية المعتدية أن يعلن خلال مناظر مسرحية ضم الحبشة لإيطاليا وتعيين ملك إيطاليا إمبراطورا للحبشة
ومن العبث أن نحاول التحدث هنا عن أسباب انهيار المقاومة الحبشية بتلك السرعة المدهشة بعد أن استطاعت أن تصمد في وجه العدو أشهراً، وأن تقف زحفه سواء في الشمال أو الجنوب حتى شهر مارس الماضي؛ ولكن المحقق أن هذا التطور الفجائي في أقدار الحرب يرجع قبل كل شيء إلى التجاء الإيطاليين، بعد أن عجزوا عن التغلب بوسائل الحرب المشروعة إلى استعمال وسائل الحرب المحرمة كالغازات القاتلة وغيرها؛ وهكذا استطاعوا بتلك الوسائل المجرمة أن يمزقوا صفوف الأحباش، وأن يلقوا الروع في نفوس الشعب الحبشي بأسره، هذا إلى ما يذاع من أنهم استطاعوا أن يبثوا بالرشوة والإغراء كثيراً من أسباب الشقاق بين مختلف الرؤوس والزعماء
على أن هذا النصر المثير الملوث بأدران الجريمة، والذي يعتبر بحق قرصنة استعمارية محضة، لم يمنع الفاشستية الإيطالية من أن تزفه إلى العالم نصراً رومانياً للحضارة والمسيحية المتمدنة، على بلاد همجية تتوق إلى الانظواء تحت السيادة الإيطالية الظليلة، والأخذ بأسباب الحضارة الإيطالية الزاهرة! ولم يمنع زعيم الفاشستية من أن ينوه بأسلوبه المسرحي بعظمة هذا النصر الفاشستي، وبأنه عنوان ساطع لقوة إيطاليا الفتية، وأن يتوعد أوربا والعالم كله بأنه على استعداد لأن يسحق أية قوة أو دولة تحاول أن تقف في سبيله أو تحاول أن تحرمه من ثمار ظف ولو عيد موسوليني مغزاه، ذلك أن إيطاليا تستقر الآن في الحبشة بقوة الفتح فقط، ولكن هذه الحقيقة الواقعة لا يمكن أن تعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية، وإنما تنتقل المسألة الحبشية الآن من ميدان الحرب إلى ميدان الحوادث الدولية والصراع الاستعماري. ولنذكر دائماً أن ما أبدته عصبة الأمم من إقدام في الحكم على إيطاليا بالاعتداء وتوقيع العقوبات الاقتصادية عليها يرجع قبل كل شيء إلى تدخل إنكلترا ونفوذها؛ وإنكلترا لم تتدخل ولم تعمل لتنظيم هذه الحركة الدولية تأييداً لميثاق العصبة ومبدأ السلامة المشتركة فقط، ولكن لأن الانتصار الفاشستي في الحبشة يهدد صرح الإمبراطورية البريطانية ومصالحها الحيوية بأعظم الأخطار
وقد عقدت الآمال من قبل على تدخل العصبة وجهودها؛ وما زالت العصبة على موقفها من استنكار عمل إيطاليا وتأييد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها؛ وربما اتخذت إجراءات أخرى في هذا السبيل في اجتماعها الذي سيعقد في الخامس عشر من يونيه؛ ولكنا نستطيع منذ الآن أن نضرب صفحاً عن الدور الذي يمكن أن تؤديه العصبة في حل المشكلة الحبشية بعد أن انهار تدخلها، ولم تستطع أن تنفذ كل ما يقضي به ميثاقها للتوسل إلى إرغام المعتدي على وقف الاعتداء
والآن ينكشف النضال واضحاً عن معركة دولية ذات وجهين: أحدهما قد أتخذ حتى اليوم ستاراً للآخر؛ فأما الوجه الأول فهو مبدأ السلامة المشتركة طبقاً لميثاق عصبة الأمم، وهو المبدأ الذي انتهكته إيطاليا بغزو الحبشة، وحاولت العصبة تأييده بفرض العقوبات؛ فالدول الصغرى من أعضاء العصبة تتساءل اليوم، هل في وسعها أن تعتمد في سلامتها الخاصة على تطبيق هذا المبدأ بعد الفشل الذي لحق العصبة في وقف الاعتداء الإيطالي؟ أم هل يجب عليها أن تبحث عن وسائل عملية أخرى كعقد المواثيق المحلية لتأمين سلامتها؟ إن ما ارتكبته إيطاليا في الحبشة يمكن أن ترتكبه غداً في تركيا، أو في اليونان، ويمكن أن ترتكبه ألمانيا في النمسا أو هولنده أو لتوانيا، ويمكن على وجه العموم أن ترتكبه أية دولة قوية ضد أية دولة ضعيفة دون أن تجد وازعاً كافياً لوقف عدوانها؛ فأنصار عصبة الأمم يرون في هذا الطور الحاسم من تأريخ العصبة أن لا أمل في نجاح مبدأ السلامة المشتركة ما لم يعدل دستور العصبة في هذا الشأن تعديلاً وافياً، وتنظم العقوبات الاقتصادية والعسكرية التي تطبقها العصبة على المعتدي تنظيماً يكفل أثرها في وقف الاعتداء المسلح بسرعة؛ وخصوم العصبة يرون أن التجربة الحبشية كانت حاسمة، فعلى عصبة الأمم أن تعلن إفلاسها، وعلى الدول أن تعتمد على وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها؛ وتقف الدول الصغرى فيما بين ذلك حيرى، ولكنها تعمل من جهة أخرى على تنظيم وسائل الدفاع عن نفسها جهد المستطاع
وأما الوجه الثاني من هذه المعركة الدولية، فهو نشوب النضال بين قوة عسكرية جديدة طامحة، هي الفاشستية الإيطالية، وبين إمبراطورية استعمارية عتيدة، هي الإمبراطورية البريطانية؛ ولم يكن خافياً منذ البداية أن نشاط السياسة البريطانية في توجيه عصبة الأمم إنما هو مرحلة فقط من مراحل النضال الحقيقي؛ والآن وقد انتهت هذه المرحلة بظفر العسكرية الفاشستية، وهزيمة السياسة البريطانية، فأن النضال يوشك أن يدخل طوره الثاني؛ وقد أدركت بريطانيا العظمى منذ البداية ما تهدد به تلك الفاشستية المضطرمة الطامحة، سيادتها في البحر الأبيض، وما يهدد به ظفرها في الحبشة سيادتها في وادي النيل وشرق أفريقية؛ وسيادة الإمبراطورية البريطانية ومواصلاتها، صرح لا يتجزأ، فأي صدع يصيبها يعرض البناء كله للخطر؛ ولم تخف الفاشستية ولا سيما منذ ظفرها في الحبشة، أنها تداعب حلماً إمبراطورياً ضخماً، وما فتئ زعيمها يتحدث عن أحياء الإمبراطورية الرومانية؛ وليس من ريب في أن السياسة البريطانية ترى في هذه العسكرية الطامحة المتجنية، المعتدة بقوتها، المعتزة بظفرها، خطراً عظيماً على كيان صرحها الإمبراطوري، تزمع سحقه بأي الوسائل
- 2 -
وليست إنكلترا وحدها هي التي تستشعر ذلك الخطر العسكري الجديد الذي تهب ريحه على أمم البحر الأبيض بنوع خاص، بل إن أمم أوربا كلها تستشعر به وتخشى تفاقمه؛ وإذا كانت ثمة دول مثل فرنسا وألمانيا والنمسا تنظر إلى نهوض الفاشستية بعين الإغضاء، وربما بعين الرضى، فذلك لظروف خاصة مؤقتة لا تلبث أن تزول فتشعر هذه الأمم بنفس الشعور الذي يثيره ظهور عسكرية جديدة جامحة تحتقر العهود والمواثيق الدولية وتجعل شعارها القوة الغاشمة دون غيرها وأمامنا التأريخ الأوربي الحديث، يعيد نفسه دائماً؛ وفي رأينا أنه سيعيد نفسه في القريب العاجل مرة أخرى
ذلك أن أوربا، وإنكلترا بنوع خاص، لم تتسامح قط في أمر العسكريات القوة المعتدية؛ ولم تنهض في أوربا أية عسكرية قوية طامحة، خلال القرون الأربعة الأخيرة، إلا اجتمعت أوربا على مقاومتها وسحقها
وقد كانت العسكرية البروسية آخر عسكرية من هذا النوع، لقيت مصرعها في الحرب الكبرى
ومنذ القرن السادس عشر يعيد التأريخ الأوربي الحديث نفسه في هذا الميدان بصورة واضحة؛ ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت العسكرية التركية تجول ظافرة في جنوب شرقي أوربا وأواسطها حتى حدود بولونيا، وقد اجتاحت حوض الدانوب حتى أسوار فينا، وحاصرت العاصمة النمسوية مرتين، فما زالت أوربا حتى حطمت هذه النهضة العسكرية الخطرة في البر والبحر، وردتها إلى ما وراء الدانوب، وحرمتها من كل ثمار ظفرها؛ وفي القرن السابع عشر، قام لويس الرابع عشر يهدد سلام أوربا الغربية بأطماعه ومغامراته العسكرية، فما زالت الدول الخصيمة وفي مقدمتها إنكلترا والنمسا حتى سحقت قواه العسكرية، بعد سلسلة من الحروب الطاحنة؛ وفي أوائل القرن الثامن عشر كان كارل الثاني عشر ملك السويد يجتاح بجيوشه ضفاف البلطيق وغرب روسيا، ويهد التوازن الأوربي في شرق أوربا، فما زالت روسيا حتى سحقت مشاريعه وقواه
وربما كان أعظم مثل في التأريخ الحديث لذلك الصراع الخالد في سبيل التوازن الأوربي، وسحق العسكريات الجامحة، مثل نابليون بونابرت؛ فقد ظل هذا الجندي العظيم الطامح يقود جيوشه الظافرة في جنبات أوربا مدى عشرين عاماً، ويبسط سيادته على معظم الدول الغربية والوسطى، ويعمل بكل ما وسع لتحطيم سيادة إنكلترا في البحر الأبيض؛ ولكن إنكلترا لبثت تطاوله وتصارعه وتؤلب عليه الدول الخصيمة، حتى انتهت بسحقه وتحطيم ذلك الطغيان العسكري الشامل الذي بسطته الإمبراطورية على أوربا زهاء عشرة أعوام
وقد رأينا كيف اجتمعت أوربا الغربية، وفي مقدمتها إنكلترا، أثناء الحرب الكبرى، لتحطيم العسكرية البروسية، التي وثبت تهدد العالم بأطماعها الجائشة في السيادة والإستعمار، وكيف لقيت مصرعها بعد حرب كانت أروع ما شهد التأريخ
والآن يبدو الخطر الفاشستي في الأفق، وتنذر العسكرية الفاشستية الجامحة بتحطيم التوازن الأوربي في شرق أوربا وفي وسطها، وتتحدى بالأخص سيادة إنكلترا البحرية في البحر الأبيض؛ وقد زادها انتصارها في الحبشة زهواً وتحدياً، فهل تصبر أوربا، وهل تصبر إنكلترا بنوع خاص حتى يتفاقم الخطر الفاشستي كما تفاقم الخطر البروسي قبيل الحرب؟ هذا ما لا نعتقد، وفي يقيننا أن الإمبراطورية البريطانية تتأهب لخوض ذلك الصراع التقليدي الذي حرصت دائماً على خوضه لتحطيم ذلك الطغيان العسكري الجديد الذي يهدد سيادتها ومصالحها الحيوية في البحر الأبيض وفي شرق أفريقية، وإذا كانت السياسة البريطانية ما زالت تبدي بعض الفتور والتردد في العمل الحاسم فذلك لأن مصاير الحرب والتسليحات الحديثة قد اتخذت وجهة جديدة، ولم تعد السيادة البحرية وحدها كافية لأن تملي بريطانيا كلمتها؛ ومن تقاليد بريطانيا المأثورة أنها لا تتعجل الحوادث، ولا تسارع إلى قبول التحدي الطائش؛ وبريطانيا تزن اليوم أقدار الحرب والنضال بميزان جديد لم تستقر عوامله بعد؛ وقد يمضي وقت آخر قبل أن تنزل بريطانيا إلى ميدان العمل الحاسم
قد تستطيع الفاشستية الجامحة في نشوة ظفرها المزعوم، أن تزعج أوربا وإنكلترا، مدى حين بمشاريعها ووعيدها؛ ولكن الفاشستية تخطئ بلا ريب إذا هي اعتقدت أن الظفر ميسور في ميادين أخرى غير الحبشة، وأنها تستطيع في مكان آخر من أوربا، أو أفريقية، أن تستعمل وسائلها العسكرية المجرمة في تحقيق أحلامها الرومانية، دون عقاب أو وازع؛ وهنالك حقيقة لا ريب فيها، وهي أن الفاشستية قد بثت بمسلكها وغرورها ووعيدها مخاوف ما كان أغناها عن بثها، وأنها سترغم بلا ريب، في القريب العاجل، على خوض الصراع الحاسم؛ وليس من ريب في أنها ستسحق في هذا الصراع، كما سحقت كل عسكرية أوربية جامحة من قبلها.