مجلة الرسالة/العدد 152/امتزاج الأحاسيس
→ بعد انهيار الحبشة | مجلة الرسالة - العدد 152 امتزاج الأحاسيس [[مؤلف:|]] |
في حضرة الأمير فؤاد جلالة الملك الراحل ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قال المتنبي:
والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم
وأحسب أن المتنبي إنما أراد أن يصف الذليل المداجي الذي يظهر المودة ويخفي الضغينة والعداء، فيتودد ويتذلل حتى ينال من خصمه. وهذه صفة في ذوي الكيد والمكر والدهاء. ولكن هناك صفة أخرى في النفس الإنسانية تشبه هذه الصفة بعض الشبه، وهي صفة المحبة والمودة التي يحسها الخائف إحساساً حقيقياً لا مداجاة فيه إذا عجز عمن يخاف منه وألف الخوف فأزالت أُلفة الخوف غلواءه، وأزالت الرغبة في التخلص منه. وأبعدت هي والعجز أمل الانتقام من أجله، فتحول إرادة المحافظة على الحياة ذلك الخوف المألوف محبة أو مودة تحاول بها نيل الزلفى لدى الإنسان المخوف من طريق الإحساس الصادق بالمحبة أو المودة. وتحاول أن تسل بها من قدرة المخوف حمة البغض وسم الضغينة. لأن إرادة المحافظة على الحياة تعلم أن مودة الرياء ومحبة النفاق قد لا تقنع، وقد تنكشف ويشف ثوب الرياء عما تحته فينال الخائف المرائي شراً إذا انكشف مداجاته وعرفت مداهنته، ومن أجل ذلك تبالغ إرادة المحافظة على الحياة في الحيطة والحذر، فتحول الخوف من الإنسان المخوف إلى حب له أو مودة كي تقنعه وتتقي بوادر شره، وهي أيضاً تحاول أن تقنع بتلك المودة نفس من يحسها. وتفهمها أن لا داعي لليأس من الحياة كي لا يرهقها الخوف واليأس؛ وهذا أمر مشاهد إذا قرأ الإنسان سِفْرَ الحياة وتقصي البحث في تكوين النفوس
وهذه المحبة قد تزول وقد تبقى بعد زوال أسباب الخوف. وقد تقوى أواصرها بعد الرهبة ولا سيما إذا حلت الرغبة مكان الرهبة، ووجدت النفس منفعة دنيوية أو نفسية لها عند من زالت أسباب الخوف منه؛ وقد تنقلب تلك المحبة إذا زالت أسباب الخوف مقتاً ورغبة في الأنتقام، فيحسبها الباحث أنها لم تكن إلا مداهنة ونفاقاً، وهي قد تكون ذلك، وقد تكون كما شرحنا محض المودة والشعور الصادق بها، لأن احساسات النفس تمتزج وتتحول وتتشكل أشكالاً وتتلون ألواناً في السرائر، فكأن في النفس البشريةَ سر الكيمياء الذي حاو الكيميائيون في القرون الوسطى معرفته كي يتمكنوا من تحويل معدن إلى معدن، فهذا التحول الذي وصفناه من كيمياء النفوس في معامل السريرة الخفية
وكما أن امتزاج الخوف والمحبة يشاهد في الأضداد البعداء من قوي مسيطر وضعيف ذليل، إذا تهيأت للأول أسباب القوة من جاه أو مال أو صحة، وخذلت تلك الأسباب الذليل الضعيف وقهرته على أن يعتمد على صاحب المال أو الجاه، فذلك الامتزاج يشاهد أيضاً في نفوس الأصدقاء والأوداء والأحباء والأقرباء. فكم من امرأة تحب زوجها حباً صادقاً أساسه الخوف منه؛ وكم من رجل يحب زوجه حباً صادقاً يخالطه الخوف؛ وكم من قريب يود قريباً، وصديق يود صديقاً وداً تمازجه الرهبة أو الخشية
وإذا تقصينا البحث وجدنا ما هو أعجب من ذلك فقد يمتزج البغض والحب في النفوس، فقد يبلغ العاشق منزلة من العشق تشرف على البغض والمقت لمن يعشق، وقد تتذبذب نفس العاشق بين الحب والبغض أو قد تجمعهما في وقت واحد، فهي تارة تريد الخير لمن تحب، وتارة تريد الشر، وتارة تجمع بين إرادة الخير وإرادة الشر - ويمتزج الإخاء والجفاء في نفوس الأصحاب، ويمتزج الاحترام والاحتقار في نفوس الجلساء والمتعاشرين، كما يمتزج الحب والبغض في نفوس العشاق، أو كما يمتزج الخوف والود في نفوس الضعفاء، فترى الصاحب أو الجليس يبالغ تارة في إخائه لصاحبه وجليسه ومعاشره ويكثر من إكرامه وإجلاله، وتارة يظهر له الجفاء وقلة الاكتراث أو العبث به أو الحط منه، وتارة يجمع في مجلسه بين النقيضين
وكل إنسان يشتكي هذه الصفة في النفوس، ولكل إنسان نصيب منها قل أو كثر وإنما يفطن إلى ما في نفوس الناس ولا يفطن إلى نصيب نفسه منها. وينقسم الناس في تدبر هذه الصفات ثلاثة أقسام: أناس يأبون الرضاء بها فيعتزلون الناس ما استطاعوا إلى العزلة سبيلاً؛ وأناس ينقدونها ويودون لو تكون النفوس على حال واحدة، ولكنهم يعرفون استحالة هذه الودادة فيقنعون بما هو مستطاع من النفس والحياة، وأناس لا يرون إعنات أنفسهم بالسخط على هذه الصفات النفيسة، ومنهم من يرى في تلون الناس وتقلبها وجمعها بين النقيضين رحمة أو تفكهة أو إراحة وترفيهاً، ويمقتون من لا يعاشرهم على هذه الخلال، وربما كان في قولهم شيء من الحق والصواب، وربما كنا نزهد في الحياة لو كانت نفوس الناس على حال واحدة لا تتغير، فإن الحال التي لا تتغير مدعاة السأم والملل كسأم الذي يعيش في مكان قفر موحش لا يرى منه إلا مظهراً واحداً لا يتغير في أرضه أو سمائه
ولعل من أشد العقوبات وأقساها أن يحكم على إنسان ألا يأكل طول حياته غير السُّكَّر، فهو قد يشتهيه في أول الأمر، فإذا طال به العهد اعتراه السأم والملل؛ وكذلك ربما كان الجفاء مدعاة إلى التمتع بالإخاء، وقلة الاكتراث مدعاة إلى التنعم بالإكرام، والبغض حافزاً إلى استمراء الحب، كما أن اللذة لا يحسها إلا من يستطيع الإحساس بالألم. وهذه فلسفة لا شك فيها، ولكن الكثير من أمزجة النفوس تأباها، إما لأنها مرهفة الحس فلا تنسيها اللذة الألم والإخاء الجفاء، وإما لأنها إذا أحست ألماً أو عانت جفاء أو قاست عداء لا تطمئن إلى زواله، وقد تستبطئ زواله فيدركها اليأس والحزن
والحزن من تقلب النفوس وتلونها واختلافها نفساً عن نفس وحالاً عن حال كثيراً ما يدرك الشاب القليل الخبرة بالحياة والنفس الإنسانية، فهو لغرارته يحسب أن الحياة على مثل واحد يرتضيه، وأن النفس على خلة واحدة يحمدها، فإذا فطن إلى تقلب النفوس وتذبذبها وقلة استقرارها وجمعها بين الأضداد، وإذا راعه كل ذلك بسبب غدر صديق أو جفاء جليس أو عبث عشير أو شر رفيق أو كيد أليف أو بغض حبيب كاد ينفطر قلبه أو كادت تنهار دنياه، ولكن أكثر الشبان يستطيعون إذا طال بهم العمر ومد لهم فيه أو يوفقوا بين الحياة وبين مثلهم الأعلى، أو تطغي الحياة وما تدعو إليه على مثلهم الأعلى فتمحوه ويصير كل منهم في مودته مثل مقياس الحرارة (الترمومتر)، فتارة ترتفع مودته إلى درجة الغليان، وتارة تنخفض إلى ما هو تحت الصفر من درجات البرودة. وقس على المودة غيرها من الاحساسات
وإنما تصلح الحياة وترقى وتملح إذا لم يمح تذبذب النفوس المُثُل العليا منها. وخير خطة للمرء ألا يحزنه تقلب النفوس واختلاط خلال النفس، وألا يدع هذا الاختلاط والتذبذب يطغيان على كل شعور نبيل، فيجمع بين الاطمئنان ونشدان المُثُل العليا إذا استطاع ذلك
عبد الرحمن شكري