مجلة الرسالة/العدد 152/القصص
→ انتظري بُغْضي. . . | مجلة الرسالة - العدد 152 القصص [[مؤلف:|]] |
درامة من أسخيلوس ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1936 |
من الحياة
الضحية. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
انحسر الليل عن جبين الفجر، والفتى لا يزال في مجلسه يشهد ليلة تنطوي، وفجراً يبزغ؛ وكأن الليلة لم تكن في فكره إلاّ ساعة، وكأنه وقد جلس يرقب سير الكواكب في أفلاكها كان ينتظر أن يقرأ فيها تتمة الرسالة التي قرأ أول كلمة منها أول الليل، فوجد فيها ما وجد من لذة ونشوة وسحر. لم ير في صفحة الكواكب السيارة، ولا في العالم الهادئ النائم المطمئن، إلاّ شيئاً كان في خياله هو وفي خواطره. جلس لا ليقرأ حظه في كتاب السماء، ولكن ليؤلف كتاباً من نفسه الطروب المرحة. . . وذهب إلى عمله وهو نشاط يشتعل؛ فهو يجيء ويذهب، ويقرأ ويكتب، ويتكلم فيبين، وكأن شيئاً فيه قد خلقه من جديد ليكون شخصاً غير الذي يعرفه في نفسه، ويكون إنساناً سوى ذلك الذي عرفه صحابته ورفاقه. ودخل إلى صديق يحدثه، يريد أن يفضي إليه ببعض ما يفوز في نفسه، ولكنه عاد فرأى أن ذلك الشيء الذي بعثه من جديد لم يكن إلاّ في نفسه لنفسه، فهو سره هو، وهو له وحده. . . ثم رجع إلى بيته ليطيل النظر إلى نفسه في المرآة يأمل أن تريه مرآته الشابّ الذي في قلبه، فلم ير إلاّ ما تريه المرآة كل يوم، ولكن هندسة عقله الجديدة قد بدت على هندامه وزيّه فكان جديداً حتى في هندامه وزيّه. أكلّ ذلك لأنه رآها أمس وجلس إليها وقال لها وقالت له. . .؟
ومضى الفتى على طريقه، وفتاته أمامه تنير له ما اظلم، وتفتح له ما استغلق، وقلبه ماضٍ على أثرها، وهو من وراء الاثنين: قلبه وفتاته، طيّع منقاد
وأبعد في السير، فباعد بين الفتى الجديد والفتى الذي كان، وعاد لا ينظر إلى الوراء إلاّ ليرى ذاك العريش الذي جلسا تحته لأول ما قال لها وقالت له. . . وكأن عمره قد أختُصِر في هذه الأشهر القليلة، ولكنه كان عمراً طويلاً
وخيّل إلى الفتى حين اجتلى النور من وجه صاحبته، وحين حاطه الشعاع الآسر من روحها ومن عينيها، وحين رأى الأمل يترقرق على شفتيها من ابتسامة رقيقة، خُيّل إليه حينذاك أنه عاش ما عاش من العمر أعمى لا يرى الحياة إلاّ مادة؛ أما الآن فهي عنده روح من الروح، وهي عنده شعاع يسطع في قلبه، فلا يزال يذكي روحه، ويرهف حسّه، ويشعره معنى الحياة الجميلة، ويحبّب إليه أن يعيش عَيْشَه مغموراً في هذا النور الآلهي الذي ولَده السالب والموجب من قلبها ومن قلبه
وتلاقيا على ميعاد. ونظر ونظرت، فإذا عصفوران يتساقيان الهوى على فنن؛ فقال في نفسه: (ما أتعس الإنسان! يقيد نفسه بأغلال المادة والتقاليد، ثم يزعم أنه طليق. ليتنا مثل هذين. . .!) وقال لها وقالت له. وكان كلاماً لا تلفظه الشفاه: من ذا يفهم لغة الطير، أو يسمع نجوى العاشقين عيناً إلى عين؟ إن هذين الطائرين يفهمان من فلسفة الحياة أكثر مما استوعبت عقول البشر. إنهما يملكان الحرية، وفي أيدينا وأرجلنا قيود ذهبية. . .! ومالت على زهرة نضرة من أزهار الحديقة تقطفها، ونظر الفتى فما بدت لعينيه زهرة بل رمزاً من شفةٍ، وخدٍ، وعطر، وخطوة دلال. وأسرع إلى صاحبته: رويدك يا فتاتي، إن هذه الأنامل الجميلة ما خُلقت إلا لتتملّى هذا الجمال وترعاه!
ولما هّما ليفترقا لم يقل لها: يا فتاتي التي أحب. بل قال لها: يا من حبتني الخلود وأشعرتني لذة السعادة على الأرض
ما أعجب ما يرى الإنسان في الحياة! وهل يرى كل ما فيها إلا على ما رُكِّبتْ عليه طبيعته المادية الجامدة؟ حتى إذا ما لمست فِتاة قلبه حالت كل مادة على الأرض شيئاً إلهياً نورانياً، يتلألأ كما انفلق الأصباح عن ليل طويل دامس. وماذا في الشباب إن لم يكن هذا الشباب في القلب قبل أن يكون في نضرة الوجه وتكتُّل العضل؟ حتى الشيخ يرده الحب فتياً! تلك حكمة الله في الأرض
سار الفتى على سننه؛ وذهبت نفسه وراء فتاته، وهي من عقلها لا تخمد العاطفة بالرضى الدائم، ولا تبعث في نفسه السأم بالغضب المستمر. وهو من كبريائه لا يندفع اندفاع الطيش، ولا يُقْصر إقصار الملل. نفسان عُقِّدَتا؛ ولكنهما عقدتا ليكون الحب فيهما عقدة ثالثة. فهي تفور، وهو يتنزّى ولكنهما هما. أراد أن يكون صريحاً فتعقدت له، فلما أرادت أن تكون صريحة وجدته قد تعقد ضَلَّ من يقول إن العقل والكبرياء كلاهما يذهبان برونق الهوى، ويطفئان شعلة الحب. إنهما يجعلان من الهوى هوى مركباً لا ترقى إليه العقول الصغيرة، ومن الحب حباً معقداً لا تبلغه العاطفة السقيمة
ثم انطلقا. . . والفتى سعيد بفتاته، والفتاة سعيدة بفتاها فما يفترقان إلا على ميعاد، وهما بين الميعادين كالظمآن يذكر آخر قطرة تذوقها ويرى فيها الحياة، وينتظر أول قطرة تأتيه ليرى منها النور
على ضفة النهر، وبين الخمائل، وتحت ظلال الشجر، وفي ضياء البدر، في صمت الطبيعة وجمالها، طائران أغمض الدهر عنهما جفنيه ليرشفا من رحيق الحياة كأساً صافية، ما كدّرها تخاصم، ولا لوّثها عبث. عام انطوى، فكان العمر، وكان جمال العمر، والصفحة البيضاء في كتاب حياة الشاب والشابة. فما يكون جزاء هذا الحب إلا رباطاً لا تنفصم عروته؟ وتلألأت الفكرة، وتضاعفت سعادة العاشقين بهذا الأمل الجديد
والفتى والفتاة من أسرتين ترسفان من التقاليد في أغلال، وويل للحب إذا اعترضت سبيله التقاليد!
وكانت فكرة، ثم استحالت الفكرة فإذا هي كلام، وحار الكلام فإذا هو خطوات إلى غاية، ولكن. . . ولكن ما أحوج هذا السالك إلى من يرود له الطريق! هؤلاء أهلها، ماذا يعرفون من أمره؟ وكيف يخطبها إليهم وما له عندهم أسم ولا رسم؟ وهؤلاء أهله، ماذا يعرفون من أمر فتاته، وما حاول من قبل مرة أن يفض لهم اغلاق قلبه أو يقرأ عليهم سطراً من شبابه؟ وهذا أبوه، شيخ لا يؤمن بالحب، ولا ينقاد لنزوات العاطفة؛ وهو رباه ونشأه واختار له فيما اختار فتاة من ذوي قرباه، فما ينتظر له زوجاً غيرها ولا لها زوجاً غيره. فمن ذا يشفع له عنده؟ وهذا عمه، وإنه لرجل جد وكفاح لا يرى الحياة إلا من الناحية الصلبة الجافة، فما إليه مشتكى، ولا فيه شفاعة! ولقد تلقى الفتى عن - فيما تلقى - دروساً في الشجاعة والصراحة معاً، فكيف تخذله شجاعته، وكيف يلتوي لسانه وهو يطلب الحياة لنفسه؟ وفي قلب الفتى نار لو لفحتْ الشجر الأخضر لتركته هشيماً، وفي رأسه شعلة لو نفخت على السائل لتركته يغلي ويفور. وابتدأ الفيلسوف الذي في رأسه يفرض الفروض، ويأتي بالمقدمات، ولكن إلى غير نتيجة لقد ملك اللذة وأراد أن ينعم بها، ولمس السعادة وأمل أن يحتويها، ولكن فكرتي اللذة والسعادة هما اللتان ذهبتا بشجاعته وصراحته
ماذا في السعادة غير اطمئنان الخاطر، وهدوء الضمير، وإشراق الحياة، وابتهاج النفس، والرضى بكل ما يجيء به القدر؟ ذلك هو الإيمان، والشعور به هو اللذة. فلا تنشدهما من غير هذا السبيل
ونفخ الحب في عزم الفتى، ونفث من سحره في لسانه، فمضى بين الرجاء واليأس ينفض أمام أبيه جملة حاله. وكان أبوه قد قدّر حين رأى في أبنه الذهول والصمت حيناً، والانكباب على المطالعة حيناً آخر، أن به شيئاً. وقالت له ذكريات شبابه: (ويحك أيها الشيخ! إن فتاة قد سلبتك فتاك، لأنه فقد النوع، وإنه لشاب به ثورة الفتاء ما بالرجل يوقد تحته بنار من حجارة، فأمسك عليك ولدك بزوج تربطه بها وتربطها به. . .!) ووعى الشيخ ما سمع. فلما أذن للفتى أن يكشف لأبيه عن صدره، قال له: (يا بني! إن حكمة الشيوخ غير طيش الشباب. يا بني! إنه أنا الذي رباك وأنا الذي يريد أن يعيش في تأريخك جيلاً آخر. عقلك أولاً ثم عاطفتك، وغداً تهدأ هذه الثورة. . .!) ولكن الثورة لم تهدأ بل زادت ضراماً، وعاد الفتى إلى عمه يستعينه على رأي أبيه، فما الأخ إلا صورة من أخيه، ولما أرسل إلى أهلها قالوا: (حتى يرضى أهله)
وضاقت نفسي الفتى بما رأى وسمع، وما لبثت الفتاة أن سميت على غيره، فأصبح الفتى يتوزعه الحب وقد أخفق فيه وصفرت منه يداه، والكبرياء التي لا تطاوعه على أن ينقاد، فصار همه همين؛ وعض الحزن على قلبه فاستلبه من أيامه، وخلفه يمشي بين الناس جسداً بلا روح. . .!
وأحس الأب بمقدار قسوته على ولده، على حين لم يكن يريد له إلا السعادة، فأنطلق يلتمس له الشفاء من ألمه، ولكن أين له ما يريد وقد سميت الفتاة على غيره فخطبت فـ. . .
وكان الأب في انطلاقه يفتش عن السعادة لأبنه، قد ترك وراءه شبحاً يجلس إلى مدفئة في زاوية من الحجرة وقد نشر أمامه ورقة لا يكاد يتبين من سطورها إلا سطراً أسود يضطرب أمام عينه، وكأنه لم يكن ينظر كلاماً مكتوباً بل شريطاً عريضاً أسود يمثل له حظه في الحب. لقد وعاه من طول ما كرره، ولكنه ما يزال يقرأ، ويعيد ما يقرأ، كأن ألفاظه تمسح ببياضها هذا السواد الماثل أمامه: (لقد تخليت عني في وقت أنا أحوج فيه إليك، وقد كان بيننا ما كان. تخليت عني ليعبث أهلي - بما لهم علي من حق - في مستقبلي. لقد أرغموني حين ردوك)
ولما أرتد الأب خائباً، وجد الابن قد أكلته الخيبة والتهمه اليأس، فعاد يهمس بينه وبين نفسه (ويلي! لقد جنيت!) ثم ابتدأ يلتمس لولده العزاء مما جنى عليه، فقدر له أن يمضي أياماً على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق. هناك حيث يخلع الإنسان همومه إذ يخلع ملابسه، ويتحلل من أثقال المدينة وتقاليد الناس حين يرى نفسه كآدم وحواء قبل اتخاذ الثياب. وكان الفتى واسع الخيال دقيق الحس، فآلمه أن يرى هذا الناس قد اجتمعوا ليقتسموا الصحة والعافية، واللذة والسعادة، وهو وحده يعيش في جو بعيد عن كل ذلك، هو جو قلبه، وانصرم الصيف، وما أفاد إلا هماً على هم، ووحشة كانت في قلبه فعادت في حسه وفي نفسه
وجلس الابن يقرأ - ذات ليلة - كتاباً في تأريخ قدماء المصريين والأب ينصت، وهو يتبين في صوته رنين الأسى والحزن. فقال: إن لنا في الشتاء لرحلة كما لنا في الصيف رحلة.
زيارة آثار أجدادنا القدماء. وطرب الشباب لهذه الفكرة الطارئة
وطوّفا ما طوفا والفتى في نهاره رفيق أبيه، وفي الليل صديق همومه
وجلس الفتى إلى نضد، وقد مضى الليل إلا أقله يكتب إلى التي أحبها: (ذهب عقلي واستقر هواك. وهأنذا أطوف في بلاد وقرى لم أنزل بها من قبل، ولم يزرها أبي من قبل أيضاً. يظن أبي أنني أفرج عن نفسي، وأراني شريداً لأنني أرغم على ذلك إرغاماً. يؤمر ليطيع كالإنسان الصناعي لا يدري ماذا يقال، ولا ماذا يُفعل؛ وهم يسخرون من الإنسانية إذ يسمونه الإنسان. أبي يرى في كل ذلك لذة، أما أنا فلا أرى هنا ما يلذني لأني بعيد عنك. والآن وقد بلغنا أسوان بقي علي أن أصف لك الخزان العظيم الذي يترك لأرض مصر جميعها فضلة ما يمسك. إنه في رأسي الآن يجيش ويضطرب، وغداً كيف أراه أمام عيني؟ سأذكرك هناك، يا فتاتي، وأذكرك. . .)
وعند انبثاق الفجر انفلت من الفندق ليضع بعض قلبه في صندوق البريد وعلى خزان أسوان سار مطمئناً، وهو يعجب بما يرى؛ عن يمينه طود من الماء، وعن يساره رشاش الماء المنسكب، أمواجاً تتلاطم، كأنها في مضمار، أيهما يبلغ الغاية أولاً؟ وعلى سور الخزان المبني من حجر الجرانيت، وقف يتكئ على حاجز قصير هناك يطل منه على الماء يتدفق من فتحات الخزان حياة، والخواطر تتدفق في أعماقه شجواً حزيناً يبعث الألم. وأخذت الفتى روعة ما رأى وأحس كأن الماء الذي يعترك في أسفل يجذبه ليحمله إلى من يحب. ورأى الرشاش المتطاير تنعكس عليه أشعة الشمس فترسم عليه قوساً ذات ألوان جميلة، كأن عروساً في ثوب زفاف تتراءى له بين مرآتين، ولكنه لم ير فيها إلا العروس التي فقد، تبتعد بها الأقدار في صحبة رجل غريب. ورأى الماء يتسرب من بين الصخور كما يتسلل القدر في تأريخ إنسان ليضع فيه مأساة أو يصنع حادثة
ومضى الفتى يتخيل فيمعن في الخيال، والماء تحت عينيه يموج ويضطرب ويزأر متدفقاً مكتسحاً في بطش وعنفوان؛ فما يرى الفتى بين الموج والزبد إلاّ صورة واحدة: صورة الفتاة التي بعد بها عنه عنف القدر وسلطان التقاليد
ورجع الأب ليصحب ولده فيعودا، ولكنه انطلق يعدو حين رأى أبنه يوشك أن يتردّى. فما بلغ إلاّ ليشهد آخر مأساة للشاب تتلقفه الأمواج
يا يد الشيخ أنت التي دفعتٍه إلى هذه الهوة فما كان لك أن تنقذيه. . .!
يا تجارب الشيخوخة كم أنت قاسية! لقد أردتِ أن تزرعي السعادة فجنيت الشقاء. لقد كنت كبيرة فلم تفهمي لغة الشباب، وكنت مادية فلم تفهمي حديث الروح، وكنت صلبة فلم تعقلي كلمات القلب. هل أنت يا تجارب الشيخوخة إلاّ خرف الهرَم ونكسة الإنسانية. .؟
ألا ليت الشباب وليت الهَرَم. . . ولكن ماذا يجدي، ماذا يجدي؟ ليت شعري هل قُدِّر للإنسانية ألا تبلغُ سعادتها إلا على جسر من الضحايا؟ فيا ويح الشباب ويا ويح الهرم!
كامل محمود حبيب