مجلة الرسالة/العدد 149/في ليلة مقرورة
→ الملك فؤاد | مجلة الرسالة - العدد 149 في ليلة مقرورة [[مؤلف:|]] |
المسألة الحبشية ← |
بتاريخ: 11 - 05 - 1936 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
(انفخي النار أو أذكيها فإني بردان، ولست أجد حرّها)
وكان الوقت شتاء، والبرد قارساً، والرياح متداركة الهبوب تقشر الحصى عن وجه الأرض، وتهيج بالغبار نحو السماء كالعمود. ولكن الغرفة كانت دافئة، والنار في مواقدها تتسعر، فعجبت الزوجة، ونظرت من زوجها إلى الموقد، وقالت: (بردان؟ بردان والغرفة كجهنم؟ لقد ألقيت عليها منذ دقائق خشباً كثيراً لا يزال يفرقع من شدة التلهّب، فكيف لا تحسها ولا تسمعها؟ مالك؟ أبك شيء؟)
فهز الرجل رأسه هزة خفيفة، وقال وهو يمد يديه: (لا. .،!! خذي أشعلي لي هذه)
وناولها سيجارة كان يقلبها بين أصابعه، فوضعت طرفها على النار ونفخت فيه حتى صار كالجمرة المتلظية، ووضعتها بين أصابعه وهي تقول: (سأعود إليك قبل أن تفرغ منها)
وخرجت وردت الباب وراءها، فتنهّد الرجل وأطرق. وفرغت السيجارة، وشعر بحرّها على أصابعه، فأراد أن يطفئها أو يرمي بها، فمد يده الفارغة يتحسس حتى لمست أصابعه حرف منضدة صغيرة، فأجرى راحته عليها، حتى التقت أنامله المرتعشة بشيء فرفعها إليه يريد أن يتبينه، فانقلب وتحطم، فرد يده بسرعة، وقد تجهم وجهه؛ ثم تنهد، ورفع قدمه وانحنى على الأرض، ووضع السيجارة تحت حذائه
وكان الذي يراه وهو جالس على الكرسي، ورأسه مثنيٌّ على صدره، خليقاً أن يتوهمه نائماً من فرط السكون. ولكنه لم يكن نائماً ولا ذاهلا؛ وإنما كان مُرهفاً أذنه لحركة الأقدام في غرفة ابنته، ولما عسى أن يتأدى إليه من الأصوات غير ذلك على الرغم من الباب الموصد عليه. وكانت زوجته لا تزال تعود إليه كل بضع دقائق لتطمئن عليه على زعمها، فقد أقلقها عليه قوله إنه بردان في هذه الغرفة التي يُشتكى حرُّها؛ ولا يُعقل أن يشتكي بردها فكان يتبسم ويقول لها: (لا تخافي علي فإني بخير، ولكن طمئنيني على فردوس، كيف هي الآن؟ ألا أصعد معك إليها؟)
وكان يعلم أنها أبت ذلك عليه من قبل مرات، فهو على يأس كبير، ولم تكن لجاجته في الطلب كلما دخلت عليه إلا ليرى كيف يكون جوابها في كل مرة؛ وكان يؤكد أنه سيدخ على أطراف أصابعه، ثم لا يتكلم ولا يتحرك ولا يمد يده ليلمس الفتاة، فضاق صدرها بهذا الإلحاح، وقالت له: (إذن لماذا تريد أن تصعد إليها؟؟ أكل مرادك أن تزعجها والسلام؟)
وأسفت لأنها احتدت فانقلبت تعتذر إليه بما تكابده من العناء، وتوزع القلب والجهد بينه وبين ابنتهما، فقبل اعتذارها، أو لعل الأصح أنه لم يجعل باله إلى ما بدر منها. وما ظنت أنه ساءه من حدة اللهجة وقال:
(لا تشغلي نفسك بي، وإذا احتجت إلى شيء فإن في وسع الخادمة أن تقضيه لي. أليست الممرضة مع فردوس؟ إذن دعي لي الخادمة فهي حسبي إلى أوان النوم)
فأبت عليه حتى الخادمة، وقالت: إن فردوس لا تستغني عنها، وأن في وسعه أن يصفق إذا أراد شيئاً فتجيء هي - زوجته - إليه. فترك الإلحاح، وعاد إلى جلسته وإطراقه وسهومه وكفّ حتى عن أن يرفع رأسه - على عادته - حين تدخل زوجته عليه، كأنما لم تعد به حاجة إلى سؤال، أو كأنما لم يعد يعنيه من الأمر كله شيء، وكانت زوجته تقف حياله هنيهة، ثم لا تأنس منه استعداد لكلام، أو تتوهمه أغفى فتسلل راجعة من حيث جاءت. وكأنما اطمأنت أو خشيت أن تزعجه أو توقظه، فصارت تترك الباب موارباً، ولا تكلف نفسها عناء إيصاده - كما كانت تفعل - من قبل اتقاء لما يحدثه ذلك من الصوت
ومضت ساعة وبعض ساعة، والدنيا أتم ما يكون سكوناً، لولا الرياح العواصف؛ وإذا بالباب يدق دقاً مزعجا، وإذا بالخادمة تنحدر على السلم، كأنما هي في سباق، أو كأنما وراءها الذي تهرب منه وتمضي إلى الباب فتفتحه ثم تغلقه، وإذا بالبيت يملأه بكاء وليد يصيح: (واء واء واء) ولا تمضي دقائق حتى يكون كل من في البيت قد أحاط به ما خلا فردوس المريضة التي لا تستطيع أن تبرح سريرها أو تنهض عنه، ويدخل هذا الجمع الحافل - سيدة البيت والممرضة والخادمة ورجل غريب يحمل بين يديه طفلاً ملفوفاً في أشياء كثيرة وعلى وجهه شف أرجواني رقيق جدا -
وتتقدم الزوجة من بعلها وتقول: (ماذا تظن؟ لقد وجد هذا الرجل طفلاً ملقى على مقربة من عتبة البيت! مسكين إنه وليد! ابن ساعة أو ساعتين على الأكثر! ماذا ينبغي يا ترى أن نصنع به؟ لا نستطيع أن نرده إلى حيث كان. . . ولا أحسبنا نستطيع أن نستبقيه. . . كلا! هذا أيضاً عسير علينا. ما ريأك؟ أشر كيف نصنع؟) فيرفع وجهه إلى الناحية التي يجيء منها صوتها ويقول: (المهم الآن إرضاع الطفل - والوقت بعد ذلك فيه متسع للتفكير في مصيره، فانظري من ترضعه، ابعثي في طلب واحدة. . . اصنعي شيئاً. . . لا تقفي هكذا)
ولم يكن ثم ما يدعوه أن ينهرها على هذا الوجه، فما كانت قصّرت أو تلكأت، ولا كان مضى على دخولها عليه بالطفل إلا مسافة ما ألقت عليه خبر العثور عليه، ولكنه كان ضيق الصدر بما أجن لا بما حدث من التباطؤ، وكان يثقل عليه وجود الرجل ولا يرتاح إلى الحديث على مسمع منه في أمر هذا الوليد. ورأت زوجته منه هذا النفور، وأحست له سبباً باطناً غير ظاهره. فقالت صحيح. أين نجد مرضعة يا فاطمة؟ (الخادمة) أتعرفين واحدة قريبة من هنا أو جارة نستعين بها الليلة حتى نهتدي إلى مرضعة صالحة؟ (ونظرت إلى زوجها الذي لا يراها وقالت بسرعة كالمستدركة) أو نرى لنا في الطفل رأيا آخر
فقال الرجل بلهجة السأمان (أرضعيه أولا. . اذهبي، فما ندري كم ساعة له وهو ملقى، وإن كان الذي يبدو لي من سكوته أنه لا يشكو شيئاً وأنه على الأرجح - كما قلتِ أنتِ - حديث عهد بالولادة. . على كل حال يحسن أن تعني به الليلة كعناية الأم)
فانصرفوا عنه، ومضت الليلة بسلام، وجاءوا في الصباح بمرضعة للطفل، فقد أصر الرجل على اتخاذه وتبنّيه، وكانت زوجته حين رأت منه هذا الإصرار قد راحت تنكر عليه هذا العزم، وتخوّفه ما لا بد أن يعاني من جرّاء وجوده في البيت، وتنذره الضجات والضوضاء وغير ذلك، فإن الأطفال في سن الرضاع لا يوقّرون كبيراً، ولا يعنون براحة أحد، ولا يبالون ما يكون منهم، ولكن هذا لم يثنه عما صحّ عليه عزمه
ومضى عام ثم آخر، وحبا الطفل ومشى، ولم يفتر حنوّ الرجل عليه، بل صار هو سلوته، فكان يخرج به كل يوم ساعة في الصباح وأخرى في المساء. ولم يكن يبعد عن البيت لأنه مكفوف، فكان يتمشى في الحديقة الواسعة والطفل أمامه في مركبته الصغيرة، فإذا غادر البيت اكتفى بالطواف حول السور، وكان كلما التقى بفردوس والطفل معه، يتركه لها وينصرف عنها، ولا يبقى معهما في مكان، وكان ذلك يسر فردوس في أول الأمر لأنه يسمح لها بأن ترسل نفسها على سجيتها مع الغلام، ولكنه لما تكرر من أبيها، أزعجتها منه دلالة العمد فيه، ولكن ماذا تقول أو تفعل وكانت زوجته كثيرا ما تشير في حديثها معه إلى فردوس وأنه لا يبدو لها خاطب بين الأقرباء والأصدقاء العديدين، فلا يقول الرجل شيئا، ولكنها أضجرته مرة فقال لها (دعيها، ولا تقلقي عليها، فإني أحسب الطفل سلوة كافية لها) فسألته زوجته بلهفة (ماذا تعني؟ كيف يمكن؟)
فابتسم الرجل وقال (أعني أن في وسعها أن تفيض عليه من أمومتها الكامنة؛ وكفى بهذا الطفل عزاء وسلوة مادام لا بعل لها)
وطال الأمر، وشق على الزوجة أن الحبائل الكثيرة التي ألقتها لم تقنص أحداً، ونفد صبرها وعجزت عن الكتمان فقالت بشجوها لزوجها، وكان هو أيضا قد مل هذه الأحاديث التي لا تنتهي فسألها (هل يسمعنا أحد. . انهضي وانظري)
ففعلت وعادت فطمأنته فقال (إذن اسمعي - لقد كنت أوثر أن أظل ساكتاً لا أتكلم، ولكنك أكرهتني على الكلام. وإني لضرير ولكن رأسي لم يعطّله شيء، فهل تذكرين كيف سافرت ابنتنا وقضت شهورا عند خالها في ضيعته؟ إني مازلت أذكر ذلك لأني أعلم أنها لم تكن عنده ولا عند أحد غيره من أقرباء أبيها أو أمها، وإن كنت أجهل أين أقامت كل هذا الزمن. . انتظري. فلست ألومك، بل أنا على العكس أثني على حكمتك، وحسناً صنعتِ، وقد عادت بعد ذلك فجأة وأوت إلى فراشها ساعة وصولها، وظلت مريضة حتى كانت الليلة التي دق علينا فيها الباب، وجاءنا الرجل بهذا الطفل. ومن حسن الحظ أن الرجل لا يعرف شيئا - ولست أدري كيف دبرت الأمر، ولكنك على كل حال أحسنت التدبير، ولولا هذه القابلة التي زعمتها ممرضة لاطمأن قلبي، وأمنت الافتضاح، ولكنها على ما يظهر استطاعت أن تكتم السر فالحمد لله. والآن وقد أحوجتني إلى الكلام أفلا يحسن بعد ذلك أن تعفيني من حديث الزواج التي لا تملينه؟)
فلم تقل شيئا حتى سمعته يحدث نفسه ويقول (مسكينة. مسكينة)
فنهظت وسألته (أتعطف عليها)
فأشار بيده إشارة من يريد أن تذهب عنه وهو يقول (بلهاء) ولم يدر بينهما بعد ذلك كلام في الموضوع
إبراهيم عبد القادر المازني