مجلة الرسالة/العدد 149/المسألة الحبشية
→ في ليلة مقرورة | مجلة الرسالة - العدد 149 المسألة الحبشية [[مؤلف:|]] |
قصة المكروب ← |
بتاريخ: 11 - 05 - 1936 |
بين إيطاليا وإنكلترا
بقلم باحث دبلوماسي كبير
يجزع الكثيرون من خصوم الاستعمار وأبناء الأمم المغلوبة لما أصابت إيطاليا بوسائل العنف الشائن من ظفر وتقدم في غزو الحبشة، وما أصاب الحبشة من خذلان وتضعضع في مقاومتها للمعتدين على حرياتها؛ ويجزع الكثيرون من أنصار السلام لما ينذر به ظفر إيطاليا على هذا النحو، وما تنذر به المشكلة الحبشية كلها من خطر داهم على السلام
وقد يلوح لأول وهلة أن الفريقين على حق في هذا الجزع؛ ذلك أن ما أبدته إيطاليا الفاشستية من إقدام وجرأة في انتهاك العهود والمواثيق، وما ارتكبته في سبيل مشروعها الاستعماري من ضروب السفك والعنف، وما لجأت إليه لسحق الأحباش من وسائل مجرمة مثيرة كاستعمال الغازات وغيرها، ينذر بالويل كل أمة ضعيفة لا تقوى على مقاومة الاعتداء بمثله، ويبعث اليأس في نفوس الأمم المغلوبة، لأنها ترى الاستعمار يثبت أقدامه، ويزيد جرأة وعدواناً وعنفاً؛ ولأن ما تثيره المشكلة الحبشية من خلاف بين بريطانيا العظمى وإيطاليا، وما يثيره فوز إيطاليا في شرق أفريقية من مخاوف على مصالح الإمبراطورية البريطانية ومستقبلها، ينذر بانفجار قد لا تقف عواقبه عند الخصومة الإنكليزية الإيطالية، بل قد يؤدي إلى حرب أوربية عامة ينكب العالم كله بويلاتها وعواقبها
بيد أنه يجب ألا نبالغ في تقدير الموقف بهذا المعيار القاتم، فهنالك ظروف واعتبارات كثيرة يجب تقديرها إلى جانب هذه الظواهر المزعجة. ولنبدأ ببحث الموقف في الحبشة؛ فقد تقدم الإيطاليون داخل الحبشة في الأسابيع الأخيرة، واستولوا على ولاية تجري كلها، وهي التي تقع فيها بحيرة تانا والنيل الأزرق، وتقدموا أيضاً في الجنوب، وأصابوا الجيوش الحبشية بعدة هزائم شديدة، وهم يزحفون بسرعة نحو العاصمة الحبشية، وقد تسقط في أيديهم قبل أن يظهر هذا العدد من (الرسالة)؛ وفي الأخبار الأخيرة أن النجاشي قد غادرا الحبشة مع أسرته إلى فلسطين على بارجة إنكليزية بعد أن فقد كل أمل في الدفاع والمقاومة، ولكن هل يعني ذلك كله أن قوى الحبشة الدفاعية قد أبيدت نهائياً كما يزعم الإيطاليون، وأن إيطاليا قد حققت ظفرها كاملاً شاملاً. وأنه لم يبق عليها إلا أن ت شروطها على الحبشة وعلى عصبة الأمم؟ إن نظرة إلى خريطة الحبشة تنقض هذا الزعم، فإن التقدم الإيطالي لم يجاوز حتى الآن المناطق الأمهرية، ولم يتوغل الإيطاليون في الحبشة الأصلية بعد، ولازالت أمامهم دون الاستيلاء عليها مناطق وعرة؛ والجيوش الحبشية لم تسحق كلها ولم تبد، ولكنها اضطرت أن تتراجع أمام الغازات الخانقة وغيرها من الوسائل الفتاكة التي لم يحجم الإيطاليون عن الالتجاء إليها خلافاً لكل قانون وميثاق حينما رأوا عجزهم عن التقدم بوسائل الحرب المشروعة، وهي مازالت تصمد للإيطاليين في الجنوب وحيثما استطاعت إلى ذلك سبيلاً؛ وإذا قارنا ما استولت عليه إيطاليا حتى الآن من أراضي الحبشة بما كان مقترحا أن يعطي لها في مشروع (لافال - هور) ألفينا أنها رغم انتصاراتها المتوالية لم تحقق بعد كل ما كان يراد أن يعطى لها بمقتضى هذا المشروع غنيمة باردة؛ والفرق بين الحالتين أنها تدفع اليوم لتقدمها ثمناً فادحا من المال والرجال
هذا ومن الخطأ أن نعتقد أن مجرد استيلاء الإيطاليين على الأراضي الحبشية يكفل تحقيق الأماني الإيطالية، ويعتبر حلاً نهائياً للمسألة الحبشية؛ ذلك أنه يجب على إيطاليا إذا أرادت أن تستغل ثمار ظفرها، أن تحتفظ بما استولت عليه من الأراضي، وأن تسحق كل مقاومة من جانب الأحباش؛ ولكن المعروف أن دون هذه الغاية صعاباً جمة، وأن إيطاليا ستلقى مدى حين مقاومة من الأحباش، وستضطر إلى أن تتكبد في هذا السبيل جهوداً ونفقات قد تعجز عن الاستمرار فيها إذا طالت مقاومة الأحباش؛ بل يرى بعض الثقات اليوم أن إيطاليا قد استنفذت بالفعل في هذه الحروب الاستعمارية العنيفة كل مواردها القائمة، وأنه إذا بدأ فصل الأمطار في الحبشة قبل أن تسحق مقاومة الأحباش بصورة حاسمة، فإن مركزها وخططها في الحبشة تعرض لأشد الأخطار
ويجب أن نذكر إلى جانب ذلك عاملاً حاسماً آخر، وهو موقف إنكلترا من المسألة الحبشية ومن إيطاليا، وهو موقف ستكشف الأيام القريبة عن حقيقته
وعصبة الأمم ماذا كان موقفها إزاء هذا الاعتداء الشائن؟ لقد بدأت العصبة بداية حسنة، فأسندت تبعة الاعتداء إلى إيطاليا، وقررت تطبيق العقوبات الاقتصادية ضدها؛ وكان للسياسة البريطانية أكبر نصيب في تنظيم هذه الحركة الدولية الخطيرة؛ ولكن فرنسا التي تربطها بإيطاليا معاهدة صداقة خاصة واتفاقات سرية ذاع أمرها فيما بعد، قاومت سياسة العقوبات رغم موافقتها نظريا على تقريرها، ووقفت إلى جانب إيطاليا موقفاً كان له أكبر الأثر في شل سياسة العقوبات، وعجز عصبة الأمم عن تقرير عقوبات أخرى كانت تزمع فرضها كتحريم إصدار الزيت والحديد إلى إيطاليا؛ هذا ولم يبق سرا أن فرنسا تشد أزر إيطاليا في هذه الحرب الاستعمارية بصفة إيجابية، وأنها تعاونها بالقروض السرية؛ وهي من جهة أخرى تعرقل تصدير السلاح إلى الحبشة من طريق جيبوتي، خلافا للاتفاقات المعقودة فتزيد بذلك في إضعاف المقاومة الحبشية وتمهيد السبيل لتفوق الجيوش المعتدية
ولقد كان موقف العصبة إزاء هاتين السياستين المتناقضتين يدعوا إلى الرثاء، فلا هي استطاعت رغم تأييد السياسة البريطانية أن تسير في تطبيق العقوبات الاقتصادية على إيطاليا بالحزم الواجب تأييداً لمبدأ السلامة الإجماعية الذي تعمل باسمه، ولا هي استطاعت بأية وسيلة أن تحمل إيطاليا على وقف اعتدائها الصارخ، أو قبول الصلح في الحدود التي رسمتها منذ بداية الاعتداء؛ بل ولا استطاعت أن تحمل إيطاليا على احترام أبسط قواعد الحرب الشرعية، والعدول عن الالتجاء إلى الوسائل الهمجية الفتاكة من غازات قاتلة ومحرقة وغيرها ضد شعب يكاد يكون أعزل إزاء وسائل التسليح الحديثة؛ ومازالت عصبة الأمم منذ أشهر تجتمع وتسوف على غير طائل، وإيطاليا تمضي في اعتداء هو أشبه بالقرصنة المجرمة منه بالحرب المشروعة، فتمزق الأحباش محاربين ومسالمين بغازاتها وطياراتها، وعصبة الأمم لا تكاد تجد ما تقوله إزاء هذه النذالة التي تثير استنكار العالم المتمدن بأسره، إذا استثنينا بعض الجهات الاستعمارية الجشعة التي ترى فوز إيطاليا عاملاً في تثبيت أقدام الاستعمار في أفريقية
على أن ظفر إيطاليا الحربي في الحبشة لا يكفي لتسوية المسألة الحبشية مهما كان مدى هذا الظفر؛ ففي وسع إيطاليا أن تستولي عسكريا على الحبشة كلها، ولكن الاحتلال العسكري لا يمكن أن يعتبر مستقرا أو نهائيا، ولا يمكن بأي حال أن يعتبر خاتمة المشكل، ولابد أن تحسب إيطاليا أعظم حساب لموقف السياسة البريطانية؛ ذلك أن بريطانيا العظمى ترى في استيلاء إيطاليا على الحبشة وتوسع الاستعمار الإيطالي في شمال أفريقية خطرا عظيما على سيادتها ونفوذها في وادي النيل وشرق أفريقية، وترى في نهوض إيطاليا الاستعمارية وفي اضطرام الروح الفاشستية بالأطماع والمشاريع الاستعمارية خطرا أعظم على سيادتها في البحر الأبيض والبحر الأحمر وعلى مواصلاتها الاستعمارية التي تسهر على حمايتها بيقظة متناهية، فالمسألة الحبشية في ذاتها تحتل في نظر بريطانيا مكانا ثانوياً، ولكن المسألة الجوهرية هي ما يترتب على فوز إيطاليا واعتزاز الروح العسكرية الفاشستية بهذا الفوز، وهر روح اعتدائية أخذ يبدو خطرها في البحر الأبيض ظاهرا ملموسا؛ والسياسة البريطانية تعمل منذ بدء المشكلة الحبشية وراء عصبة الأمم ووراء مبدأ السلامة الإجماعية؛ وقد كانت تتوقع عند فوزها بتقرير سياسة العقوبات الاقتصادية أن هذه العقوبات ستحدث أثرها في أهبة إيطاليا وفي مواردها بسرعة، فتقبل الصلح على الأسس التي وضعتها عصبة الأمم؛ ولكن السياسة الفرنسية المماذقة التي تعمل من وراء الستار لشد أزر إيطاليا حالت كما رأينا دون تحقيق هذه الغاية، واستطاعت إيطاليا أن تحرز بوسائلها العسكرية المجرمة في الحبشة انتصارات خطيرة؛ فالسياسة البريطانية تجد الآن نفسها بعد فشل سياسة العقوبات، وانهيار المقاومة الحبشية، في موقف حرج؛ وإذا كانت خطتها التالية لم تتضح بعد، فأنه مما لا ريب فيه أن وجهة نظرها إلى الموقف لم تتغير بل ربما كان اهتمامها اليوم بقمع الخطر الإيطالي على مصالحها ومواصلاتها أشد منه في أي وقت آخر
ومن المحقق أن السياسة البريطانية تؤثر العمل بوسائل لا تدفعها إلى الحرب؛ والظاهر من تصريحات مستر إيدن وزير الخارجية البريطانية في جنيف، وتصريحات مستر بلدوين رئيس الوزارة، وأقوال الصحف البريطانية ذات الرأي، أن إنكلترا مازالت ترى المضي في سياسة العقوبات الدولية، مستظلة بعصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وأنها ستقوم بمحاولة أخرى في هذا السبيل قبل أن تفكر في الالتجاء إلى وسيلة أخرى؛ والظاهر أيضاً أن أنصار هذه السياسة يرون أن الانتصارات الإيطالية الأخيرة في الحبشة لا تقوم على أسس مستقرة؛ وأن إيطاليا لا تستطيع المضي طويلاً في الاضطلاع بهذه الأعباء والتضحيات الفادحة التي تضطلع بها، وأن أحوالها الاقتصادية الداخلية بلغت مأزقاً خطراً، فإذا استطاع الأحباش أن يصمدوا في الجنوب وأن يحتفظوا بنوع من المقاومة بضعة أسابيع أخرى حتى يبدأ فصل الأمطار، وإذا ظفرت إنكلترا أثناء ذلك بحمل عصبة الأمم على تقرير عقوبات جديدة أخصها حظر الزيت، فإن الخبراء يرون أن خطط إيطاليا العسكرية تعرض في هذه الفترة إلى أشد الأخطار، فقد يستطيع الأحباش في فترة الأمطار أن ينظموا قواهم مرة أخرى، وتكون موارد إيطاليا قد نفدت أو أوشكت على النفاد فتضطر إلى وقف الحرب وقبول الصلح؛ وتؤمل السياسة البريطانية أن تسنح الفرصة لتقرير العقوبات الجديدة عقب الانتخابات الفرنسية الجديدة، فقد ظهر منها أن فرنسا تميل هذه المرة إلى أحزاب اليسار، وأحزاب اليسار تؤثر تأييد عصبة الأمم ومبدأ السلامة المشتركة، وترى أن هذه السياسة أقرب إلى تحقيق السلام من سياسة التلون والمماذقة التي جرت عليها فرنسا إزاء المشكلة الحبشية، وهي سياسة دفعت ثمنها غالياً في مسألة الرين ونقض ألمانيا لمعاهدة لوكارنو، حيث خذلتها إنكلترا في هذا المأزق، وألقت عليها درسا عميق الأثر
ويرى بعض أقطاب السياسة البريطانية فوق ذلك أنه يجب على إنكلترا إذا اقتضى الأمر أن تلجأ إلى إجراءات الحصار العسكرية، فتغلق قناة السويس بموافقة عصبة الأمم، وتقطع بذلك مواصلات إيطاليا مع شرق إفريقية، وهذا إجراء قد يؤدي إلى نشوب الحرب بين إيطاليا وإنكلترا، لأن موسوليني ما فتئ يهدد بأنه يعتبر إغلاق قناة السويس إجراء عدائياً عسكريا يجيب عنه بالمثل، ولكن أصحاب هذا الرأي يرون أنه خير أن تضطلع إنكلترا بعبء حرب محلية في البحر الأبيض من أن تترك الفاشستية تمضي في تهديدها للسلام حتى تنشب حرب أوربية أو عالمية؛ ويقولون إنه ليس لإيطاليا أن تحتج بخرق المعاهدات الدولية في مسألة إغلاق القناة بعد أن خرقت هي كل العهود والمواثيق الدولية، وهذه النظرية تلقى اليوم كثيرا من التأييد في إنكلترا، بيد أنه يلوح لنا أن السياسة الإنكليزية الرسمية مازالت بعيدة عن الأخذ بها
إن السياسة الإنكليزية تعتمد كثيراً على الزمن وعلى تطور الحوادث والظروف؛ وإذا كانت الظروف لم تحقق إلى اليوم تقديراتها وأمانيها، فليس من ريب في أن استطالة الحرب الحبشية تستنفد قوى إيطاليا ومواردها، وتضعف مركزها في أوربا؛ وقد حققت الحرب الاستعمارية الطاحنة التي تدور في الحبشة منذ سبعة أشهر كثيرا من دواعي هذا الإنهاك؛ ولا عبرة بمظاهر النصر الخلابة التي تهول إيطاليا بها، فأنها تدفع في سبيلها أفدح الأثمان؛ ومازال الزمن عاملاً حاسما في إخماد الجذوة الاستعمارية الفاشستية وردها إلى الصواب
(* * *)