الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 148/القصص

مجلة الرسالة/العدد 148/القصص

مجلة الرسالة - العدد 148
القصص
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 05 - 1936


قصة عراقية واقعية

الشفاء. .

بقلم سعيد عبد الإله الشهابي

جلست على أريكة في سهوم أخاذ تطالع عيناها كتاباً بقي مفتوحاً على مائدة صغيرة أمامها زهاء الساعة دون أن تتلو حرفاً أو تقلب صفحة. كانت عيناها السوداوان الساجيتان العميقتا المعنى تنظران وتطيلان النظر في لاشيء كمن يريد أن يستشف ما وراء حجب المادة. وتناولت سيكارة صغيرة مذهبة من علبة جميلة من العاج حمراء، وتنهدت عميقاً كمن انزاح عن صدره ثقل، وراحت تنفث الدخان ذاهلة، وربما ظنت أن الغرفة لا تضم سواها

تلك كانت حالها منذ حلت هذا البيت. . بيت كبرى إختيها، وكانت هذه متزوجة برجل من ذوي القربى الأبعدين، وهو من موظفي الدرجات المتوسطة في الحكومة

تقدمت منها خادم تحمل في صينية قدحاً من البلور الصافي صغيراً فيه شاي كانت تفضل الشرب منه، ووضعته أمامها على المائدة الصغيرة وانسحبت بهدوء

بقيت زهاء ربع ساعة ساهمة كالحالمة ثابت بعده إلى نفسها والتفت إلى جليساتها، وهن من صديقات أختها الحميمات وبعض قريباتها، وكن يتحدثن بصوت خفيض حرصاً على تركها في تفكيرها إذ كانت إلى نفوسهن أقرب وإلى قلوبهن أحب. . فلقد وجدن فيها شابة مكلومة الفؤاد خائبة الأمل. . والمرأة بطبيعتها تعطف على المرأة

أحبت فتى من ذوي قرباها لم تعرف سواه. يوم لم تكن سنها تتجاوز السادسة عشرة. بادلها الحب فأخلصت له وأحبته بأقصى ما تستطيع المرأة أن تحب. . حتى إذا أوشكا على الزواج عافها وولاها ظهره. . واختص نفسه بواحدة سواها. . كانت صديقة لها. ربما كان له بعض الحق فيما فعل لو لم يبادلها الحب في أول الأمر، لكنه انغمر وإياها في لج بحره الطامي جنباً إلى جنب، حتى إذا بعدا عن شاطئه فأضناهما التعب وأضحت مكدودة تخشى الغرق في قاعه عاد وتركها لينجو بنفسه. . وقد مرت على ذلك سنتان؛ فيا للقسوة وي للظلم!

لم تعد تستطيع العيش حيث نكبت في قلبها، فما لبثت أن حزمت متاعها وزمت حقائبها واستقلت القطار السريع من البصرة مسقط رأسها. . إلى بغداد حيث أختها. فلقيت حنواً وعطفاً لا مزيد عليهما

شربت قدح الشاي بأسلوب خاص ورشاقة فذة. . ثم شرعت في محادثة جليساتها بصوت موسيقي رخيم تخللته ضحكات صافية الرنين لكنها قصيرة يختفي تحتها ألم مكبوت وهم دفين

وجذبت نفساً طويلاً من سيكارتها، وألقت على متكأ الأريكة برأسها الجميل فبدت تقاطيع وجهها الرائع الفتان وجيدها الأتلع، وتناثرت خصل شعرها الكستنائي السبط فبان جبينها الأسمر العاجي الوسيع. . ونفثت الدخان ناظرة إلى السقف، كان صدرها يعلو ويهبط باتزان، وكانت عيناها الجميلتان تشعان شعاعاً ينم عن ذكاء متقد وحس دقيق وعاطفة فياضة متوثبة وروح حزين وثقة بالنفس نادرة عند النساء. لم يكن شأن من شؤون الحياة، غير ذكرى حبها، ليشغل بالها. فليس سبب قلة كلامها وطول تفكيرها وإيجازها أن تحدثت إلا تلك الذكرى، فموارد عيشها كانت وفيرة برغم كثرة مصاريفها، فهي في حرز ومأمن من هذه الوجهة. فلقد كان ما تدره عليها أملاكها الموروثة عن الجدود ما يفيض عليها النعمة

ودار بخاطرها طائف من الشك: لماذا هجرها حبيبها؟ أهي غير جميلة؟ وبدا لها أن تخرج من الغرفة، فاستأذنت عجلى ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح وأقبلت على المرآة الكبيرة في خزانة الملابس وراحت تحدق فيها. فاطمأنت وزال شكها وأخذها شبه غرور. لكنها سرعان ما أحست بألم يرمض فؤادها وبنار تحرق وجهها ورأسها، وتخاذلت تخاذل المرأة المطعونة في كرامتها، وألقت نفسها على السرير قبالة المرآة، وراحت تناجي نفسها: إيه أيتها الطبيعة! هل أوجدت هذا الجمال الفتان ليقاسي هذا العذاب؟ فهل مثل هذا الشباب الغض يستحق هذا العقاب؟ وهل مثل هذه الروح الفتية تستحق خيبة الأمل، وتابعت محادثة نفسها، وهي تنظر إلى صورة لأفروديت كان الحبيب الغادر أهداها لها، وأنت يا آلهة الحب. ربطت بروابطك قلبي بقلبه فأخلصت وخان. . ولبيت نداءك وصم هو أذنيه.

فما بالك أيتها القاسية تعاقبين المخلص وتتركين الخائن. أفما كنت ترحمين المخلصة بأن تحليها من العقود التي ربطتها بها. أنظري إلى هذا القد الأهيف المياس ما أشد نحوله. أنظري إلى هذه الصفرة التي ليست من ظاهرات الشباب الحي. . أفيكفي أن يكون الوجه ساحراً والعينان فتاكتين لتكون دليل الحيوية والنشاط. إن هذا السحر العظيم في تقاطيع هذا الوجه، وهذا المعنى البليغ العميق في هاتين العينين، ليسا إلا ظواهر الحب الدفين، فجرديها منه تجدي شبحاً من الأشباح

دق باب غرفتها فأذنت ودخلت (فيروز) وهي مربيتها وخادمتها الخاصة. . . تدعوها فعادت معها إلى حيث كانت أختها والرفيقات. . لقد خشين عليها الوحدة فدعونها. . لكن نفسها كانت تزخر بشتى العوامل. . الحب، البغض، الغيرة. . ولكن كرامتها أخذت تتيقظ فتعمل على إخماد هذه العوامل. . ودعت (فيروز) وطلبت منها أن تغني الأغنية التي تحبها. فاتخذت هذه وضع من يريد الغناء وشرعت في الأغنية الشعبية العراقية المعروفة:

جَلْبكْ صَخَرْ جلمود ... ما حَنْ عَلَيَّهْ

وأنت بِطْرب وبكيف ... والْبِيَّهْ بِيَّهْ

وما أتت فيروز على الأغنية حتى شرعت تبكي. . وشاركتها الجليسات. وفيما هن في ذلك دق الباب الخارجي. . فهرعت إليه فيروز وعادت تحمل رسالة حمراء اللون عرفت من لونها أنها رسالة برقية وكانت باسمها. كانت البصرة مصدرها. . من البصرة. . . يا لله. . فضتها بيد مرتجفة وقرأت:

(ماتت زوجتي بالتيفوئيد منذ أسبوع. أسفت كثيراً على ما فعلت. . إني قادم إليكم بعد يومين. .).

تغيرت سحنتها تماماً بعد تلاوة (البرقية) وتألقت عيناها بعزم ثابت ونظرت باحتقار إلى البرقية التي كانت لا تزال مفتوحة ومزقتها قطعاً صغيرة وألقتها في الموقد الذي كان بالقرب منها. وقالت تتمتم:

ماتت زوجته!. إنه قادم بعد يومين!. ما أسخفه وما أقل عقله! ماذا حسبني؟ هل يظن أني سأبقى محبة له بعد الآن؟. . إن هذه البرقية خاتمة آلامي. . فلأسعد ولتعد إلي الحياة. . ألا تباً له من رجل جبان. . يريد أن يسلو بي زوجته. فيا للذلة! ويا لسخرية القدر! ليذهب وليلحق بها. . فما عدت أراه إلا خنزيراً في عيني

واشتدت ثورة نفسها وعظم سخطها فجاءت برزمة من الخطابات وبعض الصور مربوطة بأنشوطة حريرية حمراء وألقتها كما هي في نار الموقد. وناولت البرقية لأختها ورفيقاتها مجيبة بها على نظراتهن المتسائلة

(بغداد - ضاحية الأعظمية)

سعيد عبد الإله الشهابي