الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 146/سفائن الصحراء

مجلة الرسالة/العدد 146/سفائن الصحراء

بتاريخ: 20 - 04 - 1936


للدكتور أحمد زكي

هَلاَ، هلا، هيّا ... إطوي الفَلاَ طيّا

هلا، هلا، سيري ... وامضي بتيسيري

وقرّبي الحيّا ... للنازح الصبّ

طيري بنا طيري ... للماء والعشب

(شوقي)

الجمل سفينة الصحراء، إذا أنت ذكرت الصحراء ذكرته، وإذا ذكرته ذكرت الصحراء، وما وجوده في غير الصحراء إلا عبث ودعابة، يزيد حسك بهما كلما تأملت خَلقه، ودرست خُلقه، وقرنت ما تجد من ذلك بطبيعة السواد من الأرض الذي يخرج إليه الجمل أحياناً، أو بطبيعة المدن التي يضلّ إليها بحكم المصادفة الخاطئة والتوجيه الجائر؛ فكما قد ينبو في نظر الرجل العادي مرأى العمامة في متحف اللوفر، ومظهر القبعة في الأزهر، كذلك قد تضيق نفس عالم الأحياء بمنظر الخفّ على زلق المدينة، ورؤية السنام يسير بين الوفير الكثير من طعامها

في الصحراء معنى الجوع، ومعنى الحر، ومعنى المشقة والصبر، وفيها معنى الجدب والقحط والجفاف. وفي الجمل تركزت كل هذه المعاني

أول ما يصفه الحيوانيّ، يصفه بأن يضعه لك في قائمة الحيوانات، فتجده في خانة المجترات، وأميز ما تمتاز به هذه الحيوانات أن أمعدتها تنقسم إلى أربعة أقسام، أو أن شئت تتركب من أربعة أكياس

الكيس الأول وهو أكبرها ويسمى الكرش. وإليه ينزل الطعام من المريء (أ) بعد أن يكون قطّعه الحيوان بأسنانه تقطيعاً هيّناً هو دون المضغ بكثير؛ والكيس الثاني ويسمى بالقلنسوة (جـ) وبغشائه المخاطي تَثَنٍّ من خلايا ذات أضلاع عدة، وإلى هذه القلنسوة يخرج الطعام من الكرش تدرّجاً، وفيها يتكوّر إلى كرات ليست بصغيرة الحجم تندفع إلى أعلى في مريء الحيوان إلى فمه فيأخذ في مضغها حتى تصير عجينة لينة؛ وحركة اندفاع الطعام هكذا حركة طبيعية لا كحركة القيء. فإذا تم المضغ بلعه الحيوان فذهب الطعام هذه المرة إلى الكيس الثالث ويسمى بذي اللفائف (د) ذلك لأن حائطه به ثنيات مستطيلة تشبه أوراق الكتاب وهو مفتوح، ومن ذي اللفائف يخرج الطعام إلى الكيس الرابع واسمه الانفحة (هـ) وفيها يحدث الهضم الحق على وجهه المألوف في الحيوانات الأخرى؛ ففي الانفحة تنفرز العصارات الهضمية، وهي التي تستخدم في تجبين اللبن على ما هو معروف

فإنك تجد في تركيب معدة المجترّات، ومنها الجمل، إن صانعها خلقها وفقاً لحاجاتها وملاءمة لطور معيشتها، فالكرش الكبير الذي يملأ جانباً عظيماً من البطن يقذف إليه الحيوان بالطعام الأخضر الذي يقتطفه من الشجر قذفاً، أما على عجل لأنه يخشى أن ينزل عليه عدو من أعدائه المفترسة، أو اختزاناً له كي يعود إليه عند حاجته للطعام. فإذا هو ذهب إلى أمنه، أو جاءته شهية الطعام عمد إلى هذا المخزون فأكله من جديد. والأكل أوله المضغ

أما الماء فإنك واجد في معدة الجمل خلايا عديدة كالجيوب، واقعة في جدرانه، بها الماء، وعليها أغطية من العضل تنسد وتنفتح عند الحاجة

وتنتهي قوائم الجمل: رجلاه ويداه، بإصبعين ككل المجترات، كالعنز والأبقار والوعل والغزلان. إلا أن هذه الأصابع تنتهي في هذه بأظلاف تساعدها الآن أو ساعدت آباءها بالأمس على تسلق الصخور والجبال. أما في الجمل فينتهي الإصبعان بوسادة بها رخاوة وبها طرواة هي خير الأحذية للسير السريع الهين فوق الرمال لاسيما الوعثاء منها. والفيل إذا مشى في الرمل فقد حيلته فيه، والحصان لا يلبث أن تُنهك قواه. كذلك الحال ربيب المدينة إذا هو خرج بحذاء ذي كعب عال (أو الأولى ربيبتها). والسيارات تغوص في الرمال، ثم تدور عجلاتها وتدور فلا تزيد فيها إلا غوصاً. إلا إذا هي شابهت الجمال فاحتذت أخفافاً، وتلك بالونات جديدة صنعت حديثاً قطرها تسع بوصات وضغط هوائها تسعة أهواء فهي عريضة رخوة. وقطر البالونات العادية نصف هذا القطر، وضغطها ضعف هذا الضغط أو ثلاثة أمثاله

والجمل يحمل غذاءه فوق ظهره، حملته الطبيعة إياه، واختزنته تحت جلده حيث لا يصل إليه سواه: هذا سنامه، وهو كتلة كبيرة من الدهن تجيء بمجيء المطر والعشب وتذهب بذهابهما، وهي تزيد ويمتلئ بها ظهره وتتخذ شكلاً أقرب ما يكون إلى الهرم الرباعي، والجمل معشب مرتوٍ هانئ، فإذا خرج إلى الصحراء على سفر طويل ومجهد، فأعوزته الخضرة والماء، رجع إلى ما على ظهره، يحرق منه لغذائه؛ ويصمد به لغيلة الجوع حتى يذهب كله ويخلو منه جلده. ولكنه لا يلبث أن يعود من سفره حتى يأخذ في الادخار من يوم النعيم والوفرة ليومه العبوس الآخر، فيثقل بالدهن ظهره، ويشتد عليه جلده. والأعرابي قبل الترحل الطويل يمتحن سنام راحلته كما ينظر ذو السيارة في خزان بنزينه؛ والحيوانات الثديية الأخرى تدخر الدهن، ولكنه يتوزع على كل جسمها. كذلك تدخره الحيوانات التي تنام طوال شتائها، وتصحو في الربيع لتأخذ مع الأحياء نصيبها من العيش وطيب الحياة، وتدخر من الدهن لحين تنام مرة أخرى

والجمل له جسم ضخم ليس فيه جمال كثير، تحمله قوائم طويلة تتراءى كأنها تعجز عن حمله، ولكنها غاية في الصلابة. وعظام هذه القوائم فوق متانتها بيضاء ناصعة حتى ليستعيض بها الهنود في شمال الهند عن سن الفيل في تلقيم بعض مصنوعاتهم. وطال الجمل لينال الشجر فبعد عن الأرض، فكان لابد له من طي قوائمه لينالها. وهو حين يبرك على الأرض يبرك على كتل خمس متصلبة في جسمه يقال لها الثّفِنات، واحدة في صدره واسمها السّعدانة، واثنتان في ركبتيه، واثنتان في أصول فخذيه. والثفنات تولد مع الجسم ليستتم به خلقه كالأذن والعين

وللجمل رقبة حنواء طويلة تحمل في أعلاها رأساً صغيراً، لا يحمل القرون التي هي من خصائص المجترات، وله عينان نجلاوان ناعستان وله أنفان يغلقهما إذا شاء ويفتحهما إذا شاء، وفضل هذا ظاهر في الريح السافية؛ وفتحتا أنفه بعيدتان بعداً كبيراً عما بداخلهما من غشاء وغدد مخاطية، فهي لا تتحلّب مخاطا كالبقر وسائر المجترات. كذلك تطول شفته العليا وتتدلى على شفته السفلى فتحجبها أو تكاد. وشفته العليا مشقوقة شقين كالأرنب يحركهما أو يحرك أحدهما على هواه وهو يأكل حتى كأنهما يدان

وغذاء الجمل في مواطنه الأولى أفرع الشجر وأوراقها، وهو يأكل الشوك ولا يبالي، ويأكله دون أن تدمى شفتاه. وهو يأكل الحب والتمر، ولكنه لا يستغني عن الأخضر من الطعام. وله صبر على الجوع والظمأ، فهو يقضي أياماً قد تطول إلى العشرة دون طعام ولا شراب. وقد يقضيها حاملاً المعهود من أثقاله. وقد يحدث كثيراً أن يفرغ الماء من القافلة فتعقر الجمال طلباً للماء الذي في أكراشها. وللإبل إحساس غريب بالماء تشمه من بعيد؛ كثيراً ما نجت القوافل بسببه، وقد يحدث أن يأبى على الناقة صاحبها فلا يفهم معنى تشبثها باتجاه خاص في الصحراء فتقطع الرسن وتركب رأسها، فإذا بلغت الماء كرعت منه لأمسها ويومها وغدها

والأعراب تشرب من الإبل لبنها، وهو بالغ في دسمه، وتأكل لحمها، وتلبس من وبرها. ولكن الخدمة الكبرى التي أداها الجمل للإنسانية من قديم هي وصلة الأقطار فصلت بينها قفار كالمحيطات ما كان لغير الجمل أن يجتازها. فأثره في تجارة الأمم العتيقة كبير. وقد كان وحده وصلة ما بين الشرق والغرب

والجمل إن كان في جسمه القدرة على الحمل، ففي خلقه الأناة والصبر. يكتسبهما ولادة وبالمران. وهو برغم نفعه من أغبى الحيوانات. أو لعله لغبائه كان نافعاً ذلولاً صبوراً. وإنك لتجد هذا في الناس. وهو لا يألف صاحبه ألفة الحصان والكلب. وهو كالبدو يكره البحر. وأكثر الثدييات إذا ألقاه الرجل في الماء وجد لديها من طبيعتها فهماً للعوم أو بعض فهم. أما الجمل فإذا غُصب على المسير في ماء غير ضحل كالنهر ففقدت رجلاه الأرض لم يحاول أن يعوم، وإنما يدور جسمه ويسلم نفسه للغرق

والجمل على صبره ذو غضبة منكرة، وهو حقود ذكور. حكوا أن جملاً كان يساق في إدارة عصارة للزيت فضربه سائقه ضرباً موجعاً. ومضت أشهر بعد ذلك، فظهر كأن الإساءة انتُسيت. وفي ليلة قمراء جاء الجمل يتلصص حيث يرقد السائق فوجد ما يشبهه وهو نائم فانقض عليه بكلكله وأخذ في الثياب تمزيقاً يحسب الرجل فيها، فلما فرغ تحدث إليه الرجل من بعيد، فاغتاظ الجمل اغتياظاً شديداً، وغضب لخيبته غضبة نكراء ضرب فيها الحائط برأسه ضربة أردته قتيلاً

أحمد زكي