الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 145/دراسات أدبية

مجلة الرسالة/العدد 145/دراسات أدبية

بتاريخ: 13 - 04 - 1936


في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونه

- 3 -

تألق نجم بيراندللو بعد النجاح العظيم الذي أحرزته روايته (المرحوم ماتياس باسكال)، وكسفت شمسه أسماء الروائيين المعاصرين، وبدأ النقدة يتحدثون عن فنه ويولونه اهتمامهم، ثم اختير ليشغل كرسي أستاذ الأدب الإيطالي بالجامعة وانتعشت حالته المالية بما أمكن أن يمحو من سجل حياته بعض المتاعب المادية، وأن يسدل عليها ستار النسيان

ولكي نعطي صورة واضحة من حياة هذا الكاتب وارتباطها بفنه، نقول إن التغلب على المتاعب المادية لم يكن كل شيء، إذ هبت في بيته عاصفة عكرت الجو مرة أخرى، فأعصاب زوجته تحطمت، ونوباتها العصبية تزداد بسبب غيرتها العمياء من تلميذات زوجها في الجامعة، وقد حاول بيراندللو كثيرا أن يزيل شكوكها وأوهمها، فسمح لها بألا تعطيه من راتبه إلا بما يسمح له بابتياع سجائر أو أجر الترام، غير أن هذه المحاولات فشلت، وأخذ هذا الحيوان السام الذي يدعونه الغيرة يمتص من شبابها ودمها بعد أن قدم إليها أسلحة جديدة من الشكوك والأوهام، ولم يكن لرأي زوجها أية قيمة عندها ولا أي تأثير في نفسها. وعلى حين فجأة ذبل جمالها وانطفأ بريق عينيها، وأصبحت تعتقد أنها مراقبة ومكروهة حتى من أولادها، وأنهم جميعاً قد اتفقوا على أن يدسوا لها السم في الدسم. ولما اشتد بها الداء فكر أخواتها في إدخالها إحدى مصحات الأمراض العقلية

وكانت الحرب العظمى قد شبت واختير ابنه البكر ليخوض غمارها، وفي غضون ذلك وقع أسيرا، أما ابنه الأصغر فكانت تجرى له عملية جراحية بإحدى مستشفيات روما حتى إذا اجتاز دور النقاهة أرسل فورا إلى خطوط النار

وكانت ابنة بيراندللو تتأذى من سوء معاملة الأم لها؛ ولما فقدت الأمل في إزالة الشكوك نحوها حاولت الانتحار، غير أنها نجت، ففكرت في الهرب ودخلت أحد الأديرة لتقضي بقية حياتها بين جدرانه وكان ستيفانو - والد بيراندللو - قد وصل من صقلية، بعد أن صمد دهرا في وجه المصائب، فمن موت زوجه، إلى إفلاس تجارته وضياع ثروته، إلى غير ذلك من الآلام والمتاعب التي انتهت بفقد بصره

ولما كان بيراندللو مشغولا في خلال هذه الفترة بمصير ولديه اللذين ذهبا إلى الحرب، ومضطراً إلى أن يقضي يومه بين زوجة مأفونة، ووالد عاجز ضرير، وابنة وصمته بميسم العار، كان لابد من أن تخرج هذه الأشباح المعذبة التي تسكن ذهنه، وأن يقدمها للناس في ثوب درامي عنيف يجمع بين روح الواقع وبين الخيال

وهكذا غصت المقاعد في مسرح سكالا بميلانو ليشهد الجمهور مسرحية بيراندللو الجديدة (ستة أشخاص يبحثون عن مؤلف ' التي ابتدع فيها فنا جديدا وعالما يموج بالصور والأشباح والشخصيات المجزأة

والواقع أن فترة المتاعب والآلام التي اجتازها هذا المؤلف الثائر في كافة أطوار حياته هي التي دفعته إلى أن يقول بلسان إحدى بطلاته: (ليست الأعمال إلا حقائب خاوية تملؤها أذهاننا)

وهي التي أدت به إلى أن يكره العقل، لا لأن العقل سجن، بل لأنه صدفة فارغة لا تملؤها سوى الغريزة العمياء. فالحوادث مثلها مثل الأكياس لا يمكنها الوقوف وهي فارغة. كذلك إذا أريد أن يظل الحادث حياً في الذاكرة، منتصباً بين ظلال الوعي وجب أن يكون له معنى واضح وأن تستقصي الأسباب والبواعث التي أدت إليه

حتى نظريات بيراندللو ليست سوى إنذار بهدم المنطق وإفلاس العقل وتفوق الخيال على الحقيقة. وعنده أن للأرواح لغة خاصة تتفاهم بها ووسائل تدفعها من وقت لآخر للقيام بأعمال باهرة على حين أن الشخصيات المادية لا تتجاوز في علاقاتها غير الحديث العادي

ومما يحملنا على الاعتقاد بأن نظريات بيراندللو البيسكولوجية لا تصل به إلى تفسير الناس، أنه يلجأ شخصياً إلى هؤلاء الناس لتفسير ألغازه، ولولا روح المرح والفكاهة التي تخلع على مؤلفاته ظلاً هائماً ومسحة خاصة لتباعد بينها وبين مركز الألم لكان فنه الروائي هو الجحيم والإنسانية المعذبة

لقد درس كل من إدجار ألن بو وستيفنسن نظرية ازدواج الشخصية وفوضاها في الإنسان.

أما بيراندللو فهو يقسم الشخصية في فنه الروائي إلى عشرة أو مائة أو ألف أو أكثر. فالفرد عنده مكون من شخصيات متناقضة كالحيوان الخرافي الذي تتحدث عنه أساطير الإغريق. وهو لا يعرف الأخلاق والعادات ولا يقدر الإرادة أو الشهوة المتغلبة لأن جميع مشاعره قابلة للتحول والتغير والتأثر

على أن أهم ما يرتكز عليه فنه ظواهر التحليلات النفسية وتعدد المنازعات. فكل شيء نظره مرجعه إلى التفسير، بل قد يجوز أن يتخذ شخص ما صورة معينة في نظر أحد محللي نفس الشخصية. وقد قال بيراندللو بلسان إحدى بطلاته في روايته (شهوة الشرف): (لا شك أن مدام أنيتا هي امرأة أخرى، وليس هذا كل ما أقوله، بل هي أخرى وأخرى وأخرى أيضاً، بعدد الأشخاص الذين تعرفهم والذين يعرفونها)

وفي عام 1922 ترك بيراندللو منصبه في الجامعة ليتفرغ للأدب والمسرح فوضع روايات: حصان في القمر، ومهزلة الموت والفخ، وأنت تضحك، وزوجها، وهنري الرابع. وسافر برفقة فرقة تمثيلية ألفها إلى عواصم أوربا ومدنها، وبمرور الزمن تراكمت عليه الأعمال بسبب إخراج رواياته على مسارح باريس وبرلين ولندن ونيويورك وبونس إيرس وموسكو، وكان لابد من أن يسافر إلى جميع هذه العواصم ليشرف بنفسه على إخراج رواياته

يقول ادريانو تلجر في كتاب نشره عن فن بيراندللو المسرحي أنه لم يتأثر في فنه بالمؤثرات اللاتينية بل يدل أدبه على أنه تأثر بأدب الشمال). وليس ذلك بغريب من كتاب الجنوب واللاتين، والكثيرون منهم أمثال داننزيو وجوزيف جيا كونرا قد تأثروا إلى مدى بعيد بأدب ابسن وطريقته في تحليل المشكلات الاجتماعية. والواقع أن ابسن سبق أن أقام فترة طويلة في إيطاليا وكان له الفضل الأكبر في تكوين مدرسة روائية مسرحية تمت إلى فنه بأقوى الصلات

أضف إلى ذلك أن بيراندللو برع في رسم مآسي الحياة وفواجع المجتمع براعة قلما أتيحت لكاتب يعاصره. وهو يتلاعب بألفاظه تلاعبا يخلع عليها وعلى أسلوبه مسحة تتفق ونظرياته الفلسفية في الإنسان والروح. وليست دراماته سوى سرد ماضيه وتصوير نفسيته، فهو من هذه الناحية لا ينحت الخيال ولا يتكلف التصوير، ولكنه ممن يروحون عن أنفسهم بهذه الزفرات الموجعة

على أن الشيء الوحيد الذي يوجهه نقدة المسرح في أوربا إلى فن بيراندللو يتلخص في نقطة واحدة، هي أنه يجزئ شخصياته بما يؤدي إلى هدم أساس الحياة والجنس البشري، فبعض الشخصيات التي يضعها وسط الخيال تؤدي إلى ضياع الفكرة التي ينشدها الفن المسرحي لاسيما وهو بعد الخيال حقيقة لا خطأ. ولو اعتبرنا الخيال واقعياً لوجب علينا بطريق الاستنتاج أن نعتبر الخيال والواقع متساويين من حيث الحقيقة، ومع كل فبيراندللو هو أكثر الكتاب الروائيين والمسرحيين إنتاجا على الرغم من عدم تحوله عن نظرياته التي يخضع لها في كل ما يكتب

(يتبع)

محمد أمين حسونه