مجلة الرسالة/العدد 144/صور من القرن الثامن عشر
→ النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق | مجلة الرسالة - العدد 144 صور من القرن الثامن عشر [[مؤلف:|]] |
عشر كلمات ← |
بتاريخ: 06 - 04 - 1936 |
جاكومو كازانوفا
جوَّاب مجتمع ومغامر مرح
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان القرن الثامن عشر في أوربا عصر الخفاء والدعوات السرية، والثورات الفكرية والاجتماعية؛ وكان أيضاً عصر المغامرات الشائقة، والحياة المرسلة الناعمة، والعيش الخفض، وازدراء التبعات، عصر المرح والطرب الميسور
وليس معنى ذلك أن القرن الثامن عشر كان عصرا ذهبيا يزهو فيه المجتمع ويزدهر؛ فقد كان في الواقع عصر الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتوالية؛ ولكنه كان عصر تطور فكري عميق يبلغ المجتمع فيه ذروة أزمته الروحية والنفسية، ويصل إلى نوع من اليأس والاستهتار، ويلتمس في حياة النسيان والعيش المرح عزاء ومتنفسا
وقد تناولنا في مقال سابق شخصية من أعجب شخصيات هذا القرن وداعية من أغرب دعاته، ونعني يعقوب فرنك أو البارون فون أوفنباخ ورأينا كيف كان القرن الثامن عشر مهبط الدعاة والمغامرين من كل ضرب، وكيف كان الخفاء يغمرهم ويثير من حولهم كثيرا من الدهشة والروع، وكيف كان أولئك الدعاة المغامرون يخلبون ألباب مجتمعات هذا العصر برائع شخصياتهم ومظاهرهم، وظرف خلالهم وشمائلهم، وسحر مزاعمهم وأقوالهم، وخفاء غاياتهم ووسائلهم
والآن نتناول شخصية أخرى من أعجب شخصيات هذا القرن أيضا، ولكن من طراز آخر، هي شخصية جاكومو كازانوفا
كازانوفا! مغامر جريء يخلق لنفسه من العدم شخصية باهرة، ويدخل الحياة من باب ذهبي، ويستقبلها بابتسامة خالدة؛ ويفتتح المجتمع الرفيع بذكائه ودهائه وخبثه، وظرف خلاله وشمائله؛ ويرتفع في ميدان المغامرة إلى الذروة، ويهبط إلى الدرك الأسفل؛ ويستمرئ أمتع المسرات والملاذ، كما يتذوق أمر ضروب السقوط والفاقة؛ وينحدر من فتوة باهرة ظافرة برفاهة العيش الساطع المرح، إلى كهولة حافلة بصنوف الخيبة واليأس، إلى شيخوخة مظلمة مغمورة بائسة، ثم إلى عالم العدم في قبر ناء مجهول
لم يكن كازانوفا شخصية عظيمة تجدر بالخلود في صحف التاريخ؛ ولكنه كان شخصية من نوع خاص تنحرف بطرافتها وغريب أطوارها عن سلك المجتمع الوديع الهادئ، ولكن تنفث في نفس الوقت بقوتها واضطرام خلالها أينما حلت في جوانب هذا المجتمع كثيرا من الفضول والسحر، وتغزو بمرحها وأناقتها قلوب أولئك الذين يعبدون الجمال والظرف مهما اتخذوا من أثواب خلابة طائرة؛ وقد كان كازانوفا يتشح بأثواب خلابة طائرة، ولكن مؤثرة ساحرة، ولم يكن يهمه في الحياة سوى النجاح مهما كان خلبا، والظفر بتحقيق أهوائه مهما كانت ومهما كانت الوسائل والصور؛ وقد ترك لنا فوق ذلك عن حياته الغريبة الحافلة مذكرات طلية شائقة مازالت تعتبر إلى يومنا تحفة أدبية فنية لها قيمتها ولها سحرها
ولهذا يظفر كازانوفا من التاريخ بالذكر والتدوين، وتغدو سيرته العجيبة سجلا حافلا لخلال عصره، وتغدو موضوعا ومستقى لأقلام بارعة تخرج عنها المؤلفات الحافلة
ولد جاكومو كازانوفا في الثاني من شهر أبريل سنة 1725 بمدينة البندقية؛ وكان أبوه جايتانو ممثلا متواضعا ألقى به إلى البندقية وإلى المسرح قدر غريب، ذلك أنه هام في صباه بممثلة حسناء تدعى لافراجوليتا، وترك من أجلها أسرته وموطنه بارما، واحترف الرقص والتمثيل؛ ثم فتر هواهما بعد ذلك وتركته الممثلة لتجري وراء مغامرات أخرى، فاستبقى من بعدها حرفته، والتحق للعمل بأحد مسارح البندقية؛ وكان يقيم في المنزل المواجه لمسكنه صانع أحذية يدعى فاروزي وزوجته مارسيا وابنتهما الحسناء جوفانا أو زانيتا، فنشأت بين جايتانو وزانيتا علائق غرامية، ثم فر العاشقان ذات يوم وعقدا زواجهما في فبراير سنة 1724، وبعد عام ولد ابنهما جاكومو
ولم تلبث زانيتا أن حملها تيار المسرح، فظهرت إلى جانب زوجها، وانفق الزوجان بضعة أعوام في التجول من مدينة إلى أخرى ومن مسرح إلى آخر؛ ثم أصيب الزوج أثناء وجودهما بالبندقية بمرض خطير أودى بحياته في أواخر سنة 1733
وكان جايتانو كازانوفا فتى وديعا حسن الخلال، يؤثر الانزواء والعزلة؛ أما زانيتا فقد كانت بالعكس فتاة ذكية ماكرة مضطرمة النفس والأهواء؛ وكانت ممثلة بارعة تمتع بكثير من الظرف والسحر؛ وكانت دائمة التجول في عواصم القارة، من لندن إلى بطرسبرج، تحرز النجاح والظفر أينما حلت؛ وكان مستقرها الأخير في مدينة درسدن حيث عينها مختار سكسونية ممثلة مدى الحياة، وهنالك أنفقت بقية حياتها حتى توفيت سنة 1776
وكانت زانيتا قد رزقت غير جاكومو بثلاثة أبناء آخرين وابنتين، وتركتهم جميعاً بالبندقية لدى والدتها مارسيا فاروزي؛ وكانت مارسيا امرأة بسيطة جاهلة ولكن ذكية مخلصة، فكرست كل نشاطها وعنايتها لتربية أحفادها ولاسيما كبيرهم جاكومو؛ ويشير كازانوفا في مذكراته إلى ذلك الحرمان من عطف أبويه، ويقول لنا إنهما لم يكلماه قط، ويشير أيضاً إلى عطف جدته ورعايتها ويقول لنا إنه كان طوال حياته يذكرها بالحب والعرفان والإجلال
ونشأ جاكومو ضعيفاً سقيما، ولكن تبدو عليه إمارات الذكاء والنجابة؛ وكان للأسرة صديق من أعيان المدينة يدعى جورجو بافو، فاهتم بأمر الصبي العليل؛ وكان بافو جوادا طيب القلب، ولكن فاسد الخلال والسيرة؛ وكان شاعرا، ولكن شعره يفيض تهتكا وفجورا؛ فنصح بإرسال الصبي إلى بادوا ليتعلم في معاهدها ويستفيد من هوائها؛ وكانت زانيتا والدة جاكومو يومئذ في البندقية، فنزلت عند هذا النصح، وحملت جاكومو إلى بادوا، ورتبت مقامه هنالك؛ وأقام جاكومو مدى حين عند امرأة سلافية، ولكن ما لبث أن عاف المكث لديها لسوء المعاملة ورداءة المسكن والطعام، ثم نقل على أثر ذلك إلى منزل معلمه الأب جوزّي، فارتاحت نفسه لمقامه الجديد، وأقام لدى أستاذه منعما مكرما
وقضى كازانوفا بضعة أعوام عند معلمه، ودرس قليلا من اللاتينية واليونانية والنحو. وكان تقدمه سريعاً حتى أن الأب جوزي ما لبث أن اختاره لمعاونته في التدريس؛ وكان كازانوفا قد ناهز يومئذ الخامسة عشرة، وأخذت تبدو عليه إمارات الاضطرام الكامنة في جوانحه والتي ورثها عن والديه، فبدأ يقرأ الكتب المثيرة، ويزعج معلمه بمختلف الأسئلة المحرجة، ويحدج أخت معلمه بتينا - وهي فتاة في نحو العشرين من عمرها - بنظرات ملتهبة. ولما انتهت دراسته الابتدائية، دخل مدرسة الحقوق في جامعة بادوا الشهيرة، وأطلق لنفسه عنان الحرية، وأخذ يغشي دور اللهو والميسر، فانزعج معلمه، وانزعجت جدته وبادرت إلى بادوا وصحبته معها إلى البندقية، وهنالك استأنف دراسته
وفي البندقية تفتحت غرائزه وأهواؤه، وانكب على صنوف اللهو؛ ولكنه مع ذلك كان يتذوق دراسته وحياته العلمية، وكان ذلك الفتى اليافع الذي يضطرم ظمأ إلى اللهو والمرح، يضطرم في نفس الوقت ظمأ إلى العرفان والدرس؛ وكان في الثامنة عشرة يأخذ بقسط حسن من الأدب والفلسفة والمبادئ العلمية، ولم يكن خلال عبثه ولهوه ليغضي عن التفكير في مستقبله؛ فلم يمض سوى قليل على عوده إلى البندقية حتى استطاع أن ينتظم في سلك رجال الدين وأن يحصل على وظيفة دينية صغيرة. أجل استهل كازانوفا حياته العملية قساً، وهو الذي خاض فيما بعد غماراً من اللهو والفجور قلما يخوضها بشر! ولم يكن ذلك منه ورعاً أو رغبة في خدمة الدين، ولكن الانضواء تحت لواء الكنيسة كان يومئذ وسيلة فريدة لأبناء الشعب الذين يطمحون إلى مستقبل ما؛ وكان ذلك المنصب المتواضع الذي لا يحتم عليه الارتباط بعهد الكنيسة، يفتح له كثيراً من الأبواب المغلقة، ويحقق له كثيراً من المزايا التي تعاونه على التقدم في سبيل الحياة
ولم يمض سوى قليل حتى استطاع كازانوفا أن يجوز إلى المجتمع الرفيع وأن يعترف بكثير من الكبراء والنبلاء؛ وكان بين هؤلاء، غير صديقه وحاميه القديم بافو، سيد يدعى مالبيرو، وهو شيخ سابق، وثري منعم، يعيش في قصر فخم، ويجمع حوله جمهرة من الخلان الظرفاء، يتسامرون ويتحدثون عن اللهو والنساء والحب، كما يتحدثون عن السياسة والمسرح؛ وألفى مالبيرو في القس الفتى رفيقاً مؤنساً فاصطفاه واتخذه سميره وخله الحميم ومعاونه على تنظيم حفلاته الأنيقة؛ وكان كازانوفا في الواقع يتمتع في هذا الميدان بكثير من حسن الذوق والشمائل الرقيقة، فيتقدم لخدمة السيدات برشاقة ويخلب ألبابهن بظرفه، ويسبغ بحركاته وأحاديثه على الحفل كله مسحة من البهجة والرواء
وكانت البندقية يومئذ - في منتصف القرن الثامن عشر - منزل اللهو والمرح، تموج في الليل بالمسارح ودور اللهو، وتغمرها لمحة ساطعة من بهائها السابق؛ وكان الحب يرفرف على أرجائها وتنساب القوارب النحيلة في شوارعها المائية تحمل أزواج المحبين تحت جنح الظلام وأضواء القمر، وتقرع كؤوس الهوى في كل ناحية، ويسود الحبور والبهجة؛ وكان كازانوفا يخوض هذه الغمار المرحة سعيدا منعماً، ويستمرئ هذه المناظر البديعة التي تقدمها إليه المدينة التالدة، في ظل الرعاية التي يشمله بها صديقه وحاميه السيد مالبيرو
بيد أنه لم يلبث أن فقد هذه الرعاية. ذلك أنه كان للسيد مالبيرو صاحبة فتية حسناء تدعى تيريز، وكان كازانوفا يرنو إليها ويحوم حولها، ففي ذات يوم استطاع أن ينفرد بها في أحد المخادع، وبينا هو يبثها جواه، إذ فاجأهما مالبيرو فانهال عليه ضرباً بعصاه، وطرده من منزله شر طرد، وفقد كازانوفا بذلك أكبر عضد، وأقصى عن ذلك المجتمع الساطع الذي كان يغشاه؛ وتولته على أثر ذلك نوبة من اليأس والكمد؛ وكانت جدته قد توفيت قبل ذلك بقليل، فأخذ يتصرف في مقتنيات المنزل ويبددها، واضطر الوصي على أخوته إلى التدخل، ووصل الأمر إلى القضاء فقبض عليه وأودع السجن؛ وفقد أثناء ذلك منصبه الديني وأخرج من حضيرة الكنيسة؛ ولما أطلق سراحه بعد ذلك بقليل، شعر أن البندقية تضيق به وبمشاريعه وأنه لم يبق له فيها أمل أو مقام
وكانت أمه قد كتبت إليه توصيه بالسفر إلى أسقف كالابريا فهو صديق لها وفي وسعه أن يعاونه وأن يوصي به؛ فعول عندئذ على السفر إلى رومه، ولكن الأسقف كان قد غادرها إلى مقر وظيفته في الجنوب؛ وكانت نقوده القليلة قد نفدت، وساءت حاله، واضطر أن يلتمس العيش بأخس الوسائل؛ وتعرف أثناء الطريق بتاجر يوناني يتاجر في الزئبق، واتفق معه على طريقة لغش الزئبق وتحصيل ثمنه مضاعفاً، واستطاع بهذه الوسيلة أن يكسب قدراً من المال؛ ووصل أخيراً إلى مارتيرانو مقر الأسقف، ولكنه شعر بآماله تتحطم حينما رأى حالة الأسقف الزرية من منزل قفر متهدم، وبؤس ظاهر، وعزلة قاتلة؛ فارتد أدراجه إلى نابولي ومعه بقية من المال؛ وهنالك بسم له الحظ، وقضى بضعة أيام سعيدة، تعرف خلالها بامرأة حسناء تدعى لوكريزيا وتوثقت علائقه معها بسرعة، وكانت في الواقع أول صاحبة حقيقية خضعت لسلطان هواه
ثم نراه بعد ذلك في رومه يطرق الأبواب ويحاول أن يشق طريقه؛ وقد كان عندئذ موفقاً إذ استطاع أن يلتحق بوظيفة في حاشية الكردينال اكوافيفا؛ وقضى حيناً في رومه يستزيد من الدرس وينعم بصحبة لوكريزيا، ويهيئ لنفسه جواً من الرعاية والعطف بذكائه وذلاقته ورقة شمائله
على أن هذه الحياة الهادئة المستقرة لم تكن لتروق فتى مضطرم الجوانح مثل كازانوفا، فقد كانت نفسه الوثابة الظمأى إلى المغامرة تحمله إلى آفاق أخرى؛ وكان شبح المرأة يثيره ويلهبه أينما وجد؛ وسرعان ما لفت الأنظار بفضائحه ودسائسه الغرامية وتفاقم الأمر حينما أتهم بإغراء سيدة تمت إلى بعض الأحبار بصلات وثيقة؛ ففقد وظيفته ومركزه مرة أخرى، ورأى نفسه مرغماً على مغادرة رومه فغادرها إلى قسطنطينية يحدوه دائماً ظمأ المغامرة وتدفعه طلعة التجوال
ثم عاد إلى البندقية ولكن عاد إليها في ثياب ضابط. ذلك أنه مر في طريقه بالمعسكرات النمسوية والأسبانية، وحصل على ترخيص بالانتظام في سلك الجيش، وقدر أنه يستطيع أن يخلق له في ظل هذا الثوب حياة جديدة، ولكنه لم يحرز ترقية نظراً لسوء سلوكه، فخلع ثوبه العسكري واشتغل مدى حين كاتباً في مكتب محام، ولكنه لم يسكن طويلاً إلى هذا المنصب الوضيع؛ وأخيرا ذكر أنه يستطيع العزف على القيثارة مذ كان صبياً يدرس في بادوا، فانتظم عازفاً في إحدى الفرق المتواضعة؛ وفي ذات ليلة تعرف بسيد كبير وشيخ سابق يدعى براجادين في حفلة كان يعزف فيها، وقدر أن أصيب هذا الشيخ في نفس الليلة بنوبة صرع، وكان كازانوفا إلى جانبه في قاربه، فهرع إلى غوثه واستدعى له طبيباً، ولبث يعنى به حتى شفى، فعرف له براجادين هذه اليد، وقربه إليه وأنزله بقصره الفخم وأجرى عليه النفقة الواسعة، واستطاع كازانوفا في نفس الوقت أن يؤثر في مضيفه بمزاعمه في معرفة الغيب وضروب السحر، وأن يكسب ثقته، وأن يعود بفضل رعايته فيغزو ذلك المجتمع الرفيع الذي أقصي عنه مدى حين
(للبحث بقية)
(النقل ممنوع)
محمد عبد الله عنان