مجلة الرسالة/العدد 144/النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق
→ تجديد الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 144 النهضات القومية العامة في أوربا وفي الشرق [[مؤلف:|]] |
صور من القرن الثامن عشر ← |
بتاريخ: 06 - 04 - 1936 |
للدكتور عبد الرزاق السنهوري
عميد كلية الحقوق ببغداد
تمهيد:
دعتني لجنة الثقافة بدار المعلمين لإلقاء محاضرات عامة، فترددت في اختيار موضوع هذه المحاضرات، ذلك أني رجل أشتغل بالقانون، والناس لا يرحبون كثيراً لا بالقانون ولا برجال القانون، وكيف يستسيغ الناس القانون، وهو جاف لا طلاوة فيه، أو ترحب برجال القانون، وهم رجال صناعتهم الخوض في المنازعات، فإن لم توجد خلقوها خلقا؟ هذه هي سمعة رجال القانون عند الجمهور، ولا أحاول أن أدافع عنهم، وإن كنت منهم، فإني أخشى أن ينازعوني حق النيابة عنهم والتحدث باسمهم. لذلك آثرت أن أتجرد الليلة عن هذه الصفة، وأن أتقدم إليكم بموضوع لا شأن له بالقانون، واخترت أن يكون موضوعي عن النهضات القومية في أوربا وفي الشرق
ولست أزعم أنني توفرت على دراسة موضوعي دراسة دقيقة، فإن الدراسة الحق لهذا الموضوع تقتضي الخوض في فلسفة التاريخ والاجتماع، مما أعفيكم منه، كما أعفيكم من سماع الأحاديث القانونية الجافة. لذلك سترونني هذه الليلة أمس موضوعي مساً خفيفاً، في رفق وهوادة، محاذرا أن أثقل عليكم أو أن أثقل على نفسي، راجياً العذر إذا قصرت في التعمق، فإن الغرض الأول الذي توخيته من هذه المحاضرات، ليس هو الغرض العلمي. بل هي الرغبة في استخلاص بعض الدروس للشعوب الشرقية في نهضاتها الحديثة، في ضوء التجارب التي مرت بها الأمم الغربية
ومادمت سأتكلم في النهضات القومية، ومادامت النهضة تقوم على روابط، فإني أبدأ بتحديد معنى الرابطة، تمهيداً للكلام في النهضات القومية
الرابطة وحدة تجمع طائفة من الناس، وتقرب ما بينهم، وتميزهم من الطوائف الأخرى، فالرابطة إذن لها وجهان: وجه إيجابي، هو ذلك التقريب، وكلما توثقت أواصره كان في ذلك الخير كله. ووجه سلبي، هو ذلك التنافر والتباعد ما بين طائفة وأخرى، وكلما أغ فيه كان تعصباً، والتعصب كريه مذموم
ولابد من وجود الروابط في الجمعيات البشرية، وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً. نعم لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولكانت هناك رابطة واحدة تربط الناس جميعاً، هي رابطة الإنسانية، ولكن ذلك المثل العالي لم يتحقق حتى الآن، وقد لا يتحقق إلى مدة طويلة، بل قد لا يتحقق أبداً، لذلك يجب أن نواجه الأمر الواقع، وأن ننظر على أي أساس يتميز الناس أمماً وشعوباً
ولنبدأ باستعراض التاريخ استعراضاً سريعاً، لنستخلص منه الروابط المتعاقبة التي ربطت الجمعيات البشرية في أوربا، منذ العصور الوسطى إلى الآن. إن المستعرض لتاريخ الغرب يستطيع أن يقرر أن الجمعيات البشرية قد تقاربت وتباعدت، على أسس اختلفت باختلاف مراحل التاريخ. ففي العصور الوسطى كان الأساس هو الدين، إذ تجمعت الشعوب الغربية وقامت وحدتها على الدين المسيحي، ثم أخذت رابطة الدين تنحل شيئاً فشيئاً، وأخذت تحل محلها رابطة الوطن، ومازالت أواصر الوطنية تتماسك، ثم تتوثق، حتى قوى التعصب لها، وحتى قامت الحروب ما بين الشعوب المختلفة في الوطن وإن اتحدت في الجنس، وبقى الأمر كذلك حتى مستهل القرن التاسع عشر، إذ قويت رابطة الوطن بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، ثم أخذت رابطة أخرى في الظهور، رابطة تقوم لا على فكرة الوطن ولا على فكرة الجنس، بل على فكرة الكفاح ما بين الطبقات، ووجوب سيادة طبقة العمال، وبهذه الرابطة نادى الاشتراكيون، وأخذ أمر الاشتراكية يقوى شيئاً فشيئاً، ومذاهبها تتنوع وتتشعب، حتى الحرب الكبرى، إذ استفحل شأن الاشتراكية بارتماء الروسيا في أحضان البلشفية.
على أن رابطة الوطن، وقد وقفت إلى جانبها رابطة أخرى مقاربة لها هي رابطة الجنس، لم يفتر نشاطها، بل نزلت إلى ميدان النضال. وهانحن اليوم نشهد عراكا عنيفاً ما بين رابطتي الوطن والجنس من جهة، ورابطة الطبقات من جهة أخرى
هذا بيان إجمالي عن الروابط التي تعاقبت على أوربا منذ العصور الوسطى إلى اليوم: من رابطة الدين، إلى رابطة الوطن، إلى رابطة الجنس، إلى رابطة الطبقات، ونحن نفصل الآن ما أجملناه 1 - العصور الوسطى: رابطة الدين
قلت إن الشعوب الأوربية كانت تجمعها في العصور الوسطى جامعة الدين، وكانت الدولة لا تقوم على القومية أو الوطنية في تلك العصور، بل كانت الدولة والقومية منفصلتين إحداهما عن الأخرى منذ العصور القديمة، فقد كانت اليونان قومية واحدة تتنازعها دول متعددة، وكانت الرومان قوميات متعددة تندمج في دولة واحدة. ولما جاءت العصور الوسطى تجمعت الشعوب الأوربية في ظل الدين المسيحي، يقود زمامها سلطتان: سلطة روحية هي سلطة البابا، وسلطة زمنية هي سلطة الإمبراطور. واستندت الكنيسة إلى السلطة الزمنية دهوراً طوالا، فإن المسيحية كان قد اشتد كاهلها في ظل الإمبراطورية الرومانية، إذ بعد أن ناوأتها هذه الإمبراطورية زمناً طويلا، واضطهدت معتنقيها، وسامتهم الخسف والعذاب، تغلبت قوة الإيمان، وانتصرت المسيحية، واتخذتها الإمبراطورية الشرقية ديناً رسمياً للدولة
ولما سقطت الإمبراطورية الرومانية شعرت الكنيسة بحاجتها إلى سلطة زمنية تستند إليها، وبقى المثل الأعلى للشعوب الغربية هو أن تتجمع في ظل الكنيسة. وقد تحققت هذه الأمنية إلى حد كبير في آخر القرن الثامن، وقام بتحقيقها شارلمان، فقد وحد غرب أوربا بعد أن أخضعها لسلطانه، وتوجه البابا ليو الثالث في سنة 800 في كنيسة القديس بطرس، إمبراطورا على العالم المسيحي، وخليفة للقياصرة من الرومان، وأعاد الإمبراطور أوتو الجرماني وحدة العالم المسيحي مرة أخرى في القرن العاشر، أما الكنيسة نفسها فقد كان ظلها ينبسط على العالم المسيحي، يحقق وحدة هذا العالم، وقد كان لها أعوان منبثون في كل قطر وبلد، يؤيدون سلطانها، وينفذون إرادتها، وسلاح الكنيسة إذ ذاك هو الغفران والحرمان، تغفر لمن تشاء، وتحرم من تشاء، فكلمتها نافذة مطاعة، والعالم المسيحي ينظر إليها رمزاً لوحدته
وبقيت الرابطة الدينية قوية متينة دهوراً طوالا، ثم أخذت في الانحلال، ويرجع السبب في انحلالها إلى الحروب الطويلة التي نشبت ما بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وإلى اتصال العالم المسيحي بالعالم الإسلامي بعد انقضاء الحروب الصليبية، مما خفف من حدة التعصب الديني، وإلى الإصلاح الديني الذي كان من شأنه أن يشق العالم المسيحي إلى كثلكة وبروتستانتية، وأخيراً، وبنوع خاص إلى عصر النهضة في العلوم والفلسفة، تلك النهضة التي افتتحت بها العصور الحديثة في أوربا، فبدد نور العلم ما كان قد تلبد من غياهب التعصب، وانقشعت ظلمات الجهالة، وميز الناس بين الروابط المدنية والروابط الدينية، فحكموا في الأولى عقولهم، وفي الأخرى ضمائرهم، وأعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
2 - العصور الحديثة: رابطة الوطن ورابطة الجنس
وننتقل الآن من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وقد بدأت هذه العصور في أوربا منذ القرن السادس عشر، وبدأت معها رابطة الوطن تحل محل رابطة الدين، وقد كان يمنع من توثق رابطة الوطن في الماضي أمران: (الأمر الأول) رابطة الدين وقد رأينا كيف تفككت هذه الرابطة. (الأمر الثاني) شيوع النظام الإقطاعي في الشعوب الأوربية، وقد كان من شأن هذا النظام أن يفكك سلطان الدولة، وأن يوزعه بين النبلاء، فلم تكن تقوم للدولة ولا للقومية قائمة في ظل هذا النظام. ثم أخذ يزول شيئاً فشيئاً، ويرجع السبب في ذلك إلى تقدم التجارة والصناعة؛ مما جعل طبقة التجار والصناع وهي الطبقة الوسطى ذات شأن كبير. فأضعفت من سلطان الأرستقراطية والنبلاء، وحلت البرجوازية التجارية والصناعية محل الأرستقراطية النبيلة، واستندت إليها السلطة المركزية، واستعانت بها في توطيد سلطانها وهدم سلطان النبلاء
وغرس تقدم التجارة والصناعة عند الأمم الغربية حب الاستعمار سعياً وراء أسواق جديدة للتجارة، أو جرياً وراء الحصول على المواد الأولى للصناعة، وقويت نزعة الاستعمار عند الدول الغربية الكبرى، وتنافست، فقامت الحروب بينها، وزادت كل أمة شعوراً بقوميتها، وهكذا نرى أن الاستعمار كان من شأنه أن يقوي الوطنية، وأن يذكي نار التعصب للقومية
وقد بلغت رابطة الوطنية أوجها من القوة بعد نشوب الثورة الفرنسية وحروب نابليون، وبقيت قوية عنيفة طوال القرن التاسع عشر، رغماً عن حركة الرجعية التي رفع لواءها مؤتمر فينا. وأخذت القوميات التي لم تستكمل استقلالها تكافح في سبيل هذا الاستقلال، وخرجت منتصرة من هذا الكفاح. فاستقلت اليونان عن الدولة العثمانية، والبلجيك عن هولندا، وإيطاليا عن النمسا، وأخفقت بولونيا والمجر، ولم يقدر لهما النجاح إلا بعد الحرب الكبرى، واستقلت بعض ولايات البلقان، وتكونت الإمبراطورية الألمانية، بعد أن اصطدمت القومية الألمانية بالقومية الفرنسية، وجر هذا الاصطدام إلى حروب دامية وأهوال
على أن تقدم الصناعة بنوع خاص، لاسيما في القرن التاسع عشر، كان له أثران خطيران غير تقوية روح الوطنية والنزعة الاستعمارية. (الأثر الأول) تقويته روح الديمقراطية، التي بدأ غرسها الثورة الإنجليزية، وأنبتتها الثورتان الأمريكية والفرنسية. وللديمقراطية حديث طويل، يصح أن يكون موضوعاً مستقلاً لسلسلة من المحاضرات. (الأثر الثاني) غرسه روح الاشتراكية، وهنا نرى عجباً. فإن الصناعة، التي قوت رابطة الوطنية، أوجدت إلى جانبها رابطة أخرى مناقضة لها كل المناقضة، هي رابطة الطبقات. إذ قويت طبقة العمال بفضل تقدم الصناعة الكبير، وأخذت تشعر بقوتها، وتجمعت كتلاً كتلاً، وسرى روح التفاهم ما بين العمال من جميع القوميات، وصاح فيهم ماركس صيحته المشهورة: (أيها العمال من جميع أنحاء العالم، هلموا إلى رفع لواء الاتحاد)، وعارضت روح الطبقات روح الوطنية، وبدأت الاشتراكية تدخل في دور عملي، ولم يعد بد للأمم الأوربية من أن تواجه هذه الحركة الجديدة
وقبل أن ننتقل من الوطنية إلى الاشتراكية، نقف قليلاً، لنعرف معنى الوطنية التي أكثرنا من الإشارة إليها، فقد تحاشينا تعريفها حتى الآن، إذ ليس من السهل تحديد هذا المعنى الدقيق، فالوطنية جامعة تقوم على روابط طبيعية وأخرى صناعية، وأول الروابط الطبيعية هو وحدة الجنس والدم، ويلي هذا وحدة الإقليم الجغرافي. ثم وحدة اللغة، ويترتب على هذه الوحدات المختلفة وحدة لتاريخ ووحدة التقاليد، هذه الروابط الطبيعية التي تجمع ما بين أبناء شعب واحد، وتجعل من هذا الشعب وطناً يشعر بذاته. فإذا اقترنت بهذه الروابط الطبيعية رابطة أخرى صناعية، هي وحدة النظام السياسي، فقد استكملت الوطنية ذاتيتها، واستجمعت مقوماتها ومشخصاتها، وإذا انظم إلى كل هذه الروابط وحدة الدين، فقد بلغت الوطنية الأوج من عنفوانها وقوتها. على أن اجتماع كل هذه الروابط ليس ضرورياً لتكوين الوطن، فوجود بعضها يكفي. والمهم أن يتوحد المكان الجغرافي والنظام السياسي، ويتبع ذلك وحدة التاريخ ووحدة التقاليد. فقد تضم رقعة جغرافية قوماً مختلفي الجنس، ولكن يتحد تاريخهم وتقاليدهم، فإذا انضموا إلى نظام سياسي واحد كوّنوا وطناً، وقد يتفرق أبناء الجنس الواحد بين أوطان متعددة، كل وطن له مقوماته الذاتية من لغة وتاريخ وتقاليد، وقد يتجمع القوم متحدين جنساً مختلفين ديناً، ولا يمنع اختلاف الدين من تكون الوطن، ومن هنا نرى أن رابطة الوطن لا تتفق تماماً مع رابطة الجنس والدم. فالرابطة الأولى فيها شيء من العوامل الصناعية تعززها وتقويها، والرابطة الثانية، رابطة الدم، تقوم على الطبيعة ذاتها، ولا تعارض بين رابطة الوطن ورابطة الجنس والدم، حتى لو ضم الوطن الواحد أجناساً مختلفة. إلا إذا أسيء فهم الوطنية، وأخذت لا على أنها صلة حب وتآلف بين هذه الأجناس، بل صلة كراهية ومقت لكل قومية أخرى
(يتبع)
عبد الرزاق السنهوري