مجلة الرسالة/العدد 143/دراسات أدبية
→ خيبة رجاء | مجلة الرسالة - العدد 143 دراسات أدبية [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1936 |
في الأدب الإيطالي الحديث
بقلم محمد أمين حسونة
- 2 -
البيراندلية الحديثة
ويكاد لويجي بيراندللو يعد ألمع شخصية في الأدب الإيطالي الحديث، كما أنه أعظم كاتب مسرحي في هذا العصر. وهو من الأدباء الذين تأثروا إلى مدى بعيد بنظريات العلامة النفساني سيجموند فرويد، وقد استطاع أن يجسم تضاعيف هذه النظريات في رواياته التي تدور حول رسم وتصوير العواطف الخفية التي تسبح في العقل الباطن، وتظهر الآونة بعد الأخرى على سطح العقل الواعي فتصطدم بالتقاليد والنواميس الطبيعية
على أن أشد ما يؤسف له هو أننا لم نفهم بيراندللو إلا من حيث أنه كاتب مسرحي فقط، أما من وجهة أنه قاص عبقري فلا يزال مجهولا رغم ما أنتجه من القصص الممتازة التي تدل على قوة الملاحظة وخلق الشخصيات الناضجة التي تطابق الواقع وما امتاز به من تحليل الشخصية ورد العناصر إلى أصولها
بيراندللو - في عرف بعض النقدة - رمز للعالم الحديث فهو يشعر شعوراً عميقاً بالزمن الحاضر المضطرب بسبب الحوادث والماديات اللاصقة به. ونحن إذا شاهدنا مسرحياته لنقارنها بقصصه شعرنا باضطراب وعدم استقرار. بل لما وجدنا شيئاً نتعلق به لننجو بأنفسنا، فكأننا في بحر مضطرب ثائر لا يهدأ، وكل بطل من أبطاله ليس الواقع إلا (هملت جديد) لا يعرف معنى للاستقرار. وكلما تعمق في الحياة ازداد اضطرابا، فهو أمام الحياة في حالة ذعر وخوف
وشخصية بيراندللو نفسها تعد مثالا حياً للمضطربين الذين لا ينشدون الراحة إلا في حالة ثورة فكرية، وقد أطلق عليه دانبيل روبس في كتابه , لقب (البلشفكي العقلي)، أي أنه صاحب مذهب شيوعي متطرف بالنسبة للفكر الإنساني، على أننا لا نقر هذه التسمية الخاطئة، لأن الشيوعية المتطرفة تفكر في إعادة البناء بعد الهدم، على حين أن بيراندللو يهدم ولا يبني
ويدور فن بيراندللو الروائي حول الشعور بالحياة، ويؤدي إلى فكرة مبهمة عامة، فإذا ما تطورت برزت أمامها عقبات لصدها عن اتخاذ طريقها الطبيعي، وأهم هذه العقبات ما يتعلق بالدين والأخلاق والقوانين، وما يجري للإنسان في حياته العادية أما أدبه فيرتكز على نظريات فلسفية يعبر عنها بلسان أبطاله، وليس الأدب في نظره سوى وسيلة للحياة في الخيال وللفرار من المتاعب المادية. فإذا فكر في موضوع رواية مسرحية أو قصة استسلم إليها وأحس أنه بعيد وسطه الحقيقي ليحلق في الجو المصطنع الذي يبتكره خياله. وهو في هذا يقول: (لا سيادة لنا مطلقا على أفكارنا وعواطفنا ورغباتنا، وأننا لسنا سادة بشخصياتنا، بل إن هذه الشخصية تخضع غالباً لأحكام الكون ولجميع ضروب التأثيرات النفسية. وأنه ليس لنا كيان شخصي معين بل إن شخصيتنا تتبع أعمال الغير، فنحن نلعب الدور الذي تفرضه البيئة ويفرضه المجتمع. وأننا سوف ننتهي إلى حيث لا نعرف)
ويخيل إلى أن بيراندللو يشبه من ناحيته الفلسفية عمر الخيام الذي كان ينادي بالقضاء والقدر، والى أن أساس الكون ومحور نظامه ليس إلا الاضطرار والجبر. فالقدر في نظر كل منهما أزلي والقضاء أعمى، ولسنا سوى آلات في يد الدهر، تحركنا كما تحرك الريح الشجر، فليس لنا من إرادة ولا في وسعنا أن نستقل بآرائنا إنما نحن (رخاخ) في رقعة شطرنج
يعارض النقادة الإيطالي النابه فردريك نارديللي في كتابه المسمى (حياة ومتاعب بيراندللو , - الرأي القائل بوجوب فصل حياة الفنان الخاصة عن فنه كيما يتسنى الحكم عليه أو في صالحه، فيصف لنا في أمانة وبساطة المصائب التي لاقاها بيراندللو في كافة أدوار حياته وارتباطها بفنه، فقد ولد بيراندللو وشب في جزيرة صقلية، ولذا فمن السهل أن نجد ظل الحياة الصقلية واضحاً عميقاً في رواياته ونجد أيضاً رسم التقاليد والعادات والحياة الاجتماعية الصقلية في عصر النهضة، والإشارة عن طريق خفي في إحدى مسرحياته بما وقع لأمه في بدء شبابها. فقد ظل والده بعد العام الأول من زواجه يعاشر ابنة عمته الأرملة، فحملت منه بما أدى إلى أن يمنحها هبة مالية بمثابة بائنة تساعدها على الزواج في بلد آخر ففي رواية بيراندللو المسماة اكساء العارين يرسم لنا بطلته وهي أرملة تسمى أرزيليا حاولت أن تحمل الناس على الاعتقاد بأن محاولتها الانتحار كانت بسبب هجر خطيبها، ولكن الواقع أنها هي التي خدعته. وقد حاولت الانتحار لأنها ضبطت في حالة مريبة مع رب الأسرة الذي تعمل مربية لأولاده. وفي خلال ذلك مات الطفل الذي عهد إليها بتربيته تحت تأثير حادث خفي، وقد أنقذت أرزيليا من الانتحار بأعجوبة. فتألب الصحفيون حولها وأخذوا يمطرونها بوابل من الأسئلة، لأن الرأي العام مهتم بمسألتها، ولكن بعد فوات زمن طويل جعل الناس يستوضحونها الأسباب التي حملتها على الانتحار، فلم يسعها أمام إلحاحهم سوى الاعتراف بالحقيقة والبوح بالسر، وعندئذ سقط القناع، وأمام حرج موقفها وتبكيت الضمير عاودت الانتحار وفي هذه المرة نجحت
فتأثير الحادث الذي سمعه بيراندللو وهو في حداثته من أبيه كان لا يزال لاصقاً بذهنه، فلم يجد بدا من أن يصوغه في قالب روائي وأن يخلع عليه طريقته في تأليف مسرحياته واضعاً أشخاصه في حالة إبهام وغموض وتجلد أمام الآلام، مسدلا القناع على وجوههم، ولكن هذا القناع لا يلبث أن يمزقه بعد حين ليعيد إليهم شخصياتهم الحقيقية
أما في روايته (المرحوم ماثياس باسكال) ففيها لأول مرة يعالج الخيال والواقع والحياة والموت والجنون والحكمة، وهي تدور حول تحليل شخصية رجل فقير يدعى ماثياس باسكال هرب من زوجه وحماته لشراسة طبعهما، قاصداً الهجرة إلى أمريكا، غير أنه وقف في طريقه بمونت كارلو ليجرب حظه على مائدة الروليت فاسعفه الحظ وربح أرباحا طائلة، وحدث في اليوم التالي لاختفائه أن وجدت جثة غريق مجهول في النهر فزعم أهل قريته أنها جثة ماثياس ودفن على هذا الزعم وتسربت الحادثة إلى ماثياس عن طريق الصحف وهو في مونت كارلو فقرر أن يعيش مختفيا وأن يتجرد من شخصيته الحقيقية ليعيش متحررا من الروابط الاجتماعية، لكنه بعد أن يتعرى من شخصيته يفقد توازنه بدليل أنه يقول: (إن الشيء الوحيد الذي أؤكده هو أنني كنت أدعى ماثياس باسكال). بل ربما نسى أنه كان يدعي بهذا الاسم!
وكثيراً ما يعيب النقدة على بيراندللو أنه يغرق في الخيال وفي عمق التفكير، ولكن في مؤلفات هذا الكاتب المتدفق الثائر نجد أن فنه سبق الحياة في الكشف عن حقائق ملموسة.
وعلى الرغم من أنه ابتكر شخصية ماثياس باسكال فقد طابق خياله منطق الحقيقة مطابقة تامة إلى حد أن حادث ماثياس باسكال وقع بالفعل في إيطاليا بعد تأليفه هذه الرواية بعشرين عاماً!
وهناك روايته الأخرى الموسومة بعنوان (ايف ولين) وخلاصتها أن شاباً من رجال الأعمال تزوج من فتاة اسمها ايفلين وعاشا عيشة اللهو والحب، ووقع الزوج في عجز وضيق مالي فلجأ إلى التزوير في حسابات عملائه، وقبل أن يفتضح أمره فر من وجه العدالة تاركا امرأته الشابة وطفلا له منها، وعطف عليهما محامي الزوج وآواهما في بيته وأصبحت المرأة في حكم زوجته وأنجبت منه طفلة وقد مر على حياتهما الهادئة المطمئنة أحد عشر عاماً، عاد بعدها الزوج الهارب كأشد ما يكون حباً وهياماً بامرأته. وهنا يظهر لنا ازدواج الشخصية كأوضح ما يكون جلاء، فقد حارت المرأة بين زوجها القديم وزوجها الجديد، وإنها لتذكر حياتها القديمة بما فيها من ألوان زاهية مرحة كلها الهوى والشباب وتقابل بينها وبين الحياة التي تحياها، فطابعها الوقار والرصانة والركود والانصراف إلى الواجبات. وأن لها من زوجها الأول طفلا هو اليوم شابة قوي جميل، ومن زوجها الثاني طفلة تحبها حباً يعادل حبها لولدها الشاب. وكلاهما يمثل ناحية خاصة من حياته بألوانها وصورها المتباينة. وإنها لتحن إلى حياتها الأولى المفعمة بالنشاط والهوى والشباب ولكنها تؤثر حياتها الراهنة بما يحوطها من وقار وإذعان وانصراف عن اللهو إلى الجد الصارم. وهي في حياتها الأولى يدعوها زوجها متحبباً إليها (ايف) وزوجها الثاني متحببا أيضاً (لين). وكل شطرة من هذا الاسم تثير في نفسها صورا ومعاني وألوانا مختلفة لا سبيل إلى التوفيق والملاءمة بينها وتنتهي الرواية بأن ترضى بحياتها الراهنة وأن يذهب ابنها الشاب ليعيش مع أبيه ولكنها مع ذلك لا تزال تحب زوجها الأول وتحن إلى حياتها القديمة وتشتهيها، وإنما هي قنعت بحياتها الراهنة لظروف لا تستطيع أن تتحداها
وقد ظن البعض أن هذه الرواية وليدة الخيال فمن المحال أن يقع في الحياة ما يشابهها، ولكن الحوادث أثبتت أن في الحياة مشكلات لا تقل في غرابتها عن فن بيراندللو، فقد وقعت في بودابست أخيراً حادثة تزوير، ارتكبها شاب يدعى فرادلبير، وفر إلى بلاد أخرى تاركا زوجه وطفلة، فاقترنت المرأة بعد أن يئست من عودة الزوج وأنجبت من زوجها الجديد طفلا، وقد رجع الزوج الأول بعد مرور أربعة عشر عاما ووصل إلى علمه زواج امرأته! وشغلت القضية أذهان الجمهور زمناً وأصبحت حديث الأندية والمجتمعات إلى أن مثلت مسرحية بيراندللو هناك فظن أكثر الناس أن المؤلف إنما يشير إلى هذه الحادثة بينما هو كتب مسرحياته قبل الحادثة بثمان سنوات!
(يتبع)
محمد أمين حسونة