مجلة الرسالة/العدد 143/القصص
→ دراسات أدبية | مجلة الرسالة - العدد 143 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 30 - 03 - 1936 |
درامة من اسخيلوس
3 - محاكمة أُورست
(الدرامة الثالثة من الأورستية)
تتمة
للأستاذ درني خشبة
- 10 -
واهتزت مينرفا فوق عرشها الممرّد، وتوجهت بالقول إلى المحلّفين العدول من الأثينين:
- (أيها الأثينيون! أنتم يا من اجتمعتم للنظر معي في قضية هذا الدم المسفوك لأول مرة في تاريخ الإنسانية! أصغوا وعوا! إن شعب ايجيوس العظيم ليتلفّت قي أقصى الأرض ينظر هل ما يزال هذا البيت الذي أسِّس على التقوى وشيدت دعائمه على العدل، عند حسن ظنهم به، ورجائهم فيه!؟ إن بحسْب الأكروبوليس فخرا أن أقامَتْه الأمازون تقديساً لمجد إيرس الخالد، إذْ كن يقتفين أثر ثيذيوس، فنسين ذَحَلَهن، واطّرحْن إِحَنهُن، لأنه لاذ بهذا الجبل. . . فهل كثير أن تنسوْا أضغانكم، قبل أن تعطوني موثقكم، فلا تميلوا ولا تحيدوا، ولا تعدلوا عن سبيل الحق، حين تعطون أصواتكم، إما لأورست، وإما عليه!! إنكم هنا لا تخشون عنتا ولا ترهبون رهقا، وإنكم لرضيّون مخلصون، وإنكم لتتفجّر قلوبكم حنانا ورحمة! وإني هنا لأبارككم، وأنزل شآبيب رحمتي عليكم، مادمتم خابتين خاشعين، تَصَّدَّعون من خشيتي! وإني أبدا ساهرة عليكم، أوليكم معروفي، وأرزقكم بركتي فأنتم دائماً شعبي، وأنتم آخر الدهر أمتي. هلموا إذن فاكتبوا أصواتكم، ونقوا سرائركم، وبَروا أيمانكم، ألا تميلوا ولا تأثموا. . . وحسبكم ما قدمت لكم!!)
وهوّمت ربات الذعر تهويمةً ثم قالت: - (على أننا نرجو ألا يحتقرنا الملأ، وألا تعدي وجود في أرضك تدنيساً لها!!)
فينهض أبوللو ويقول: (بيد أنني أحذركن يا ربات، ألا تجعلن نبوءاتي عبثاً، فأن أبي سيد الأولمب يؤيدني فيها جميعا)
- (نبوءاتك عن آثام الفجرة الكفَرة، التي ستلطخ الإنسانية منذ اليوم!!)
- (وأين كنتن يا ربات يوم أن قتل إكسيون أبا زوجته؟ أليس أبي قد اقتص منه بيده؟)
- (اهرف يا أبوللو بما شئت! ولكن ثق أننا لن نبرح هذه الأرض مادمت أنت فيها تحض على القتل، وتحرض على الجريمة وتغوي الناس على الفساد!)
- (ولن تبرح الآلهة، كباراً وصغاراً، تحمي عبادها من شروركن!)
- (كما تحمي عبدك الآن وقد ارتكب أشنع الجرائم، وكما تحمي عبادك دائماً؟)
- (وإذا لم تحم الآلهة عبادها وتدركها بالرحمة وقت الشدة فمتى تصنع هذا؟)
- (ولم يبق إلا أن ترشوا صغيرات الآلهة بقدح من الخمر فيضللن ضلالك، وتنعكس الشرائع!؟)
- (وليتني أستطيع إضلالكن فلا تجرعن البرايا سمومكن!!)
- (هيه!! لقد عيل صبرنا!! ألا متى ننتهي من هذه القضية فنترك لك هذه الأرض بمن فيها!!)
(وحين يفرغان من هذا الحوار يكون المحلفون قد فرغوا من وضع الأوراق التي تشمل أصواتهم في صندوق الاقتراع. . . . . . . . . . . . . .)
ثم تقول مينرفا: (وعلي الآن أن أبدي رأيي حراً بحيث لا يتأثر به أحد منكم!
أنا في صف أورست!! أجل أنا في صف أورست!! أنا مينرفا، التي لم تلدني أم، لا أبالي كثير بأم قتلت لأنها خانت بعلها، وذبحته، وخربت بيتها من معاني الأبوة والأمومة طوبى لك يا أورست! إذا تساوت الأصوات لك وعليك فإن صوتي يرجح حقك، ويؤزر براءتك!! طوبى لك يا أورست!)
فينتشي أورست من رهبة وفرح ويقول، مخاطباً أبوللو (يا إلهي أبوللو! النتيجة يا إلهي!! لي أم عليّ؟!)
وتلحظ ربات الذعر ما ترمقها به الأنظار المستهزئة فتخاطب مينرفا قائلة: (أيتها الربة مينرفا! أترين إليهم كيف يلمزونني؟!)
فيقول أورست: (إن ساعة خلاصي أو نجاتي تقترب حثيثة!!)
فتقول ربات الذعر: (وإن ساعة إثبات حقوقنا أو تجريدنا منها لتقترب حثيثة أيضاً!
ويهتف أبوللو بمن يفرزون الأصوات قائلاً: رويدكم أيها الفرازون! دققوا جهدكم في فرز الأصوات! وإياكم أن تخطئوا في واحد منها، فرب زلة من أحدكم تقلب الحق زوراً، وترسل البريء إلى سواء الجحيم!!)
ويسر رئيس الفرازين كلاماً إلى مينرفا فيعلوا البشر أسارير وجهها وتقول: (بشراك يا أورست! لقد وضع عنك وزرك واطهرْت من هذا الدم!! الأصوات متساوية لك وعليك، وصوتي يبرئك ويرجح حقك! فالبشرى لك!)
ويستولي على أورست طائف من الذهول، فيسجد بين يدي مينرفا ويقول:
- (مينرفا! إلهة العدالة! تباركت وتقدست! اليوم فقط صرت خليقاً بأن أكون مواطناً من آرجوليس! لقد نشأت في دار غربة، نضوهم وحليف آلام، ولم أكن أفكر إلا في الخلاص من حياتي المرة المترعة بالمتاعب، فتردين لي أنت اعتباري وطمأنينتي وميراثي في عرش آبائي. . . في لحظة عادلة تحت بيتك المكرم!! تقدست وتباركت يا مينرفا! يا ابنَة زيوس سيد الأولمب العظيم! زيوس حارسي الأمين، الساهر على رعاياه من ذروة جبل إيدا! سلام إلى الأبد يا مينرفا المباركة سلام إلى الأبد بين آرجوليس وبين أثينا الخالدة التي تباركينها وتحرسينها؟ لن تكون بينهما حرب ما عشت، فإذا قضيت فلن تكون حرب بينهما كذلك! فإذا حدثت أميراً من أمراء آرجوس نفسه بأن تكون هذه الحرب، فسأنتفض تحت ركامي لأجعل حياته شِقْوةً لا تحتمل، وأروعه بأطياف من الذعر تأخذ عليه سبيله أنى توجه، وتصير أيامه ظلمة، وأضواء الحياة في قلبه وعينيه مرارة وديجورا! هذا موثقي وتلك أقسامي يا ربة العدالة! أما إذا حافظ شعبي على السلام بين بلادينا، فسارفرف عليه بالمحبة وأصلي من أجله في أعماق هيدز! وداعاً يا مينرفا! وداعاً يا حارس أثينا الأمين! زيدي في مجدها وامنحيها البركة والجلود!)
(ويسجد سجدتين ويغادر الأكروبوليس)
- 11 - أما ربات الذعر فتأخذهن الحنقة، وتضطرم نفوسهن بالغضب وتنقلب كل منهن بركانا يقذف بالحمم؛ ويطفقن يتوعدن ويزمجرن ويتغنين نشيداً من أناشيد الجحيم جرسه رعد، ونغمه شواظ من نحاس يتردد في أفواههن، ويتحشرج في حلوقهن، ثم ينذرن ألا يذرن على أرض مينرفا مسبحاً باسمها ولا دياراً؛ وينهين نشيدهن بالبكاء على مجدهن الضائع، والرثاء لحقهن المغصوب. فتهتف مينرفا بهن:
- (على رسلكن يا ربات! فيم هذا الغضب، وهذه الضجة لِمَهْ؟! لقد رضيتن بي حكما فيما اختلفتن فيه، ولقد أخذ العدل مجراه، وسارت القضية بكل أمانة وكل إحسان. . . ولقد كانت براءة أورست ناصعة بحيث يكون من الظلم لو أننا أخذناه بما أردتن أخذه به. . . فلنفئ جميعاً إلى الحق، فهو دائما أبلج. . . . . . علام هذا النذير يا ربات؟ ما لأثينا الخالدة الآمنة النائمة في رعايتي، القارة في كنفي، وما لهذا الضغن الذي يغلي في قلوبكن؟! قمين بكن ألا تكن حربا على هذا الشعب الذي يسبح باسمي ويولي وجه شطر معبدي، وأنا أضمن لكن محبته، وأضمن لكن إجلاله، وأضمن لكن أن يقيم الهياكل باسمكن، وُيطنّب المعابد لكن. . .
- 12 -
ولكن ربات العذاب تغلو في النذير غلوا لا يليق بالآلهة، وتعود إلى ترديد النشيد الممقوت، نشيد جهنم الذي كله قصف وكله رعد، فترى مينرفا أن تأخذهن هذه المرة بالحزم، إشفاقا منها على أثينا الخالدة أن يصيبها مكر ربات العذاب
- (إذن. . . فأنتن تعرفن أنني وحدي أملك مفاتح زيوس. . . أبي. . . سيد الأولمب! أجل. . . أنا صاحبتها. . . وهي مسخرة لي وحدي، من دون الآلهة أجمعين. . . مفاتح زيوس، مفاتح نقمته. . . نقمته. . . هل سمعتن؟! المفاتح التي إن أردت حركتها فأرسلت عليكن صواعق السماء وشهبها الرواصد! وهنالك، وهنالك فقط، تندمن على ما فرطتن في حقي، وهنالك تلقين السَّلَمَ راغمات يا ربات، وهنالك أيضاً تسلم أثينا من شروركن؛ وتسلم جناتها من قحطكن، وقصورها من خرابكن
هل هذا خير؟ أم خير أن تقاسمنني محبة هذا الشعب البريء فيسبح لكن ويقدم الضحايا لكن، فتقطفن لأول مرة في حياتكن أول ثمرة شهية من أولياء مخلصين؟!)
- (ويلاه! يا لسوء حظوظنا، ويا لشؤم منقلبنا؛ لقد رضينا بالقسمة الضيزى إذ تقسّم الآلهة الشعائر في أول الأزل، ورضينا بهذا المأوى المظلم الدجوجي في أعماق السفل، ورضينا بسخط الناس ومقت الأرباب لما اضطلعنا به من تعذيب المجرمين وأخذ الآثمين بآثامهم. . . أفما كان بحسبنا كل أولئك حتى تجردنا صغار الآلهة حتى من هذا الحق الهضيم!! ويلاه! أدركنا يا أمنا الأرض! الغوث الغوث يا آلهة الظلمة. . .!)
وتلحظ مينرفا أن تهديدها قد فل من غرب ربات الذعر، فقللن من غلوائهن، وخففن من خيلائهن، فرأت أن تلين معهن، وذلك من حسن سياسة ربة الحكمة:
- (أنا لم أمتهن بحال ربة الأرض، مولاتكن المقدسة، ولم أمتهن كذلك آلهة الظلام، فهم جميعاً أكبر مني سنا، وأكثر تجربة، ولكني والحمد لأبي سيد الأولمب، قد رزقت من الحكمة والحصافة قدراً أتيه به على جميع الآلهة، وأفاخر به كل الأرباب. على أنني أعرض عليكن أن تقمن معي في هذا المعبد المبارك راضيات، تتقبلن صلوات الشعب وأضحياته، على أن توقينه غضبكن، وتجنبنه أرزاءكن، وحسبكن أن تقاسمنني ما هو حق خالص لي)
- (نقاسمك؟! وأي نصيب يخلص لنا في معبدك يا مينرفا؟)
- (نصيب لا يصيبكن فيه غضب من الناس ولا من الآلهة، فلا تأبينه!)
- (أفإن قبلنا غرضك. أفتكون لنا حقوق ثمة؟)
- (حقوق وأي حقوق! لن تكون سعادة في بيت إلا بمشيئتكن!)
- (وهل تضمنين لنا هذا؟)
- بحيث تباركن عبادكن يا ربات، فلا تنزلن بهم رزاياكن؟!)
- (وتؤكدين لنا هذا الحق طوال الأبد؟)
- ولماذا أعد، وأنا في الحالين لن أخسر شيئاً؟)
- (قديرة يا مينرفا! لقد أسكنت غضبنا!)
- (أقمن معي إذن، واكسبن محبة شعبي!)
- (وهل لنا أن نتغنى أناشيدنا هنا؟ (وأنتم تمقتونها يا آلهة؟!)) - (تغنين ما شئتن (إلا أناشيد الجحيم)، تغنين أناشيد الجمال والشمس المشرقة، تغنين أناشيد القمر البازغ والطبيعة المتبرجة، تغنين أناشيد اليمن والإقبال يا ربات! تغنين أناشيد الإسعاد تمزجنها بموسيقى السماء، وإني أباركها جميعا، وقد أتغنى بها معكن!)
- (إذن رضينا بما أشرت يا مينرفا!)
- (وإذن، فإني أعاهدكن على الحق تارة أخرى، وأن نحكم بالعدل بين ذوي الخطايا والأوزار، فكل من تأكد لنا إجرامه، فلكن أن تفتكن به، وتؤاخذنه بما كسبت يداه)
- (ولك إذن ألا نضار أحدا، وألا نمس حقلا ولا غيضة ولا بستاناً بأذى. . . فليكثر الخير! ولتمتلئ الأرض المخضرة قطعاناً؟ ولتمطر السماء منا وسلوى)
- (سجلوا أيها الأثينيون! أيها المحلفون سجلوا! سجلوا يا سادة أثينا، واعلموا أن الشر إذا نزل بأهله فحسب، فهو خير للجميع! واعلموا كذلك أن من الخير ما ينبت من شر محض، وأن لكم أن تأمنوا ربات العذاب مادمتم مخلصين مطهرين. . .
- (لتكن أرضهم منضورة بأفواف الزهر، ولتبعد عنهم رزايا الزمان؛ وليأمنوا غدرات الأيام، وليرفرف عليهم فيءٌ من اليمن، ولتباركهم السماء دائماً!)
- (إذن تمت نعماؤنا يا ربات، فليتم إلى الأبد السلام!)
وتأمر مينرفا فيقام حفل ضخم ينشد فيه الجميع نشيد السلام، ويضمخ المعبد ببخور المسك والعنبر والند؛ ثم ينادي المنادي فيصمت الجميع لحظة، وإذا هرمز الكريم يبدو من عليائه؛ ويهبط قليلا قليلا. . .
ويتقدم إلى ربات الذعر فيقودهن إلى مملكة السفل. . . إلى عالم الظلمات. . . . إلى أعماق الأرض، حيث مقرهن، وحيث مستودعهن!. . . . .
وهكذا تكتفي أثينا شرهن بفضل مينرفا الحازمة. . . وهكذا يقرر القصاص ولو من الآباء. . وهكذا يسود العدل ويعم الإحسان
درني خشبة