الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 142/دراسات أدبية

مجلة الرسالة/العدد 142/دراسات أدبية

مجلة الرسالة - العدد 142
دراسات أدبية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 03 - 1936


في الأدب الإيطالي الحديث

بقلم محمد أمين حسونه

إن العبقرية القصصية الممثلة اليوم في أعمال طائفة من الأدباء الإيطاليين، لم يعن بها مع الأسف واحد من النقدة أو المشتغلين بالآداب العربية، ومعظم الذين تحدثوا عن نهظة القصة وقفت معلوماتهم عند جبرائيل داننزيو شاعر بسكارا؛ مع أن الفن الروائي الحقيقي يبدأ بعد عصر داننزيو، بل إن الفضل في تقدم القصة الإيطالية يعود إلى تألب العناصر على الجو الشعري الحالم، وانتفاء روح المرح، وفي التحدث عن الذات، وهي الصفات التي يرتكز عليها فن داننزيو الأدبي

وليس هذا معناه أننا نغمط داننزيو حقه، بل الواقع الذي يجب الاعتراف به أن زعماء الصفوف الذين سبقوا داننزيو، كانوا إما شعراء أو نقدة أو كتاب مسرحيات أو تراجم، ولم يتمخض الجيل الأدبي عن عبقريات أو مواهب قصصية مطلقا، لأن العصر كان فوضى، لا مقاييس تحده، ولا معالم يعرف بها، وقد شبه النقادة ريشارد جارنت هذا العصر - في كتابه بأنه يحاكي المدرسة الفلسفية الإغريقية، التي وقعت تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية الفكرية

على أن الفضل في تفتح أذهان الأدباء الإيطاليين إلى الفن القصصي، إنما يعود إلى جيته وفيكتور هيجو وبلزاك وموباسان فهم في الواقع أساتذة المدرسة الأدبية الحديثة في إيطاليا، وفي مؤلفاتهم تتلمذ جيل الأدباء في أواخر القرن التاسع وأوئل القرن العشرين، وهي ظاهرة غريبة، فإن الأرض التي أنجبت في القرن الثالث عشر أستاذ الأقصوصة جيوفاني بوكاتشو، ظلت مجدبة زهاء ستة قرون إلى أن بزغ نجم داننزيو في سمائها

وقبل التحدث عن شاعرية داننزيو وفنه، نرى من الخير ألا نهمل الأثر البارز الذي غرسه أستاذه كاردوتشي في نفسه. والواقع أن كاردوتشي مؤسس مدرسة أدبية عظيمة لا نعرف لها مثيلا في الآداب الإيطالية. اللهم إلا تلك الجهود القيمة التي سجلها دانتي، وفي مدرسة كاردوتشي تتلمذ بنزبني وجراسيا ديلليدا وبيراندللو وجيوفاني بابيني وغيرهم من أعلام الأدب الحديث ولكارودتشي يرجع الفضل في تحويل الأدب الإيطالي من الصيغة القوم الخالصة إلى النزعة الإنسانية والخروج برسالته من الحيز المحلي الضيق إلى المحيط العالمي وبث روح الإخاء المشتركة، وهي التي أملت عليه ملاحم: الربيع، والأم، وترنيمة الشيطان، وصقلية تحت سيوف العرب الخ. . .

ولقد خدم كاردوتشي الأدب الإيطالي كنقادة أكثر مما خدمه كشاعر، ومن هنا استطاع داننزيو أن يحمل تقاليد أستاذه مع محافظته على الطابع الخاص به. ويتمثل هذا الطابع في غمر قصصه بعناصر الاستمتاع وصبغها بألوان من الشهوة الصارخة المتأججة، فهو كفنان رجل عابد للجمال، متأمل للحياة من خلال أحاسيسه، يخضع الفن لسلطان العاطفة أكثر مما يخضعه لسيادة العقل. ومعظم أبطاله شهوانيون، لا تطيب الحياة لهم إلا في جو من القبلات والعناق، يقدرون معايير الجمال عن طريق الشهوة، وينبذون الفكر والتأمل فحياتهم داعرة متهتكة

والذين يعرفون شاعرية داننزيو في رواياته الرائعة، كانتصار الموت والفرح والنار يستطيعون أن يستشفوا من خلال سطورها روحه الهائمة، التواقة إلى عبادة الجمال والتمرغ في أحضان الفن الشهواني وأوكار الحب المبتذل الرخيص

على أن داننزيو استطاع عن طريق نزعته إلى المجد، أن يعيد إلى الأدب الإيطالي جو الوطنية الصارخ، وأن يضع لجيوش بلاده أناشيدها الحماسية التي ترتلها في ساحات الوغى والقتال

ولم يكن استيلاؤه على فيومي إلا نوعاً من الأساليب الشعرية، فبعد أن خرق معاهدات الصلح وسير أساطيله لاحتلال هذه المنطقة الحرة أذاع بياناً على العالم قال فيه: (أستحلف فرنسا التي أنجبت هيجو وأمريكا التي خرج منها لنكولن وإنجلترا التي خلقت ملنون أن تكن شاهدات عدل على ما أتيته. أنا ابن الوطن الجندي المتطوع الذي دفعته الغريزة الإنسانية إلى أن يضم الرضيعة فيومي إلى أمها إيطاليا)

وفي قصيدته الحماسية الرائعة التي خاطب بها كبلنج شاعر الاستعمار البريطاني بمناسبة حرب الحبشة، تبدو أمامنا قوة شاعريته الظامئة نحو المجد إذ قال: (إن الرياح الأفريقية القائضة التي تسفع وجوهنا اللاتينية الجميلة لا تعادل جزءا من قوة إعصار البطولة التي تهب على قريحتي كلما فتحت دواوينك لأترنم بأناشيدك الاستعمارية في الهند وإفريقيا.

فأراني في كهولتي عاجزاً عن أن أقود جيش بلادي إلى (فيومي) أخرى، فهيا يا أبنائي إلى النصر. . . لأن مصير مجد الإنسانية الجديد متوقف على انتصار (الرومانية) ضد (البربرية) وحلفاء البربرية. . . إن الحرب ضرورة عالمية لخلق جيل جديد وإعادة شباب الإنسانية وتطهير الأجسام والأرواح وإنعاش بطولة التاريخ)

ومن رأي داننزيو أن إيطاليا الفاشستية ترى في اسم قيصر رمزاً أبدياً لأعظم ضروب مجدها الوطني وأن غاية ما يتمناه اليوم استعادة مجد روما القديم الذي تألق في عصر قيصر

بنزبني

وعلى الضد من داننزيو، نرى زميله جيوفاني بنزبني ينحو في فنه منحى جديدا، ويؤدي رسالة أستاذه كاردوتشي عن سبيل آخر هي معالجة مشكلات العصر في ضوء من الانتقاد المر اللاذع

وعلى الرغم من أن بنزبني ولد في نفس العام الذي ولد فيه داننزيو فإن اسمه كأديب وقاص لم يعرف إلا في السنوات الأخيرة للحرب العظمى. أي في الوقت الذي بدأ الإيطاليون يتمردون فيه على أساليب داننزيو الشعرية وفنه الأناني. وقد استطاع بنزبني أن يقضي تماما على نفوذ زميله عن طريق الحملة المدبرة التي تولى قيادتها أدباء الشباب في فلورنسا وغيرهم من الملتفين حول جريدة (الصوت)

ولا يخفى ما لبنزبني من النفوذ القوي في دوائر الصحافة الأدبية فهو يعاونها بين وقت وآخر بالمساعدات المادية والأدبية

وأكثر ما نلمحه في فن بنزبني الروائي خلوه من الأساليب المعقدة والنزوع إلى حياة الطبيعة الهادئة والرجوع بالإنسانية إلى طفولتها الأولى كما في روايته (العالم يدور) وتعرضه لمتاعب الحياة المادية في شيء من السخرية اللاذعة والنقد المر ممتزجاً بمسحة من روح الفكاهة والمرح البريء. وقد استطاع في روايتيه الرائعتين (ارمندا التعسة) و (مصباح ديوجين) أن يحلق بنا في جو تمور فيه الأشباح المعذبة من جراء المشكلات الأخلاقية في العصر الحديث

جراسيا ديلليدا ولعل جراسيا ديلليدا هي القصصية الوحيدة التي تبتعد بفنها الروائي عن الجو العالمي لتعيش في دائرة جزيرتها الضيقة (سردينيا) بين القرويين ورعاة الأغنام لتصور حياتهم أروع تصوير في مؤلفاتها التي تحمل طابعي السذاجة والبراءة والدعوة إلى التمسك بأهداب الفضيلة

وعلى الرغم من أن هذه القصصية المجيدة أحرزت جائزة نوبل في الأدب، وانتخبت عضواً في أكاديمية روما وفي مجمع الخالدين الذي أسسه موسولني عام 1926، وعلى أنها محور الحياة الأدبية في إيطاليا، فهي عزوف عن الشهرة، وتتحاشى جهدها الظهور في المحافل والأندية، أو بث الدعاية لفنها في الصحف والمجلات

وقد تجلت موهبة ديلليدا القصصية في روايتها (الأم) التي ظفرت من أجلها بجائزة نوبل، وهي عبارة عن مأساة قسيس شاب نفذ الحب إلى أعماق قلبه فقهره واستولى على لبه حتى غلب على أمره وأصبح خاضعاً لسلطانه بحيث أفسد عليه وظيفته الروحية المقدسة

ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، (فالأم) التي خصصت حياتها لمحبة ابنها ووهبته للكنيسة وخدمة مجد الله حتى غدا قسيسا يصل بينها وبين السموات المشرقة، هذه الأم قدمت من الريف يوما تطلب ابنها فإذا بهذا الذي أودعته ذرات حياتها وتفكيرها، وعلقت عليه آمالها في الحياة الأخرى، تأسره امرأة فيصغي لنداء القلب، ويهجر مركزه الكنسي كي يتفرغ لشؤون الحب والحياة

وفي الساعة التي تذهب فيها الأم إلى الكنيسة لتضرع إلى الله واجفة القلب، دامعة العين أن يحرس وحيدها ويلهمه الرشد، إذا بالابن يتقدم في خطى ثابتة نحو المحراب الذي تصلي الأم على مقربة منه ليتجرد من ملابسه الدينية ويخرج من الكنيسة، فتصعق الأم وتفيض روحها إلى جانب المحراب

وقد أصبح (الأم) عنوانا مألوفا في إيطاليا، فإن ملحمة كاردوتشي الشعرية التي ظفر من أجلها بجائزة نوبل كانت موسومة باسم الأم، ومعهد الأمومة الدولي الذي أسس بسردينيا أطلق عليه اسم (الأم)

وقد ذكر النقادة الإيطالي ستاينس رويناس محرر صحيفة التريمونا، في دراسة أدبية عن قصص ديلليدا: (أن فنها الروائي يدور حول التفاؤل بالخير لأنها تؤمن بأن الله دائماً ضد الشر. وهي صانعة ماهرة أكثر منها فنانة مبدعة، وبالنسبة لتصوير عادات بلدها مثالة ذات ضمير حي، أما رسم العواطف الخارجية عن محيطها ففي سذاجة فطرية بسيطة)

ولم تشذ عن هذه القاعدة إلا في رواية واحدة هي الابابة فهي مصبوغة بعاطفة إنسانية عميقة، وقد كتبتها بعد زواجها ونزوحها عن جزيرتها إلى روما حيث كان أثر انعكاس الحياة الجديدة قوياً في نفسها

أما قصتها الرائعة (السيدة الصامتة ذات الشعر الفضي) ' فهي عبارة عن تاريخ حياتها وقد كتبته بأسلوب بسيط جذاب، فقصت نشأتها في قرية نورو بسردينيا وتفوقها في الآداب وهي لا تزال طالبة بالمدرسة الثانوية حتى ظفرت بجائزة قدرها خمسون ليرة كانت إحدى المجلات قد رصدتها لأحسن قصة تقدم إليها

وتحدثت عن زواجها وعن الفضائل الشائعة في بلدها وتعلقها بجبال سردينيا وتجارها وأشجارها، وهي في هذا تقول: (أهلها هم أهلي، أرضها ووديانها شطر من كياني، فلماذا أفتش عن موضوعات قصصية وراء الأفق، مادمنا نستطيع أن نفتح أعيننا على مآس وفواجع تقع في كل ساعة بين أيدينا؟ إنه لمن العار ألا نكون في جانب الصدق. ألا نرسم الحياة التي نعيش في داخل نطاقها، ولو كانت ضئيلة تافهة، أما التعبير عن الاحساسات الخارجة عن دائرة شعورنا الحقيقي فسقوط فني بشع، إنني أكتب لنفسي اليوم، وبحكم شعوري الخاص، أما توقع النجاح فأتركه للمستقبل)

وبالإجمال فأن ديلليدا تمكنت من أن تقدم للعالم صورا واضحة من حياة أهل الجزيرة الصخرية النائبة التي لم تصل الحضارة الأوربية إلى بعض أطرافها وأن تصف عاداتهم القديمة وأساليبهم في العيش حيث يؤمن الناس بمبدأ المساواة بين الجنسين وإعدام المرأة إذا ثبت عليها جريمة الزنا

(يتبع)

محمد أمين حسونه