الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 141/ذكرى ساقية!

مجلة الرسالة/العدد 141/ذكرى ساقية!

بتاريخ: 16 - 03 - 1936


للأستاذ علي الطنطاوي

(. . . . . . كل ما في الوجود يولد ويحيا ويموت:

ألا تمر بالدار ألف مرة فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها. ثم ترى فيها إنساناً يتصل قلبك بقلبه، أو يمتلئ فؤادك بحبه، فإذا هذه الدار (تولد) في فكرك و (تنمو) وتزداد لهذا الإنسان حباً، فتزداد الدار عندك حياة؛ ثم ينزح الحبيب عن الدار، فإذا هي (تموت) وإذا أنت تألم لموتها، وتبكي فيها ذكريات لك عزيزة، وماضياً لك حلواً؛ ثم تمحو الأيام هذه الذكر، وتنسيك هذا الماضي، فإذا الدار قد عادت إلى العدم، كما بدأت من العدم، وإذا أنت تمر بها من بعد ألف مرة، فلا تلتفت إليها، ولا تحس بها؟. . .)

من مقالة قديمة

(علي)

هي ساقية صغيرة عرفتها من يوم عرفت الدنيا، تجري في رحبة (الدَّحداح)، في ظاهر دمشق، فكنت أزورها دائماً، وأجلس إليها راضياً وساخطاً، مسروراً ومكتئباً، شجيّ النفس وخليّ البال، فأحدثها حديث سروري ورضاي، وأبثها شجوي واكتئابي، فأجد فيها الصديق الوفيّ، حين عزّ في الناس الصديق، والأخ المخلص حين ارتفع من الأرض الإخلاص؛ وكنت أفرّ إليها كلما نابتني من الأيام نائبة، أو نالني الدهر بمكروه، فأجد فيها عزائي وأنسي، وراحة نفسي. . . فررت إليها أمس كما كنت أفرّ، فإذا الأرض غير الأرض، وإذا الساقية قد عدا عليها الزمن فمحاها، وأقام دار البستاني على رفاتها. . . فجلست على حافتها الجافة، أودّع هذه البقعة الحبيبة إليّ، قبل أن تبتلعها المدينة الضاجة الصاخبة التي ابتلعت ما كان حولها من حقول واسعة، ورياض وجنات، وأشيع حياة لي في هذه الساقية كلها سعادة واطمئنان، عشتها كما تعيش الضفادع، غير أن الضفادع تسبح في ماء الساقية، وتنام على كتفها، وأنا أسبح في ذكرياتي التي أودعتها حافتيها، وآمالي التي رأيتها من خلال أمواهها. . . وهل يعيش ابن آدم إلا في الساقية والطريق، والقمر والمئذنة؟ أليس في كلّ ساقية يجلس إليها، وكل طريق يسلكها، وفي القمر الذي يتأمل صفحته في الليالي البيضاء، والمئذنة التي يرى هلالها من شباك غرفته، أليس في كل ذلك - أثر من نفسه - وقطعة من حياته؟. .

رحمة لك أيتها الساقية. . . منذ كم أنت تجرين وتسرعين، أفبلغت غايتك بعد جري القرون، أم قطعك عنها عدو جبار، أم ادركك عجز الشيخوخة وضعف الهرم، فجف ماء حياتك، كما تجف الحياة في عروق الشيخ القحْم، وفروع الشجرة النخرة، وجدر البيت الخاوي؟

وهل كنت تجرين يوماً واحداً لو عرفت أن غايتك الفناء وأنك إنما تسعين إلى أجلك برجلك؟ وهل كان يبني الباني، ويزرع الزارع، ويعمل العامل، لو عرف أن أجله أدنى إليه من أمله، فبينما هو ينتظر إشراق الفجر، إذا احتوته ظلمة القبر، وبينما هو يحلم بالسراب، إذ واراه التراب؟

وهل كان يطمع في الحياة طامع لو عرف أن كل يوم يزيد من حياته إنما ينقص من حياته، فإذا بلغ كمال الحياة فقد صار إلى الموت؟

إن الإنسان يأمل أن يملك الدنيا ويعيش إلى الأبد، وأنت تأملين أن تصيري نهراً ثم تصبحي بحراً، والله يريد أن تتم حكمته في الحياة فيسعى كل ساع إلى الفناء، يدعوه الأجل، ويحدوه الأمل. . . ولا رادّ لما أراده الله!

وهل كنت تذكرين أيتها الساقية أصدقاءك وأحباءك وتحنين إلى ذكراهم، وتبكين عهدهم؟ أم قد أمات حسك تقلب الأيام وغدر الزمان، فأقبلت تجرين، لا تذكرين ماضياً ولا تحفلين حاضراً ولا تنتظرين آتياً؟

وهل تذكرين يوم فرننا إليك من شيخ الكتاب القاسي، وعصاه الطويلة التي كان ينال بها رؤوسنا وهو على سرير ملكه، في هذه الغرفة الضيقة، المثقبة الجدران المسدودة النوافذ، الفاسدة الهواء؟ لقد مللنا البقاء في هذا السجن الرهيب، فشكونا إلى أهلينا فما وجدنا مشكياً فتجاوزنا (البحرة الدفاقة) وتخطينا هذا السياج، ولجأنا إليك فما وجدنا منك إلا الكرم والعطف والإحسان؟ آمنت خوفنا، وبدلتنا بمدرسة الشيخ وعصاه، هذه الدنيا الفسيحة وهذه الحقول التي لا تنتهي، فطابت أنفسنا بجمال الكون، وانجلت أبصارنا بمرأى البساتين، ونظرنا من هنا فإذا قبة النسر ومآذن الأموي تشرف علينا جليلة عظيمة، فاستشعرنا جلال الدين وعظمته، ونظرنا من هناك فإذا قاسيون يطل علينا مشمخراً عالياً، تقوم عليه الدور البيضاء، والقصور الحمراء، فأحسسنا جمال الدنيا، وسموّ المجد، وعزة الغنى. . . وأدركنا بعقولنا الصغيرة أن الشيخ كان على ضلال، وأن أهلنا كانوا على خطأ، وأن العلم قد يحصل في الدنيا الواسعة، والبقاع الجميلة، أكثر مما يحصل في السجون والكتاتيب، وأن جمال الحقل، أبلغ في التهذيب من عصا الشيخ

في تلك الساعة عرفتك أيتها الساقية، فمنحتك الودّ والإخلاص، وجعلتك صديقي إذ لم أجد بيتي ومدرستي صديقاً، وكنت أرى طيفك في أحلامي، فأهش لك وأنا غارق في منامي، وأتخيل صفاءك وعطفك، وأنا بين يدي الشيخ الجبار، يقرع رأسي بالعصا، ويصرخ في وجهي بصوته الأجش الخشن:

- يا ولد يا خبيث. . . والله إن عدت إلى الهرب كسرت ساقيك، فلا أرد عليه، وإنما أستر وجهي بكفي، وأضحك بصوت غريب، فيظنني أبكي، فيدعني. . . وينصرف إلى غيري فأنظر من بين أصابعي، حتى إذا رأيته قد غفل عني قفزت إلى الشارع، فاختبأت في (جامع التوبة) أو أخذت طريقي إليك، فآكل من الثمار التي حولك، وأشرب من مائك، وأصافحك بيديّ شاكراً، وأمسح بكفيك وجهي. . . هل تذكرين ذلك أيتها الساقية؟. .

- هل تذكرين كيف جئناك بعد ذلك، وقد تخلصنا من الشيخ ودخلنا المدرسة، فوجدنا ساحة رحبة ومعلمين كثيرين، وحصصاً قصيرة، ولكنا لم نجد عطفاً ولا ابتساماً؛ كان معلم الحساب يحبب إلينا شيخ الكتاب، حتى نراه إلى جنبه نعيما، كنا نرى طيفه أمامنا حيثما سرنا بشاربيه الكبيرين، وتقطيبه الدائم، ونظارته التي يحدرها أبداً إلى أرنبة أنفه، وصوته الذي يشبه صوت من يتكلم من وسط برميل، فكنا نرتجف من خياله، ونخشاه أبداً، إلا إذا أصبحنا في حماك، فأننا نأمن، ونطلق أنفسنا على سجيتها، فنسخر من المعلم، ونقلد الشيخ، ونمرح ونعدو، ثم نعود إلى الدار ونحن ممتلئون قوة ونشاطاً، فإذا سألنا الأهل: أين كنتم؟ قلنا: كنا في المدرسة، وإذا سألنا المعلم قلنا: كنا في البيت! فيصدقوننا جميعاً. . . أوليسوا قد حملونا على الكذب حملا حين كرّهوا إلينا العلم، ودفعونا إلى الفرار، وعاقبونا على الصدق، ولم ينتبهوا إلى الكذب؟

وهل تذكرين يوم جاءت دمشق أولُ سيارة، وكنا جالسين حولك نتحدث حديث الحرب وما يمكن أن يصل إلينا من أخبارها، فما راعنا إلا عربة غريبة الشكل، تسير من غير أن يجرّها حصان، فطار الفزع بألبابنا، وفررنا نحسب أن الجن تسيرها، ثم سمعناهم يدعوننا، ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم والسيوف على جنوبهم، فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية ليمر عليها (الأطنبير) فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟. . . فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرها حصان. . . فتنبري لي عمتي، وتكذبني وتسبني:

- أخرس يا كلب، يا كذاب. . . إن هذا مستحيل

ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها، قد عاشت حتى رأت الكهرباء. . . . والتلفون. . . . والراديو. . . . ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز. . . ثم رأت أثر الحضارة في أنقاض دمشق. . . فصارت متهيئة لتصدق كل شيء!

وهل تذكرين كيف عدنا إليك أيتها الساقية فإذا أنت حردة غضبى، قد وقفت عن سيرك، وضللت طريقك، فتطلعت إلى اليمين والشمال، والأحجار قائمة تسد عليك سبيلك فعالجناك واعتذرنا إليك، وطيبنا قلبك، وفسحنا لك السبيل، فجريت مضطربة، متغيرة الوجه، تبكين أيامك الماضية، وتخافين ما يأتي به الزمان؟

وهل تذكرين يوم كنا حولك ونحن آمنون مطمئنون، فإذا الأرض قد ارتجت، وإذا الجيش التركي الذي كنا نخافه ونخشاه قد ذلّ بعد عزّ، وضعف بعد قوة، وفر متفرقاً حائراً لا يدري أين يقصد، ومن ورائه العرب والإنكليز، يدخلون الشام ظافرين، فسررنا وفرحنا، وصفّقنا وهتفنا. ولكنك جريت واجمة حزينة، لأن حياتك الطويلة وما رأيت من دولة الدول، وهلاك الملوك، علمتك أن من يؤمن لمن يتبع دينه، كمن يدخل النار ويرجو ألا تحرقه؟ ثم حققت الأيام ظنك، وصدقت حدسك، فقلنا: يا ليت! (وهل تنفع شيئاً ليت؟!)

وهل تذكرين يوم كنا جالسين إليك، وحولنا هذه الحقول تمتد آمنة إلى ما لا يدركه البصر، وإذا بعدو جبار، يأتي من وراء الحقول الآمنة، فيشقها شقاً منكراً، ويثغر فيها ثغرة هائلة حتى إذا بلغك ألقى عليك نظرة ازدراء واحتقار، ثم سار في طريقه حتى بلغ سفح الجبل، فتمطى ثم تمدد ثم نام نومة الأبد؛ وإن رأسه لفي الصالحية، وإن رجليه لفي حيّ النصارى. . . فلما رآه أحبابك وأصحابك آثروه عليك، فلم يعد أحد يستطيب الجلوس إلى ساقية صغيرة، بعد أن فتح (شارع بغداد) ليجول فيه الشبان كل يوم (بين حي النصارى والصالحية) مرجلة شعورهم، مصقولة وجوههم، يسيرون مائلين مميلين. . . فصبرت وتجلدت، ورجعت تجرين كما كنت منذ ثلاثة آلاف سنة. . . كأنك لا تحفلين شيئاً؟

لقد عشت عزيزة مكرمة، منذ وطئت هذه الأرض أول مرة، فلم ينتهك حرماتك أحد، ولم يعث في حرمك الآمن عائث، رغم الحوادث والأرزاء، أفانتهى بك الأمر أن يقتلك بستاني؟. . . لقد سقيت هذا البستاني وأباه وجدّه ومن قبلهم إلى أربعة آلاف جد، أفكانت عاقبة هذا الإحسان أنه لم يبن بيته إلاّ على رفاتك، ولم يكن أساس منزله إلاّ قبرك؟ لا بأس أيتها الساقية، فإن الإنسان مذ كان منكر للمعروف جاحد للإحسان. . .

لا بأس، فأن ملكاً لن يدوم، ولقد رأيت الترك والروم واليونان، فهل رأيت ملكاً يبقى، أرأيت الدنيا دامت على أحد؟ أما كانت دولة الترك عظيمة؟ أما جلّت دولة الرومان؟ أبقي من هذا كله شيء؟ لا، يا أيتها الساقية إنه لا يبقى إلا الإسلام، لأنه من ملك الله الباقي. . .

رحمة لك أيتها الساقية، وسلام على تلك الأيام الجميلة التي عشت فيها إلى جنبك، لا أعرف هم الدنيا ولا نكد الحياة، لقد كنت أفرّ إليك من عصا الشيخ، وعقاب المعلم، فتؤويني وتحميني، فلمن أفر اليوم من حياتي التي ضاقت على، ونفسي التي برمت بها؟

لقد ضعتُ كما ضعتِ أيتها الساقية، وجفْت آمالي كما جففت، وانتهى بي المطاف أن أكون شيخ كتاب! ولكن لا بأس أيتها الساقية. . . فأن الدنيا لا تدوم على حال. فرحمة لك، وعلى ذكراك السلام!

علي الطنطاوي