مجلة الرسالة/العدد 140/رسوم الفطر والأضحى في عهد الدولة الفاطمية
→ المعنى السياسي في العيد | مجلة الرسالة - العدد 140 رسوم الفطر والأضحى في عهد الدولة الفاطمية [[مؤلف:|]] |
التعليم والحالة الاجتماعية في مصر ← |
بتاريخ: 09 - 03 - 1936 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كانت الدولة الفاطمية في مصر دولة البهاء والبذخ والترف في الحياة العامة وفي الحياة الخاصة؛ وكانت مواكب الخلافة الفاطمية ورسومها الفخمة دائماً مثار الروعة والإجلال، وكانت أعيادها ومواسمها الباهرة مثار البهجة والفرح العام؛ ومازالت آثار من تلك الرسوم والمواسم الشهيرة تمثل في كثير من أعيادنا ورسومنا وتقاليدنا الدينية؛ فإذا رأيت بعض هذه الأعياد والمواسم يجنح إلى نوع من الفخامة، وإذا رأيت بعض هذه الرسوم يتشح بأثواب من الرونق والبهاء، فإنما ذلك يرجع في الأغلب إلى أثر الدولة الفاطمية في بث هذه الروح الباذخة البهجة إلى كثير من نواحي الحياة العامة والخاصة في مصر الإسلامية
وربما كان من الشائق الممتع، وقد قضى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عيد الأضحى المبارك، أن نقف على طرف من الرسوم والتقاليد التي كانت تجري عليها الخلافة الفاطمية في الاحتفاء بهذا العيد الإسلامي الجامع؛ وقد كان للخلافة الفاطمية أعيادها ومواسمها الدينية الخاصة، إلى جانب العيدين الإسلاميين الرئيسيين، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى؛ وكانت تحتفي بهما في حفلات ومظاهر رسمية رائعة؛ وكان موكب العيد من أعظم مواكب الخلافة الفاطمية؛ ففي ليلة عيد الفطر كان يعقد في الليل بالإيوان الكبير الذي يواجه مجلس الخليفة سماط ضخم يبلغ طوله نحو ثلثمائة ذراع في عرض سبعة أذرع، وتنثر عليه أنواع الفطائر والحلوى الشهية مما أعد في دار الفطرة الخلافية؛ فإذا انتهى الخليفة من أداء صلاة الفجر عاد إلى مجلسه، وفتحت أبواب القصر والإيوان على مصاريعها، وهرع الناس من جميع الطبقات إلى السماط الخلافي وتخاطفوا ما عليه بحضور الخليفة ووزرائه؛ وحينما تبزغ الشمس يركب الخليفة في موكبه إلى الصلاة ويخرج من باب العيد إلى المصلى؛ وقد انتهت إلينا عن هذه المواكب الفاطمية من أقوال المؤرخين المعاصرين صور تبهرنا بروعتها وجمالها؛ ونحن نحيل القارئ على تلك الفصول الشائقة البديعة التي ينقلها إلينا المقريزي عن هذه المواكب الخلافية الرائعة ونكتفي بأن ننقل إليه هذه الصورة الموجزة من أقوال المسبحي مؤرخ العصر الأول من الدولة الفاطمية، قال: (وفي يوم العيد ركب العزيز بالله لصلاة العيد وبين يديه الجنائب والقباب الديباج بالحلي، والعسكر في زيه من الأتراك والديلم والعزيزية والأخشيدية والكافورية، وأهل العراق بالديباج المثقل والسيوف والمناطق الذهب. وعلى الجنائب السروج الذهب بالجوهر، والسروج بالعنبر، وبين يديه الفيلة عليها الرجلة بالسلاح والزرافة، وخرج بالمظلة الثقيلة بالجوهر وبيده قضيب جده عليه السلام فصلى على رسمه وانصرف)
فإذا عاد الخليفة من الصلاة كان ثمة سماط آخر أبهى وأروع وهو السماط الثاني لعيد الفطر؛ فيجلس الخليفة في مجلسه وأمامه مائدة من فضة يقال لها المدورة وعليها أواني الذهب والفضة غاصة بأفخم الأطعمة وأشهاها؛ وقبالة المائدة الخلافية سماط ضخم يتسع لنحو خمسمائة مدعو، وقد نثرت عليه الأزهار والرياحين وصفت على حافتيه الأطباق الحافلة بصنوف الشواء والطيور والحلوى البديعة، وجلس إليه رجال الدولة والعظماء والأكابر من كل ضرب وأكل من شاء دون إلزام حتى لا يرغم على الإفطار من لا يرى الإفطار في ذلك اليوم؛ وعند الظهر ينفض المجلس وينصرف الناس
وأما عيد الأضحى أو عيد النحر كما كانت تؤثر تسميته في ظل الدولة الفاطمية تنويها بأبرز مظاهره ألا وهي نحر الأضحية، فقد كان يحتفى به بركوب الخليفة إلى الصلاة على النحو المتبع في صلاة عيد الفطر ثم يخص بسماط حافل يقام في أول يوم منه. بيد أنه يمتاز بركوب الخليفة فيه ثلاث مرات متوالية في أيامه الثلاثة الأولى، ويمتاز بالأخص باشتراك الخليفة نفسه في إجراءات النحر؛ وكان قيام الخليفة بهذا العمل من أروع المظاهر والمراسيم التي جرت عليها الخلافة الفاطمية في الأعياد العامة. فلنتصور أمير المؤمنين متشحاً بثوب أحمر قان يسير في موكبه ماشياً إلى دار النحر الخلافية - وقد كانت تقوم في ركن خارجي من القصر - وبين يديه الوزير وأكابر الدولة والأساتذة المحنكون (وهم المشرفون على شؤون الخاص) ويكون قد اقتيد إلى النحر واحد وثلاثون فصيلا وناقة أمام مصطبة يعلوها الخليفة وحاشيته، وقد فرشت حافتها بأغطية وبطائن حمر يتقى بها الدم، وحمل الجزارون كل بيده إناء مبسوطا يتلقى به دم الضحية؛ ثم تقدم رؤوس الأضاحي إلى الخليفة واحدة فواحدة، فيدنو منها وبيده حربة يمسك بها من الرأس، ويمسك القاضي بأسل سنانها ويجعله في عنق الدابة فيطعن بها الخليفة، وتجر من بين يديه حتى يأتي عليها جميعاً، وكلما نحر الخليفة رأساً جهر المؤذنون بالتكبير؛ وتقدد الضحية الأولى، وتفرق قطعاً صغيرة في الأولياء والمعتقدين؛ وفي اليوم التالي ينظم نفس الموكب إلى المنحر، وينحر الخليفة سبعة وعشرين رأساً؛ وفي اليوم الثالث ينحر ثلاثة وعشرين؛ ويجري توزيع لحم الأضحية خلال هذه الأيام الثلاثة على أرباب الرسوم في أطباق خاصة للتبرك، ويقوم بالتوزيع قاضي القضاة وداعي الدعاة، ويخص نقباء الدعوة وطلبة دار الحكمة (دار العلم) بقسط من اللحوم الموزعة؛ فإذا انقضت مراسيم النحر خلع الخليفة عند العودة إلى القصر على الوزير ثيابه الحمر ومنديلا ملوكياً بغير سمة، والعقد المنظوم، فيركب الوزير وعليه الخلع المذكورة في موكب حافل من القصر شاقا القاهرة حتى باب زويلة، ثم يدخل من باب القنطرة إلى دار الوزارة، وبذلك تنتهي حفلات النحر
وكان الخليفة العزيز بالله أول من سن سنة إعطاء الضحايا وتفريق لحومها في أولياء الدولة على قدر مراتبهم، وكان ما يخرج منها غير ما يذبحه الخليفة بنفسه يبلغ بضعة آلاف من مختلف الأصناف هذا عدا ما يفرق في أرباب الدولة من الخلع والأموال؛ وقد انتهت إلينا من روايات المؤرخين المعاصرين تفاصيل دقيقة عن مقادير النفقة في تلك المواسم، ومنها أن نفقة سماطي الفطر والأضحى كانت تبلغ زهاء أربعة آلاف دينار؛ ويذبح من البقر والجاموس والنوق في أيام النحر نحو ألفين وخمسمائة، ومن الغنم ألفين وأربعمائة؛ وقد أشرنا إلى ما كان يوزع في عيد الفطر في أرباب الدولة من صنوف الفطائر والحلوى، وكيف كان يسمح للكافة باقتحام إيوان القصر لنهب السماط الخلافي أمام عيني الخليفة ذاته؛ وعلى الجملة فقد كانت الخلافة الفاطمية تبدي في المواسم العامة من ضروب البذخ والبهاء والبهجة، ما يسبغ على هذه المواسم أثوابا ساطعة من الرونق والجمال والسحر
وقد كان هذا البذخ الذي تنثره الخلافة الفاطمية حولها ينفث في الشعب ذاته حب الظهور والمرح، فكانت القاهرة تلبس في تلك المواسم حلة أنيقة باهرة وتحفل شوارعها ومحالها ودورها بأنواع الزينة القشيبة؛ وكانت في الليل تبدو كأنها شعلة ساطعة من الأنوار؛ وكان القصف والمرح يخرجان أحيانا في تلك المواسم عن حد الاعتدال حتى أن ولاة الأمر لجئوا غير مرة إلى إلغاء بعض الرسوم وتقييد بعض الحريات؛ وفي عهد الحاكم بأمر الله ألغي الاحتفال ببعض المواسم التي كان القصف يخرج فيها عن حدود الاعتدال مثل عيد الشهيد، وحرم شرب الخمور والركوب في الخليج، وخروج النساء، واشتد الحاكم في ذلك حتى كانت القاهرة تغدو أحياناً في أثواب قاتمة من السكون والإقفار والروع. بيد أنه فيما خلا هذه الفترات القليلة، كانت الخلافة الفاطمية دائما عند تقاليدها الباهرة تنثر حولها حلل البذخ والبهاء والترف في كل المواسم والمناسبات
هذه لمحة سريعة فيما كانت ترتبه الخلافة الفاطمية من الحفلات والرسوم الباذخة لاستقبال العيدين الإسلاميين الرئيسيين؛ ولم تكن الخلافة الفاطمية أقل بذخا وبهاء في الاحتفاء بباقي المواسم والأعياد الأخرى كيوم عاشوراء، ويوم الغدير، ويوم النيروز، وعيد الشهيد وغيرها، فقد كانت تسبغ عليها جميعاً أقصى مظاهر الروعة والفخامة، وكانت هذه المواسم والأعياد لدى الشعب المصري أياماً مشهودة تفيض بهجة وحبوراً؛ وكانت الخلافة الفاطمية ترمي بترتيب هذه الرسوم الباذخة إلى غايتين: الأولى أن تبث هيبتها الدينية بما تسبغه من الخطورة والخشوع على بعض المظاهر والرسوم، والثانية أن تغمر الشعب المصري بسيل من الحفلات والمآدب والمواكب الباهرة، وأن تأسره بمظاهر جودها الوافر، وأن تنثر عليه ما استطاعت من آيات البهجة والمرح، كل ذلك لكي تكسب ولاءه وعرفانه وتأييده؛ وقد كانت الخلافة الفاطمية تشعر دائما أنها لم تكسب كل ولائه وتقديره، وان سياستها المذهبية تبث إلى نفسه شيئا من الوحشة والريب؛ بيد أنه يجب أن نقول من جهة أخرى إن الدولة الفاطمية كانت بحق دولة البهاء والبذخ الواسع، وكانت هذه الرسوم والمظاهر الرائعة من بعض مظاهر قوتها وعظمتها وغناها؛ وكانت هذه الروح الفخمة الباذخة تطبع كل رسومها ومظاهرها، في القصر وفي الخارج، وفي السياسة والدين والإدارة، وفي الحياة العامة والحياة الخاصة؛ وقد سرت آثار كثيرة من هذه المظاهر والرسوم الفخمة الشائقة إلى كثير من القصور والدول الإسلامية التي تعاقبت على مصر بعد الدولة الفاطمية؛ وقد نلمس إلى اليوم في بعض الرسوم والنظم الدينية، وفي بعض مظاهر أعيادنا ومواسمنا لمحات من آثار البذخ الفاطمي
محمد عبد الله عنان