الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 140/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

مجلة الرسالة/العدد 140/التعليم والحالة الاجتماعية في مصر

مجلة الرسالة - العدد 140
التعليم والحالة الاجتماعية في مصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 03 - 1936


للأستاذ إسماعيل مظهر

قرأت في العهد الأخير تقريرين عن التعليم في مصر كتبهما عالمان استقدمتهما وزارة المعارف لينظر كل منهما في ناحية خاصة من نواحي التعليم ودرجاته، وأفضى كل منهما بآراء ناضجة فيما كلف به من بحث. فكتب مستر مان مفتش المدارس وكليات المعلمين بإدارة المعارف بإنجلترا تقريراً مدعماً بالإحصاءات فائضاً بالأفكار والنظريات، وكتب مسيو كلاباريد أستاذ علم النفس في كلية العلوم بجامعة جنيف تقريراً آخر عمد فيه إلى نظريات حديثة في علم النفس والتربية لا نعلم مقدار ما فيها من خطأ أو صواب، لأن الحكم على مثل هذه الأشياء يجب أن يرجع فيه إلى أهل الاختصاص، وإن كانت النظرة العاجلة التي ألقيتها على هذا التقرير قد أقنعتني، وقد أكون مخطئاً، بأن نظريات كلاباريد ربما تكون قد أسلمت به نتائج لا يؤيدها الواقع ولا تسندها الحقائق التي يعرفها كثير من المصريين معرفة أولية لا تحتاج إلى نظر علمي ولا إلى استنتاج من مقدمات

هذا إلى أن العالمين الأوربيين إن كانا قد بحثا في التعليم المصري كل من ناحية اختصاصه، فإن بحثهما إنما جاء قاصراً على الدائرة التي عينتها له وزارة المعارف وفي ضوء المعلومات التي زود بها، وفي الحدود التي رسمت للتعليم في مصر منذ خمسين سنة مضت. فإن كانا قد أحسا بشيء من النقص، أو وقع لهما شيء يستحق النقد، فإنما وقع لهما في ما هو داخل في هذه الحدود أو مشمول بها. فلم ينظرا مثلا فيما يجب أن يؤدي التعليم في مصر من حاجات الحياة العامة فيها، وفي علاقة التعليم بالحالات الجديدة التي تكتنف الحياة المصرية في تطورها الحديث. على أن هذا لا ينزل من مكانة ما كتب العالمان الفاضلان أو يقلل من قيمة آرائهما. فإن المصريين أنفسهم أحق بأن يتلمسوا مكان النقص الذي يحسونه في التعليم من ناحية علاقته بالحياة عامة، وبالحالة الاجتماعية خاصة

ومهما يكن من أمر الباحث الأوربي في الشؤون المصرية، ومهما يكن من علمه وتمكنه فيه، فأنه من المتعذر عليه كما قال مستر مان في تقريره أن يلم به إلمام المحيط بالحقائق الأساسية التي يحس بها المصريون أنفسهم من غير استعانة بآراء أو نظريات. ذلك بأن لكل أمة إحساساً بما يعتورها من نقص لن يفقه الغريب عنها شيئاً من خصائصه إلا بالجهد الشديد وطول التأمل والتفكير. مثل ذلك أن التقريرين اللذين وضعهما العالمان الأوربيان لم يلمسا الحقائق الأولية في حياتنا الاجتماعية وعلاقتها بالتعليم؛ ذلك في حين أن كل مصري يشعر شعوراً عميقاً بأن عصراً من عصور التطور الفكري قد آذن بأن تشرق شمسه في سماء مصر، وأن عصراً آخر قد أخذ في الأفول. أضف إلى ذلك أننا نشعر بأن حالاتنا الاجتماعية قد اتجهت في تطورها متجهاً ألقى على التعليم في مصر عبئاً جديداً لم يشعر به آباؤنا، وقد نشعر بعض الأحيان بشيء من القلق، وقد نشعر بأن هذا القلق قد يتضاعف بعض الأحيان حتى ليذهب بالبعض إلى حد اليأس من مستقبل آلاف الطلبة الذين يتعلمون اليوم في المدارس وتخرجهم الكليات زرافات كل عام. بل إننا أخذنا نشعر بكل ما شعر به الأستاذ هنري جيمس عندما قال: إن الاحتفاظ بحالة اجتماعية ثابتة الدعائم قوية الأركان في جمعية يكتب على المتعلمين فيها عيش الفقر والذلة، لأمر فيه من البعد عن حقائق الطبع البشري بقدر ما في محاولتك بناء هرم يرتكز على رأسه لا على قاعدته من بعد عن حقائق الطبيعة الكونية

ولقد يماري مفكر في أن ذلك الشعور العميق الذي يكتنف تفكير الكثيرين من المصريين إنما له أسبابه الغامضة البعيدة عن إدراك الذين لا يفكرون في التعليم إلا بقدر ما يفكرون في أداة تخرج متعلمين، ولا يزيد خطره في نظرهم عن خطر آلة تخرج أحذية أو لفافات تبغ في نظر عامل يجهل حقيقة الآلة التي يديرها، ولا يعرف عنها إلا أمرين: شكلها الظاهر، وثمرها الذي يجنيه منها

على أن الثمر الذي أخذنا نجنيه من أداة التعليم عندنا قد جدت عليه ظاهرتان جديدتان: الأولى أن طعمه قد أخذ يتغير، والثاني أن صنفه أخذ ينحط مع كثرة الإنتاج. ولا شك في أنهما ظاهرتان يعلل بهما كثير من الظواهر الاجتماعية التي تمر علينا في كل يوم صور منها، وأخصها كثرة العاطلين من المتعلمين، والجهد الذي يلقاه المجدون منهم في تحصيل رزقهم الحلال

ولا ريب في أن هذه الظاهرات ترجع إلى أسباب أخذت تتجمع منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، حتى أفضى بنا التطور إلى الحالة التي تكتنفنا اليوم. ولما كان الغرض الذي أرمي إليه من نشر هذه المقالات إنما يتجه إلى وصف العلاقة التي تقوم اليوم بين التعليم والحالة الاجتماعية والمهمة الكبرى الملقاة على عاتق التعليم في تنظيم الحالة الاجتماعية ودرء الأخطار التي قد يتعرض لها المجتمع المصري بقدر ما في مستطاع التعليم أن يدرأ منها، وجب أن أظهر أولا أن أشد الأخطار التي يتعرض لها الكيان الاجتماعي في مصر من ناحية التعليم أن الشاب المتعلم في مدارسنا العليا يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي، باعتباره قوة لها حقيقة مستقلة عن القوى الأخرى التي تكتنفها. وقد يشعر بذلك الشاب المتعلم، وقد يشعر به الذين يعلمون أولادهم، حتى لقد نجد أن بعض القادرين على التفكير ينظرون نظرة تشاؤم إلى المستقبل القريب، وإن لهم في ذلك لحقا، وإن لهم في تشاؤمهم لأسبابا تبرره وحقائق تعلله، ومن أجل أن نظهر تطور الحالات التي أفضت بنا إلى هذه النتائج ينبغي لنا أن نذكر حقائق خمسا نرجع فيها إلى تاريخنا بعض الشيء:

أولا: حكمت مصر منذ أبعد العصور على نظام تباين الطبقات الاجتماعية، وعلى أساس الفوارق في الحقوق العامة؛ غير أن الطبقات أخذت تتقارب حقوقها الطبيعية وتنتفي من بينها الفوارق من عهد قريب، فالكل الآن متساوون أمام القانون، ولكل مصري حق الانتخاب والحكم من طريق مجلس النواب. فأخذ مظهر وجود طبقتين متمايزتين في الحقوق المدنية يزول شيئاً بعد شيء، فلقد كانت مصر القديمة مكونة من ثلاث طبقات هم: الحكام والكهنوت والشعب؛ ومنذ غزو الاسكندر وحكم البطالسة إلى حكم المماليك حتى بدء الاحتلال الإنجليزي كانت هناك طبقات تختلف حقوقها وامتيازاتها؛ أما الآن فقد انتفت هذه الفوارق نظرياً، ونقول نظرياً لأننا لا نزال نشكو من بعض مساوئها، بالرغم من أن أصغر فلاح في مكنته أن يقاضي أعظم عين في البلاد، وأن يأخذ حقه منه إن كان له حق

ثانياً: بالرغم من أن نظام الطبقات المتباينة في الحياة والحقوق هو النظام الذي اتبع في مصر منذ أبعد العصور، وبالرغم من أن حالة مصر الاجتماعية من خمسين سنة مضت كانت تكفل الاستقلال المادي لطبقتي ذوي الامتيازات والفلاحين معاً؛ بأن تحمل طبقة الفلاحين، وهي الطبقة العاملة، العبء كله، بأن تكفي نفسها وتكفي حاجات حكامها بقدر الاستطاعة، فأن الحالة الجديدة، حالة التساوي أمام القانون في الحقوق، قد أحدثت ظاهرة اجتماعية جديدة، كان سببها أن الفلاح قد خرج من كونه عاملا لا حق له في ملكية الأرض، إلى رجل حر له حق العمل متى شاء والانقطاع عنه متى أراد، وله فوق ذلك حق الملك، بل نقول إنه انتقل من عامل إقطاعي إلى رجل حر، فقامت على هذه ظاهرة اجتماعية جديدة

ثالثاً - هذه الظاهرة الاجتماعية الجديدة التي قامت على تحرير الفلاح المصري وعتقه من نظام الإقطاع الذي ظل خاضعاً له طوال القرون، قد قلب آية الحياة الاجتماعية في مصر. فإن هذا الفلاح لم يكن ينقصه شيء ليكون مستقلا تمام الاستقلال في حياته إلا قانون يحميه، ونظام اجتماعي يجعله يشعر بأنه قوة لها أثر قي الحياة؛ فلما وقع ذلك بالفعل أصبحت الطبقة الدنيا أي طبقة الفلاحين المسخرين التي كان عليها أن تحفظ استقلالها واستقلال الطبقة التي تعلوها، سيدة نفسها، وأصبحت طبقة الملاك وأصحاب الجاه كما كانت في الحالة الأولى عبئاً عليها، ولكن في صورة جديدة، هي صورة أخذت شكل صراع خفي بين طبقتين

رابعاً - ولقد انحصر مظهر هذا الصراع في طبقة تحررت من قيود النظام الإقطاعي وهي الطبقة المنتجة العاملة بيدها، فأصبحت مستقلة بنفسها. وهي طبقة قادرة على الحرث والغرس والحصاد في بلاد لن يزرعها غيرها، ولن ينتفع بها غيرها؛ فهي مستقلة مادامت من فوق الأرض التي يغذيها النيل بشرايينه المحيية؛ وهذه الخطوة الجديدة أحدثت ظاهرة أخرى

خامساً - عكفت الطبقة الأخرى، طبقة أصحاب الجاه على مطلب آخر تتقي به النتائج التي تترتب على استقلال الطبقة العاملة ولم تجد من وسيلة أقرب من تعليم أولادها ليكونوا حكام البلاد. ولكن طبقة الفلاحين أخذت تزاحم الطبقة الأولى في هذا المضمار، فأخذ الأثرياء منهم يعلمون أولادهم ليكونوا حكاما فنجحوا. ولكن بعد أن ملئت الحكومة بما تحتاج من حكم وكتبة قام شعور جديد بأن أولاد موظفي الحكومة والأثرياء الذين أخرجوا أولادهم من محيط الفلاحة إلى محيط العلم أقل استقلال مع تعلمهم من أبناء الفلاحين الجهلاء. وأصبحنا الآن والموقف بين متعلم عاطل يتطلع إلى مرتب أبيه أو ثروته ليعيش، وفلاح جاهل لا عمدة له في الحياة إلا خبرته الموروثة في فلح الأرض وقوة عضلاته ومحراثه وفأسه وماشيته. فهو رجل مستقل تمام الاستقلال في الحياة، على العكس من المتعلم العاطل. فإذا كانت الغاية من التعليم تخريج رجال مستقلين يكافحون في الحياة كفاح المنتج لا كفاح المستغل لكفاح غيره، رأينا أن التعليم لم يف ببلوغ الغاية الأخيرة منه، مادمنا نرى أن ابن الفلاح بخبرته الموروثة مستقل في حياته منتج بعمله، في حين أن المتعلم يفقد مع التعليم استقلاله الذاتي ويتطلع دائماً إلى حياة الركود لا إلى حياة الكفاح التي لم يهيئ له تعليمه طريقها الواجب

على أن قليلا من التأمل في هذه الالمامة التي ألممنا فيها بأوجه التطور الاجتماعي الذي انتابنا منذ خمسين سنة خلت، يحمل المفكر على المضي خطوة أخرى في تأملات إذا أحطنا بها نكون قد فرغنا من التمهيد للفكرة التي نريد أن تكون الدعامة التي يقوم عليها أساس التعليم في مصر، فنرى ما يأتي:

أولا: إن طرق التعليم التي عكفنا عليها إلى الآن شطرت الأمة معسكرين: الأول معسكر المتعلمين على القواعد الأوربية التي اتبعناها في مدارسنا، وخرجوا بهذا التعليم عن جو ثقافتنا التقليدية، فأصبحوا نصف مصريين؛ والثاني معسكر الفلاحين الذين أبعدناهم عن الثقافة الحديثة، وحافظنا على ثقافتهم التقليدية فصاروا بذواتهم في القرن العشرين، وبعقليتهم في مصر الفرعونية

ثانياً: كونَّا بهذا طبقتين غير متجانستين، بل مختلفين تمام الاختلاف، بحيث لا تجمع بينهما من رابطة إلا الرابطة الطبيعية التي هي رابطة الدم؛ فكنا في ذلك أشبه بالمستعمر الذي يرغب دائماً في أن يزيد من الصدوع التي تفصل بين طبقات الأمة، لا أشبه بالمصلح الذي يعمل دائماً على أن يرأب تلك الصدوع ويقرب بين الطبقات حفظاً للتوازن الاجتماعي. ولا شك في أن هذه السياسة تؤدي بطبعها، وعن غير قصد، إلى حرب الطبقات التي نحن مقدمون عليها حتماً إذا استمر التعليم على نماذجه الحاضرة وأخذت تلك الصدوع والفوارق تزيد عاماً بعد عام

ثالثاً: دليلنا على هذا أن ابن الفلاح إذا أثرت فيه الثقافة الحديثة، سواء أكان تعليمه في مصر أم في إحدى جامعات أوربا، أصبح لا ينشق في جو بلاده نسيم الثقافة التي نشأ فيها، فتلحظ فيه روح التبرم بأبيه الفلاح وأمه الفلاحة، وتأنس فيه نزعة قديمة تدفعه دائماً إلى حب العودة إلى الجو الذي نشأ فيه، فتراه قلقاً غير مستقر، هدَّاماً لا بنَّاءً، يريد لو تتاح له الفرصة ليعود إلى الجو الذي كان فيه؛ فإذا أعيته الحيلة، كما يحدث دائماً، واضطر إلى البقاء في جو بلاده، هجر الريف، مرباه الأصيل ومربى آبائه وأجداده منذ قرون طويلة ومنشأ تقاليده منذ أزمان لا تعيها الذكريات، ليسكن في مدينة من المدن، فيفضلها مع عيش الفقر والعوز على الريف مع عيش الراحة والهناءة؛ وتراه ينزع إلى البطالة في مدينة دون العمل الذي هو أجدر بحياة الرجولة في الريف. ومن هنا تتكون الطبقات المتبرمة بالحياة، العاملة على الهدم دون الإصلاح، النزاعة إلى الأفكار المتطرفة والثورات. أولئك الذين عناهم العلامة هنري جيمس في كلمته التي سقناها من قبل

رابعاً: وأنت أينما وليت وجهك رأيت أثر المعسكرين اللذين كونهما التعليم المصري ظاهراً جلياً. فأنت تنتزع الولد من حضن أبيه الفلاح وأمه الفلاحة، فكأنك تنزعه من حضن (مصر الفرعونية)، لتنشئه في حضن (مصر الأوربية)، وتخرجه بعد ذلك قاضياً أو محامياً أو مهندساً أو تاجراً أو رجل إدارة أو غير ذلك، ولكن بروح أوربية تكسوها ثياب مصرية شفافة؛ وبالأحرى تخرج رجالاً انبتت صلتهم بتقاليدهم الثقافية القديمة. وأنت في دور العدل وفي المتاجر وفي مركز الإدارة وفي عيادة الطبيب ومكتب المهندس، واقع في كل دقيقة على مظهر من مظاهر التفرقة بين المعسكرين. فالفلاح البعيد عن مدنية المدن، وبالأحرى البعيد عن جو الثقافة الأوربية الذي نشأ فيه القاضي والمحامي والتاجر ومأمور المركز ومعاون الإدارة وطبيب القرية، يمثل معسكر مصر الفرعونية؛ أما هؤلاء فإنما يمثلون (مصر الأوربية)، ولا شك في أن هذا مظهر من مظاهر الانحلال الاجتماعي، لا يسأل عنه في مصر شيء بقدر ما يسأل التعليم

خامساً: بالرغم من أن المتعلم قد نزع بفكره نزعة أبعدته عن ثقافة آبائه التقليدية، فقد أثرت تلك الحال في مزاجه وتصوراته ونظراته الفنية في الحياة، تلك النظرة التي يجب أن تكون مصرية صميمة، ويجب أن نحافظ عليها نقية على سجيتها لنكون مصريين جديرين بالمصرية، وكان من نتائج هذا أن المتعلمين يفضلون أقذر قرية أوربية على ريفنا الجميل وبحيراتنا الفاتنة، حتى لقد كادت تقوى النزعة الأوربية فينا على وحي النيل نفسه؛ والسبب في هذا أننا كنا خلال الخمسين عاماً الماضية كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، إذ انتزعنا من أرواح ناشئتنا (مصريتها)، ولم نترك فيها من المصرية إلا لون البشرة، ولقحناهم بالروح (الأوربية) فلم نبق مصريين كأهل الريف، ولم نستطع أن نكون أوربيين كفتيان (بيكادلي سركس)

سادساً - بدأت هذه الحال تؤثر في مرافقنا الحيوية، حتى لقد نزعنا إلى القول بأن كل ما هو أوربي جميل، وكل ما هو مصري رديء؛ وكل فكرة مصرية لعب ولهو، وكل فكرة أوربية جد ورجولة؛ وكل فن مصري بٌدائيٌّ وغير متفق وروح العصر، وكل فن أوربي مهما كان فيه من بعد وتضاد مع نزعتنا وتقاليدنا المصرية بل ومع آدابنا المرعية والعرف الإنساني، وحضارة وتمدين؛ وشملت هذه الحال فتياننا وفتياتنا، فألسنتهم لا تتحرك إلا بكل ما هو أوربي غربي، وقلوبهم لا تهفو إلا لكل ما هو بعيد عن المصرية

ولا شبهة في أن المعسكرين يتهيآن الآن: الأول للعمل على خراب الريف، والثاني لا حول له ولا قوة، فسوف ينهزم ليترك الريف خراباً. وإنما يخرب الريف بخراب القلوب التي يجب أن تؤمن بأن الريف هو مصر، وأن مصر هي الريف، وأن المدن أسواق لذلك الريف لا أقل ولا أكثر. وإنما يخرب الريف بأن نحب المدينة ونهجر الريف، فكأننا هجرنا مصر. ولا مخرج لنا من هذا إلا بأن نصل ثقافتنا الحديثة بثقافتنا التقليدية؛ فيكون المصري فلاحاً مصرياً روحاً ونزعة وخلقاً، ثم قاضياً ومحامياً وطبيباً ورجل إدارة من بعد ذلك. يجب أن تكون ماهيتنا مصرية وأعراضنا أوربية، لا أن نعكس الآية بأن نعمل أولاً على محو مصريتنا، فإذا تم لنا ذلك رحنا نتيه بأننا أتينا بأعراض أوربية ولقحنا بها ذوات لا ماضي لها، وبالأحرى لا ماهية لها

تلك مقدمات لابد منها إذا أردنا أن نبحث حالتنا الاجتماعية من جهة علاقتها بالتعليم. وسنرى في البحوث التالية كيف يمكن أن نستفيد منها

إسماعيل مظهر