الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 14/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة/العدد 14/في الأدب الشرقي

مجلة الرسالة - العدد 14
في الأدب الشرقي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 08 - 1933


من الأدب التركي الحديث

عبد الحق حامد

للدكتور عبد الوهاب عزام

شاعر الترك الأكبر، حمل لواء الشعر أكثر من خمسين عاما غير منازع، ولا يزال على المرض والشيخوخة مطمح الأبصار، وقبلة الأفكار. ولد سنة 1267 هـ فهو الآن في الخامسة والثمانين من عمره المبارك، وما فتئ مذ بلغ العقد الثالث فياضا بالشعر والنثر يسلك فيهما المسالك المختلفة موفيا على الغاية، بالغا من الجمال والجلال النهاية، حتى كتب أكثر من ثلاثين كتابا، ثروة يفخر بها الأدب التركي بل يتحلى بها الأدب الإنساني. وليس يتسع المقام هنا للإبانة عن شعره ونثره، أو الإفاضة في وصفه والكشف عن نواحي النبوغ والإعجاز في طبعه، ولكني أعرض لكتاب واحد من كتبه:

في سنة 1302 كان الشاعر في الهند فمرضت زوجه، فسافر بها راجعا دياره فماتت في الطريق ودفنها في بيروت. وكانت في سن الخامسة والعشرين، وشاعرنا يومئذ ابن خمس وثلاثين.

كانت وفاة فاطمة قيامة في نفس عبد الحق وفي الأدب التركي. كتب في البكاء عليها زهاء ألف وخمسمائة بيت في كتابين أكبرهما وأولهما سماه (مقبر) وهو صرخة ما تزال مدوِّية في الأدب التركي منذ خمسين عاما. ولن يمحى صداها في الحياة ما بقي في الإنسان قلب وما بقي للشعر التركي قارئ والثاني سماه (أولو) أي الميت.

يقول جناب شهاب الدين وهو من أعاظم أدباء العصر:

إن (المقبر) ومقدمته فتحا عصراً جديداً في أدبنا المنظوم والمنثور. ولم تؤثر وفاة فاطمة في حياة الشاعر وحده بل في آداب الأمة كلها. . . ولا ريب أنه قد ولد من القبر الذي في بيروت شاعر جديد أعظم من شاعرنا الأول. إن (المقبر) أعظم وأجمل تمثال في آدابنا، ولست أرتاب في أن هذه البديعة التي كتبت على حافة البقاء قد قدر لها الخلود.

(المقبر) ثورة هائلة بعث فيها الشاعر أناته وعبراته وصيحاته وكل ما في قلبه وعقله.

ينظر الى القبر باكيا فيطير به الفكر في أرجاء العالم، ويصعد به الى الله ثم يطوي فكره شيئا فشيئا ويهبط به الى القبر ليطير عنه الى السماوات كرة أخرى. وهو في ثورته واستسلامه يذكر القارئ بقصيدة فكتور هوجو. التي رثى بها ابنته.

ثارت ثائرة بعض النقاد على حامد (ومقبره) حينما نشره إذ رأوا فيه لغة غير مفهومة، فكان في جلال الحزن وشدة الألم أسمى من أن يبالي المدح أو الذم. وما كتب الشاعر كتابه ليكون بديعة أدبية. بل أراد، كما يقول: أن يبني بالشعر قبر الحبيبة، لا يكترث بالناس حين يبنيه؛ ولا يبالي بما يقولون فيه.

وقبل أن أعرض على القارئ نموذجا من (المقبر) أترجم مقدمته المنثورة التي يراها بعض الأدباء عهدا جديدا في النثر، كما يعدون الكتاب عصراً جديداً في الشعر. قال:

(المقبر): وهو آخر ما كتبت، كتب لتخليد وجود أصابه الفناء. وأنا أعلم أنه ليس في (المقبر) أثر من المعاني الشعرية التي تنطوي عليها المقابر. وإنما (المقبر) صيحة حسرة منبعثة من العدم، فلن يظفر قارئه بشيء، ولكنه عندي شيء. أجل أن الفكر حين يجوس خلال الكتاب ليطوِّف في مقبرة ثم يخرج منه كما يخرج من المقابر؛ لا يفقه شيئا. . .

قراءة فاتحة هذا الكتاب كاستيعابه كله، والإحاطة بما فيه كالتفكير في اسمه. لقد كتب هذا الكتاب في مقبرة، فهو وحي من الألم لمن يعرفون الكاتب السيئ الحظ، ووحي من الكلال لمن لا يعرفونه.

من يسألني: لماذا تنشر على الناس آلامك في هذه الصورة وكان يسعك أن تكتمها في قلبك، أو تكتبها ولا تنشرها؟ فذلك جوابي له: لا يبقى من هذه الأجساد المتهافتة في وادي الصمت إلا أحفان من التراب، وكذلك لا يبقى في القلب من أحب الذكريات إلا خيال دارس، ولست أقنع بهذا الخيال.

وأما نظم الكتاب وحفظه بين أوراقي فمصيره أن يبلى كما تبلى الأعضاء الميتة والأفكار اليائسة ولست أرضى بهذا البلى.

هل يضمن نشر الكتاب خلودها كما رجوت؟ لا، ولكن مهما يكن من شيء فـ (المقبر) أطول مني عمراً. ومن أجل ذلك نشرته، إنه قبر مبني من الصيحات التي في قلبي؛ أود أن تكون كلماته كالكلمات التي نقشت على الأحجار. هيهات. . .! كل صيحة في هذا (المقبر) قبر منفصل ولكن فيها كلها دفيناً واحداً، هو الإنسانية التي تجلت لي في الوجه الذي أحببته. كتبت هذا الكتاب لأقرأه وحدي، فقليل من يشاركني إحساسي. بل لا أود أن يشاركني أحد في هذا الإحساس خشية أن لا تكون هذه المشاركة إلا بالتجريب. أريد أن أبكي وحدي على المسكينة التي بكيتها، وهذه الوحدة عندي سلوان لأنها أكبر العذاب.

ألا يرى القارئ أن هذه المقدمة كذلك تشبه كتابا كتب لي وحدي. وبعد، فليست العبارة المكررة في (المقبر) إلا كلمة واحدة، وليست هذه الكلمة إلا قبرا: كما تنتهي الأصوات كلها الى النفس الأخير.

لا أرتاب أن (المقبر) كآثاري الأخرى سيفنى، بل أعرف أن الأبدية كلها لا تفي بحفظ آلامي على حالها، وسيصعد الكتاب الى حضرة الخالق ودماء هذا الجرح سيالة من قلبه.

من القلوب مالا يجتمع فيه السرور والآلام، ومن القلوب مالا يزول حزنه بما يصيب في الدنيا من سعادة وجد، ولكن هذا الحزن لا يحول دون السرور، وفي بعض القلوب يخيم السرور والحزن معا، ومن أجل ذلك تلوح السلوة في الحزن أحيانا، ويبين الألم في الابتسام.

ومن القلوب ما يزيد الفرح أحزانها. ومن هذه الآلام آلامي. أود أن أطرب ليزيد حزني، ولست بمستطيع أن أفهم الناس ذلك، فلغة هذا الإحساس تكبر على الأفهام. فلأصمت!

إن القارئ الذي يريد أن يعد (المقبر) شعراً لأنه من آثاري لن يجد فيه من شاعريتي أثراً. ولكنه إذا فكر يسمع صرخات يستطيع أن يحسبها شعراً، وما هذه الصرخات إلا عجز البشر.

أعظم الشعر وأجمله وأصدقه أن يعيا الإنسان بالبيان فيصمت حين تنوء به إحدى الحقائق الهائلة. ولكن (المقبر) يخطب ولا يصمت. يعجز الإنسان أحيانا أن يعرف خيالا لا خطر له لما يبهره من جماله، ويقصر أحيانا عن إدراك الفكر الطائر عن عقله لما يفوته من علائه. ويعيا أحيانا بفهم الإحساس المولود من قلبه لما يهوله من عمقه. وفي هذا العجز يرسل صيحاته، أو يشدو بما لا يفهم من كلماته. أو يصمت فلا يترجم عن حسراته، فيأخذ قلبه فيطؤه بقدمه فيحطمه. وهذا كله شعر.

(المقبر) يتضمن إحساسا ولده قلبي. ولكنه في بعض نواحيه غريب كل الغرابة عما يروي من شاعريتي. يجد القارئ فيه لغتين لا تشبه إحداهما الأخرى، حتى يحسب أنه قد تعاقب على (المقبر) كاتبان. بل يبعد بعضه مني حتى أعيا أنا بفهمه.

فأما حديثي فيه عن الماضي (وهو أكثر مواضعه خرابا على أنه أحبها إليّ) فيبكي من يعدونني شاعرا، ويزيد صدق من لا يعدونني من الشعراء. وبعض مواضعه ليس من شعري، بل هو أشبه بقبر فتاة في ميعة الصبا.

أول هذين من النقائص الأدبية، والثاني من النقائص الإنسانية. وما يرجع الى تصوير الفضائل ناقص أي نقصان.

وبعض نواحيه لا يستطيع أن يمكث في الأرض لأنه صيحات. (المقبر) في جملته يراه كثير من الناس أثرا باردا، ولكنها البرودة التي تحرق قلبي.

لابد لعالم الأدب من آخرة، والمقبر من هذه الآخرة علامة، (المقبر) قبر حياتنا الأدبية، والمقبر زوالي.

(المقبر) يبين عن فكر واحد بأساليب شتى، ألفاظه عند الخاصة لا شيء، ولكن هيكله قبر ميت عزيز فهو عندي شيء. (المقبر) خفيف في جانب ثقل المصيبة التي أصابتني، فارغ في جانب عمقها، عدم في جانب شعرها، ولكنه بالقياس اليّ شيء. ينبغي أن يكون (المقبر) ضريحاً لا قبرا، معبداً لا ضريحا، كوكبا لا معبدا، فضاء لا ينتهي لا كوكبا. ولكنه وا أسفاه، لم يبلغ أن يكون قبرا.

(المقبر) ينبغي أن يكون منبرا ينزل إليه نور إلهي، ولا يستطيع أن يصعد إليه الفكر الإنساني، يجب أن يكون (المقبر) محشرا. هيهات! لا أقول يجب ألا أظهر فكري بل يجب أن يكون مما لا يمكن ظهوره. (المقبر) يئن أبدا. وان دل هذا الأنين الأبدي على العمق فوا حسرتاه أنه لا يعدو أن يكون قبرا. إن معنى هذا (المقبر) ظواهر المقابر.

ذكرت النقائص الأدبية والنقائص الإنسانية. نعم ماذا عسى أن افعل؟ ماذا أفعل لتصحيح الخطأ وأكبر الخطأ صادر من المصحح.

إن الأبيات يجب أن تصنع للوقائع الجليلة، والأفكار الجميلة، كما تبنى الهياكل للأسماء الكبيرة، وبأسماء الوجوه الجميلة. والقبر هيكل بناه الله فكيف نستطيع نحن أن نصور ونجسِّم؟ أي شاعر جسَّد امرأة جميلة فصورها للذين لم يروها؟ أي قلم حكى المحاسن الطبيعية على وجهها؟ إن الذي يلهمنا أحسن ما نشعر ونكتب هو الطبيعة، وهذا الشعر يشبه الصورة التي تتراءى في الماء لا بد لها من مصدر خارجه.

بعض أكابر الأدباء يدعون أن مزايا الشاعر تتولد من نفسه وليس هذا رأيي. إن محاسني (إن كانت) هي للجبال والمروج والوجوه الجميلة والأزهار. وأما سيئاتي فهي لي. أقول قبل أن أختم:

ان المصيبة التي اخبرني بها (المقبر) قلبت شعري كما قلبت كل شيء في. فهل صعدت صدمة هذا الانقلاب بفكري أو هبطت به؟ يعرف ذلك إخواني.

انظروا كيف عجزت عن كتابة كلمات حتى في المقدمة؟

الانقلاب الذي ذكرت هو قيامي في نقطة أو في فضاء غير محدود حيث تصطدم السماء والقبر. بقى قلبي طويلا بين هاتين القوتين الهائلتين، كلما اقتربتا شعرت بالعزاء وكلما ابتعدتا غمرني اليأس.

ثم اتحدتا فتحطمت فظهر (المقبر). فهل هذا شعر؟ محال. كان يجب أن يتحد القبر والسماء أو بعبارة أصدق أن يبقيا مفترقين، وكان يجب أن أنوح في الافتراق والاستغراق فيكون هذا شعرا.

أنا لا استحسن معظم ما كتبت قبل (المقبر) وبعضه يعجبني قليلا، وأما المقبر فلا يعجبني قط، ولكني أحبه كل الحب. لا يعجبني لأن صلة هذا الكتاب بالأدب واهية، وأحبه لأنه (هي).

لعل (المقبر) يشبه الشعر عند من يرون الخليقة كلها شعراً، وهو عندي يذكرني بشاعرة، شاعرة كانت شعر القدرة الصانعة كل ما في (القبر) على نقصه وحشوه. روحانية متوفاة، ومعنوية روح.

(المقبر) حالها وصورتها وخيالها وهيكلها وقبرها وحياتها التي ذهب الدهر بمحاسنها. ثم أكرر فأقول: (المقبر) (هي) ومن أجل ذلك أحببته.

ولكن (المقبر) في نظر الأدب طفل دميم: طاهر، ولكنه ليس جميلا، وفيلسوف حقير: حكمة ولكنها ذات ريب، وحسن معيب: صيحة ولكن ذات صناعة، وقير مشيد: ليس حزينا ولكنه قبر: مغرب ولكنه متلألئ، جمال ولكن بغير حب، شعر ولكنه ذو قافية، لأجل هذا لا أحبه.

الفكر نهايته الموت، والشعر نهايته الألفاظ والقوافي، فماذا أصنع؟

إن لم يكن (للمقبر) بد من فكر شرعي فهذا الكتاب قبر متوفاة، أسأل زائريه الفاتحة.

وفي العدد الآتي نعرض على القارئ مثالا من شعر (المقبر) ان شاء الله.