مجلة الرسالة/العدد 14/الكتب
→ بلياس ومليزاند | مجلة الرسالة - العدد 14 الكتب [[مؤلف:|]] |
أربعون يوما من عام 1914 ← |
بتاريخ: 01 - 08 - 1933 |
النجوم في مسالكها. . أدب جديد
للأستاذ محمد عبد الواحد خلاف
ليطمئن دعاة الجديد من كتابنا الأدباء فلست بمقاسمهم فخر نصر
أحرزه، ولا بمنازعهم فضل طريق شقوه، وليطمئن أنصار القديم فلست
بمنتقص تراثا عزيزا قدسوه، ولا عائب جمالا فتنوا به وألفوه، ولكني
مطلعهم على واد جديد من أودية الأدب تلتقي عنده وجهاتهم، ويجدون
فيه جميعا ما ينفع غلتهم.
سيجد فيه عشاق المعاني المبتكرة منبعا خصبا، ولا يعوزهم معه امتداد في الخيال أو سعة في التأمل أو عمق في التفكير، وسيجد فيه عشاق الصياغة البارعة، والأنغام الرنانة مشاهد سحرية تتجلى في وصفها بدائع صناعتهم، وآفاق خلابة يطيب فيها ترديد أنغامهم، ومسارح للجمال أشد استهواء وأروع تناسقا من كل ما مر بخاطرهم. ففيه مبعث التفكير ومهبط الوحي لمن كان عصى الابتكار، يضنيه تلمس الخيال، ويجهده أن يلد كل يوم جديد، وفيه ذخيرة الرأي ومادة الوصف لمن كان غنيا باللفظ والصياغة فقير المعاني، هذا الأدب هو ما أسميه أدب العلم.
وقد يبدو غريبا إمكان التزاوج بين العلم والأدب، فقد ألفنا أن نرى العلم سلكا من الحقائق الجافة يؤلف بينها منطق صارم دقيق، وألفنا لغة العلم مضغوطة جافة مشحونة بمصطلحات موضوعة تجعل بينها وبين الغريب عن العلم حجابا، وألفنا الأسلوب العلمي محبوكا لا يكاد يطل عليك من خلف عباراته روح إنسانية تفيض عليه الحياة، فهو جسم سليم الأعضاء تام التركيب، ولكنه ميت لا روح فيه، وهذا شر ما ضيق دائرة العلم وحصره في طائفة المشتغلين به.
والأدب؟ لقد ألفنا الأدب متمردا على مقاييس المنطق الجافة يحمل رسالته للقلوب لا للعقول، هو روح يفيض على كل مادة فيسبغ عليها حياة خالدة، هو نفس الأديب مقطرة تشف من وراء كل عبارة يسطرها، هو موسيقى الإنسانية تتجاوب أصداؤها في كل قلب، ومن أجل ذلك كان الأدب رسالة عامة يفهمها الناس جميعا ويطربون لها، فكيف التقى الأدب والعلم؟
إن الثقافة الحديثة هي التي قربت بين المتباعدين، وألفت بين المتنافرين، فلقد أنتجت كثيرا من العلماء المتأدبين، أو الأدباء العالمين، وقد وجد هؤلاء من حقائق العلم ما هو أعجب من أوهام الخيال، وبصروا بعين العلم مشاهد ترتد عنها العين غير العلمية كليلة لا تبلغ جمالها ولا تدرك ما فيها من فتنة.
وسمعوا بأذن العلوم موسيقى رائعة دقيقة لا تصل الى الأذان غير العلمية، ووصل العلم بين الماضي والحاضر، والقريب والبعيد، والحياة والفناء، والمادة والطاقة.
وسلك الكل في وحدة (كونية) تضاءلت أمامها الوحدة (الإنسانية) وطلع علينا أدب كوني أسمى وأروع وأبدع من الأدب الإنساني الضيق.
حطم الأدباء العالمون الحواجز التي كانت تعزل العلم عن الجماهير، وأسبغوا مواهبهم الأدبية على حقائق العلم فكسوها حلة فتانة قربتها للجماهير، فكانت غذاء لعقولهم وشفاء لقلوبهم. . .
وبين يدي مثل رائع لهذا الأدب العلمي هو كتاب (النجوم في مسالكها) الذي وضعه بالإنجليزية العلامة السير جيمس جينز، ونقله الى العربية صديقنا الدكتور أحمد عبد السلام الكر دانى.
هو سياحة في الكون على أجنحة الخيال العلمي، تعبر بك ملايين السنين والأميال وتنقلك الى عوالمه، وتقف بك عند السيارات والكواكب، وتخترق بك الشمس، وتريك أسرار كل هذه العوالم وستنسى نفسك وأنت تسبح مع الكاتب كما نسيت نفسي؛ ثم تؤوب منها كما عدت منها وقد امتلأت يقينا بجلال الله وعظمته، وشعوراً بقدرته وبالغ حكمته، وسترى كما رأيت مبلغ غرور الإنسان وهو ليس إلا هباءة حقيرة في جزء حقير من الكون! وتعجب كيف طوعت له نفسه أن يناصب العداء هذا الخالق العظيم الذي دبر هذا الكون الذي لا ندرك مداه فأحكم تدبيره.
ومالي أقطع عليك بالوصف لذة تلك السياحة وأنت لابد قارئها وواجد فيها ما وجدت. وفوق ما وجدت، ولقد وفق صديقي (الكر دانى) كل التوفيق في تعريب الكتاب فجاءت عباراته طلية واضحة دقيقة، ويبدو في كل صفحة من صفحاته مجهود في اللغة يهنأ عليه الأستاذ المعرب كل التهنئة.
ولن ينقص من قيمة هذا المجهود الكبير تلك الحملة الظالمة التي حملها كاتب مقنع في جريدة الأهرام على تعريب هذا الكتاب، وراح يتلمس عثرة للمعرب فلم يجد إلا بضعة ألفاظ عابها عليه وهى مفخرة له.
إن عبارة النقد تنم عن كاتبها وسوء نيته، وإني لأرجو أن يمر بها المعرب وتمر بها لجنة التأليف والترجمة والنشر مر الكرام، وسيجدون من أنصاف القراء وتقديرهم لهذا الكتاب القيم ما يكفيهم عناء الرد عليه.
أكرر التهنئة لصديقي (الكر دانى) وأرتقب مع القراء مجهودات أخرى له في الأدب العلمي الذي نفتقر إليه أشد افتقار.