مجلة الرسالة/العدد 137/رسائل حاج
→ في ميدان الاجتهاد | مجلة الرسالة - العدد 137 رسائل حاج [[مؤلف:|]] |
بين الثريا والثرى ← |
بتاريخ: 17 - 02 - 1936 |
3 - من ربوع الغرب إلى بلاد العرب
للمستشرق المجري الدكتور عبد الكريم جرمانوس أستاذ التاريخ
بجامعة بودابست
كنت لا أزال منزويا في مقدم الباخرة، حينما أسفرت أضواء الفجر الشاحبة عن هذه البقاع الإسلامية المقدسة، فإذا (بجدة) تسمو في السماء اللازوردية، بينما تترامى أمواج البحر على أقدامها، تشقه عشرات البواخر والزوارق في حركة متواصلة، يتصاعد منها صخب داوٍ اختلطت فيه كافة لغات الشرق، فأعادت إلى ذهني المكدود بابل بأسواقها وشعوبها، إلا إن المدينة الخالدة كانت تبدو فوق هذه الحياة اللاغطة، كأنما تسمو خلوداً فوق مظاهر مدنيتنا الحديثة الزائلة وقد برزت منها مآذن في دقة الحراب وقباب كانت شاحبة البياض قبل أن يدنسها دخان بواخر الغرب فكانت ترسو في ظلها المراكب الشراعية حاملة طوائف المسلمين من الهند وجاوة وسومطرا والصين وشواطئ أفريقيا
وأقترب الصباح فاستعد الركاب للنزول وبدءوا يستقلون الزوارق الخفيفة، وكان النساء يرتدين تلك الملابس البيضاء، سافرات الوجوه، لا يجرؤ أحد على أن يتطلع إليهن بنظرة، ومن ذا الذي في قلبه مرض فينظر إليهن في هذه الساعة الرهيبة نظرة اشتهاء؟ وفي الواقع إن الجاذبية الجنسية كانت منعدمة تماماً؟ وقد أبعد الحجاج عن خواطرهم شتى صور الحياة حتى لا يحول شيء بينهم وبين الوصول بقلوبهم إلى نور الله الواحد القهار
وكان على الشاطئ حشد من الحمالين والمطوفين ومراقبي جوازات السفر وفريق من موظفي الحكومة لجباية الضرائب وهم جميعاً يتكلمون لغات شتى. فما إن يهبط عليهم أحد الحجاج حتى يلتقطه المطوف ويقوده إلى الموظفين المختصين وبعد إتمام الإجراءات الرسمية يصحبه إلى المسكن المعد لإقامته
وجاء دوري، فلما سئلت أمام مراقب الجوازات تطلع إلى وسألني عن جنسيتي فأجبته: من بلاد المجر. . . عند ذلك أظهر ارتباكاً، إذ لم يسبق له أن سمع قبل اليوم ببلادنا؛ وأخيراً أسر إليّ بأن مسألتي من المسائل التي يبت الأمير فيها بنفسه. وأشار إلى أحد رجال الشرطة وأمره بأن يقودني إلى دار الأمير لأنه هو الذي بيده سلطة التصريح لي بالسف إلى مكة. وكانت دار الأمير تبعد عن الميناء مسافة لا تقل عن نصف ساعة سيراً على الأقدام. ولبيت الأمر فسرت مع ذلك الشرطي نتجاذب أطراف الحديث في طرق معبدة ملساء، غير أنه كان من سوء حظي أن أحد مسامير الخف الذي كنت أنتعله، برز من موضعه ودخل في قدمي فأحدث لي ألماً شديداً ظل أثره أياماً طوالاً
وما إن انتهت مقابلتي للأمير، وقد استغرقت نحو ساعة، حتى عدت إلى الباخرة، وكنت قد نسيت أني تركت أمتعتي في الزورق البخاري، ولقد كان أسفي لضياعها عظيماً، وكم عنفت نفسي لوقوعي في مثل هذا الإهمال الذي كانت نتيجته ضياع الأمتعة بما فيها الكتب! وكدت أقطع الأمل من العثور عليها، ولكن الله سلم، فإن النظام المحكم الذي يقوم به رجال الشرطة في الحكومة السعودية أتاح لي أن أعثر عليها بسهولة في إحدى قاعات الجمرك وعليها بطاقة باسمي. وبعد ساعة قادني المطوف إلى دار الأستاذ محمد ناصيف الذي كنت أحمل إليه كتاب توصية، وما كاد يتلوه حتى رحب بي على طريقة العرب في شوق وترحاب، وغمرني بكل صنوف الكرم التي لن أنساها؛ وتلك لعمري إحدى مفاخر الإسلام التي تتجلى عظمتها في كل مناحي الحياة
والأستاذ محمد ناصيف فوق أنه من سراة الحجاز رجل مثقف ثقافة عربية ناضجة، وتضم داره مكتبة زاخرة لا يكاد الإنسانيرى مثيلها في بعض الأقطار الأوروبية أو الأسيوية، وله رفاق يلتفون حوله كأسراب الطيور، ليلتقطوا من حديثه الشهي الحكم البالغة والآيات البينات
تبعد جدة عن مكة بمسافة 79 كيلومترا، وتشبه مبانيها الاستحكامات العسكرية، ودورها مرتفعة ارتفاعاً شاهقاً، وهي مكونة من جملة أدوار، بينما تتوج جدة قباب المساجد المقدسة، واسمة إياها بذلك الطابع الفريد الذي يميزها دون سائر مدن العالم
ومن الغريب أن قناصل الدول والوزراء المفوضين يقيمون في جدة دون أن يتخطوها إلى داخل الأراضي المقدسة؛ ويستحضر رجال الهيئة السياسية طعامهم من الخارج، حتى الماء يجلبونه من مصر، لأن مياه جدة أجاجية غير صالحة للشرب
وتستقبل أسواق جدة عادة زبائن من كافة بقاع العالم، ولا يفتأ تجارها يستحضرون أنواعا من السلع لا تناسب بينها مطلقاً، بل هي خليط من أذواق مختلفة ومشارب متباينة وبعد أن قضيت في ضيافة الأستاذ محمد ناصيف بضعة أيام صدرت الأوامر بالسماح لنا بالسفر إلى مكة. والواقع أن الفترة التي قضيتها في دار ذلك الشيخ الجليل دفعتني إلى الإيمان الشديد بأن الفوارق الجنسية لا أثر لها مطلقا في الإسلام، بعكس ما نشاهده في الحضارة الأوربية من الإشادة بالقوميات والعصبيات وغيرها من المشكلات الاجتماعية التي تثيرها روح التعصب الأعمى. وصادف أن رافقني في السيارة إلى مكة خمسة عشر زنجياً من أهالي الصومال، وكنا في خلال الطريق لا ننقطع أن نهتف: لبيك اللهم لبيك! وهنا يجدر بي أن أنوه للمرة الثانية بعظمة الإسلام التي تتجلى في عدم التفرقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرءوس، فالكل سواسية؛ وقد شعرت بتلك الحقيقة وأنا بصحبة هؤلاء العبيد الفقراء، وقارنت بين ذلك وبين الفروق الشاسعة في أوربا الموجهة نحو احتقار العناصر الضعيفة والتفرقة ين الألوان
كانت السيارة تنطلق بنا في طريق ممهد لا يمله النظر في كل جزء من أجزائه، الطريق سلكه قبلنا ملوك وعظماء وأنبياء منذ مئات السنين، وكانت السيارة كلما مرت بقافلة من القوافل نظر الأعراب إلى تلك الآلة الجهنمية التي تنبعث منها أصوات منفرة وروائح كريهة، في شيء من الحنق والغيظ. فقد أصبح النقل اليوم في أكثر طرق الحجاز بالسيارات تمشياً مع مقتضيات الحضارة الحديثة، مع إن البدو كانوا يربحون الشيء الكثير من نقل الحجاج بالإبل، وكانت النقود التي تدفع إليهم تبقى في حوزتهم، أما السيارة فإن ثمنها وأثمان وقودها وقطع تغييرها تتسرب الآن إلى خارج البلاد، فلا عجب إذا نظر إليها البدو في شيء من الحنق ونقموا على من كانوا سبباً في إدخال تلك (الآلة الجهنمية) إلى الصحراء، وهم يقولون إن الإنسان يجب أن يركب في سبيل الحج أشد الأمور، فلا يخال نفسه ذاهباً إلى سياحة هادئة، ويتذرع بوسائل الراحة والرفاهية مما يلقاه في السيارة؛ وبمقارنة الإبل بالسيارة، نجد إن للأولى قوة احتمال على الجوع والعطش، بعكس السيارة التي تحتاج إلى تجديد الماء كل أربعة ساعات، والوقود كلما نفد، فضلاً عن جهل السائق بميكانيكيتها مما يسبب عطلها في الطريق وتترك الحجاج في العراء إلى أن تقدم سيارة أخرى
أجل! لقد أزعجت السيارة ذلك الهدوء الشامل في الصحراء وأقضت مضاجع الأعراب وحولت طمأنينتهم إلى نوع من الثورة على الحضارة الأوربية وما تقدمه إليهم من كهرباء وطيارات ولاسلكي
دخلت سيارتنا مكة في منتصف الليل تقريباً فراعني أن أرى الناس في الشوارع، يغطون في نومهم ويحلمون بالجنة التي هم بها موعودون، لا سيما وأنهم أصبحوا على قاب قوسين منها. أهاج هذا المنظر خاطري فأنبثق في نفسي شعور خفي وأنا أستقبل تلك الأرض المقدسة التي وطئتها قدما الرسول وكانت خير منارة للحق، فهددت الناس إلى السبيل القويم
وقصدت لساعتي إلى دار مطوفي، وهي دار رحبة عالية البنيان، بها غرف في الدور الأسفل، أعدت لاستقبال الحجاج الجدد عند وصولهم إلى مكة. وبعد أن رحب بي المطوف سألني عما إذا كنت في حاجة إلى طعام أو شراب فأجبته بالنفي، إذ كنت لا أزال غارقا في نهار من الأحاسيس الخفية، معللا النفس بقرب بزوغ النهار للطواف بالكعبة المقدسة
وما أن غشيت غرفتي واستلقيت على البساط حتى أغمضت عيني واستولى عليّ النعاس، فتخيلت الرسول الكريم وقد بدا أمامي في شكل نوراني، يكاد يخطف الأبصار، وكأنما هو ينشر كلمة الله فيضئ بها العالم يدعو الخلق إلى كلمة الحق، ورأيت الخلفاء الأربعة يتوسطون حلقات من الناس طبقا لقواعد الدين الحنيف، ويسودون العالم بالحكمة والمحبة لا بالعنف والشدة، ثم تخيلت هارون الرشيد وهو يجول أناء الليل في شوارع بغداد ويجوس في خلال أزقتها ودروبها، فيكافئ الأتقياء وينزل عقوبته بالمجرمين، وانبسطت أمامي بلاد الأندلس الزاهرة وقد سادها حكم العرب، فنشروا بين ربوعها العلم والحكمة والفلسفة والفلك والفقه حتى أصبحت هذه العلوم كشجرة مباركة فرعها في السماء، وأظلت بأوراقها اليافعة الخضراء تجاه مكة المكرمة والكعبة الشريفة؛ ولا يظن أحد أن ما شهدته كان من قبيل الرؤيا أو أضغاث أحلام، بل هي أشباح خالدة تطوف بذهن كل مسلم صادق العقيدة متوجه إلى الله بقلب نقي طاهر
وعند انبثاق الفجر نهضنا من النوم على أصوات ملائكية، كأنها هابطة من السماء، تلك هي أصوات المؤذنين يدعون المؤمنين إلى صلاة الفجر التي هي خير من النوم، فقمت مهرولاً، وبعد أن توضأت يممت شطر المسجد الحرام ومعي مطوفي، وكنت أؤدي الصلاة المفروضة طبقاً لإرشاده، ثم بدأت أطوف بالكعبة فسرني أن رأيت ألوفاً من الحجاج، من كافة الألوان والأجناس، يقبلون في لهفة على لثم الحجر الأسود، وهو رمز تاريخي للإسلام، كان الرسول الكريم يتبرك به ويقبله؛ وتبعه في ذلك الخلفاء الراشدون، وظلت تلك العادة متبعة للآن؛ وقد حاولت ولقد حاولت مراراً أن أقترب منه فكان يبعدني عن بلوغه كثرة الزحام، وبعد مشقة لمست بيدي سطحه الرمادي الأملس، ولكن ما كدت ألثمه حتى رأيت سيدة من أهالي فرجانة تقع على الأرض إثر صدمات عنيفة من الخلف، وكانت تحمل على ظهرها طفلتها المسكينة التي ستصبح حاجة بعد حين، ولقد قدمت هذه المرأة التقية إلى الحج ممتطية صهوة جواد مع بقية أفراد أسرتها، من بلدها في أواسط آسيا فاستغرق سفرهم أربعة أشهر؛ ولقد أخبرتني هذه الحاجة أنها كانت تدخر لهذه الزيارة المقدسة من سنوات بعيدة، وأخيرا حققت حلمها وكانت مبتهجة أشد الابتهاج
وقمت بعد ذلك للسعي بين الصفا والمروة، وهناك نالني كثير من الشقاء والعناء، فجلست بجوار حلاق أخذ يقص خصلة من شعري المبعثر عملاً بالسنة الشريفة، ولبثت في انتظار مطوفي ليأخذني إلى جبل عرفات
إن اللقاء على جبل عرفات لهو الغرض الأساسي تقريباً للحج، فالحجاج الذين يفدون إلى جدة متفرقين، يجتمعون كلهم في يوم واحد ويحشرون إلى صعيد واحد، وهنا تظهر عظمة الدين الحنيف وحكمته، فقد كان مجموع الحجاج فوق عرفات لا يقل عن خمسين ألفاً، مع إن مكة بمساحتها الشاسعة لا تستطيع أن تأوي مثل هذا العدد الوافر
وجبل عرفات من أجمل جبال العالم، يصل الماء إليه من (عين زبيدة) في أنابيب، وهو عمل عظيم في ذاته، لأنه يخفف من متاعب الحجاج للحصول على الماء. وهناك تل يطلقون عليه (جبل الرحمة) به مصلى كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي فيه
ولقد رأيت الحرس الوهابي يقيم على تلك البقعة ليمنع الحجاج من إقامة الصلاة بالقرب منها، كما إنهم يحرمون على الحجاج السجود أمام العمد الحجرية المسندة إليها
والوهابيون يعارضون أشد المعارضة في تدخين التبغ، ولكني رأيت أن هذه العادة تكاد تتلاشى، وألفيت كثيراً من الناس يدخنون في الطرق العامة حتى في الجبل وبجوار المصلى، كما أبطلوا عادة الخطابة التي كانت تلقى على ظهر البعير
(يتبع) عبد الكريم جرمانوس