مجلة الرسالة/العدد 136/الحياة الأدبية في دمشق
→ قصة المكروب | مجلة الرسالة - العدد 136 الحياة الأدبية في دمشق [[مؤلف:|]] |
أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر ← |
بتاريخ: 10 - 02 - 1936 |
للأستاذ علي الطنطاوي
لا شك أن (الرسالة) بسموها عن الفكرة الإقليمية الضيقة، وفتحها أبوابها لأبناء العربية جميعاً، ودعوتها إلى الاجتماع على التوحيد في الدين، والفضيلة في الأخلاق، والوحدة في السياسة، والصحة في اللغة، والجمال في الأسلوب، والتجديد في الأدب. . سيكون لها أثر كبير في تاريخ الصحافة العربية بما سنت من هذه السنة الحسنة التي لم تعرفها من قبل كبريات مجلات مصر إلا قليلا، وبما بلغته من الجمال والإتقان، في الشكل والموضوع؛ وسيكون لها أثر كبير في تاريخ الأدب العربي، بما وضعت للأدب من منهج مستقيم، وما أحيت من الأسلوب العربي، وما قبست من روائع الآداب الأجنبية؛ وسيكون لها أثر كبير في التاريخ العربي العام، بما دعت إليه من الوحدة العربية، وما نشرت من أمجاد السلف، وما وضعت في نفوس الناشئة من قرائها، من العمل للجامعة العربية الواسعة، لا للإقليمية الضيقة. . .
ولا شك أن (الرسالة) اليوم للأقطار العربية كلها، لا لمصر وحدها؛ فكما تفتح (الرسالة) أبوابها للمقالات الوصفية والقصصية، وللقصائد والبحوث التي يبعث بها إليها أدباء الشام والعراق وغيرهما، فلتفتح أبوابها للفصول النقدية، والبحوث المستفيضة عن الحركة الأدبية في هذه البلاد، ولو كانت قاسية شديدة على النفوس، ولو كشفت عن حقائق يحب بعض الناس ألا ينكشف عنها الستار؛ وليس من مصلحة الأدب في شيء أن يظل أدباء مصر والعراق جاهلين مدى الحركة الأدبية في الشام - مغترين بها - وليس من المصلحة أن يبقى أدباء الشام ومصر جاهلين مدى الحركة الأدبية في العراق، بل يجب أن يصف أدباء كل قطر من الأقطار الحياة الأدبية في قطرهم، ومبلغ قوتها أو ضعفها، وسبب تقدمها أو علة قصورها، وأن يحللوا أدواءها وأمراضها، لنتعاون جميعاً على علاجها ومداواتها، وتقويتها وشد أزرها؛ والحياة الأدبية في الشام أحوج شيء إلى المداواة والعلاج، إذا كان في الشام حياة أدبية، لها وجود، ولها آثار يستطيع الناقد أن يصفها ويتحدث عنها؛ وأنا أشك في وجود هذه الحياة، فلا أستطيع أن أجزم بوجودها لأني لا أرى علامة من علامات الحياة في أدباء دمشق وأدبها، ولا أستطيع أن أنفيها، لأن في دمشق أدباء كباراً معروفين، ولأن دمشق - كما يعلم الناس جميعاً - عاصمة من عواصم البيان العربي. . . .
ولقد رجعت أعرض تاريخ الأدب في دمشق منذ عهد الاحتلال إلى اليوم، وأنظر الآثار الأدبية الخالصة التي أخرجها أدباء دمشق هذه الخمسة عشر عاماً، فلا أجد إذا استثنيت مجلتي الرابطة الأدبية والميزان، ورواية سيد قريش لمعروف الأرناؤط، وكتابي المتنبي والجاحظ لشفيق جبري، ورسائل أئمة الأدب لخليل مردم بك، إذا استثنيت هذه الكتب، وكتابين آخرين أو ثلاثة قد أكون نسيتها، لا أجد أثراً أدبياً له قيمة. وهناك كتب محمد بك كرد علي: خطط الشام، والإسلام والحضارة، وغيرها، ولكنها ليست من الكتب الأدبية الخالصة، وإنما هي كتب تاريخ لا تدخل في موضوع مقالي.
على أن هذه الكتب التي استثنيتها ليست في درجة واحدة من حيث قيمتها الأدبية، فبينا نعد (سيد قريش) عملاً فنياً كبيراً على ما فيها من ضعف العقدة الروائية، وتشابه المناظر، وتكرار الأوصاف، وغلبة النصرانية على أجمل صفحاتها، نعد رسائل (أئمة الأدب) لخليل مردم بك، كتباً مدرسية، موضوعة لطلاب البكالوريا لا تبلغ أن تعد في الدراسات القوية التي تستند إلى طريقة في البحث معروفة، وتكشف عن نواح مجهولة من حياة الأديب الذي تبحث عنه ومن أدبه؛ ثم إن هذه الكتب نفسها إذا قيست بمدينة كدمشق، في مدة طويلة كهذه المدة، لا تعدو أن تكون أثراً ضئيلا لا يدل على حياة. . . . وهذا الأثر على ما فيه من ضعف ينحصر في فنين من فنون الأدب هما: القصة التاريخية، والدراسة التحليلية؛ أما سائر فنون الأدب كالقصة التمثيلية، والأقصوصة القصيرة، والصورة الوصفية، والمذكرات الأدبية، التأملات الفلسفية والشعرية، والدواوين القيمة، والخطب البليغة، وغيرها من فنون الأدب، فلا نكاد نجد لأدباء دمشق فيها أثراً يذكر.
من أجل ذلك لم أقل إن في دمشق حياة أدبية، لأن ما نحن فيه ليس بالحياة ولا بشبه الحياة، ولم أنف هذه الحياة لأن في دمشق أدباء ينتجون، أو يستطيعون أن ينتجوا شيئاً، وإنما أقول إن أدباء دمشق في منزلة بين الموت الكامل، والحياة الصحيحة، هي السبات العميق، والنوم الطويل الذي يشبه نوم الضفادع طول الشتاء، إذ تدخل في ثقب من الثقوب، فتلبث الفصل كله كأنها قطع الحجارة، لا تأكل ولا تشرب، ولا تنق ولا تتحرك. . .
وإلا فما يصنع كتاب دمشق وشعراؤها؟ وأين هي منتجاتهم الأدبية؟ وهل يكفي الشاعر أن يقول كل خمسة أعوام قصيدة واحدة تضطره إليها المناسبات اضطراراً، ثم لا يكون فيها أثر من نفسه، ولا تصف شيئاً من عواطفه؟ وهل يكفي الكتاب أن ينشر كل عامين مقالة تطلب منه، أو مقدمة كتاب يسأل كتابتها؟ بل هل يستطيع أن يملك لسانه الشاعر فلا يقول شيئاً وهو يرى كل يوم ما ينطق الصخر بالشعر من مصائب الأمة ونكباتها، بل وهمومه هو ومصائبه وما يشاهده في حياته في بيته، وحياته في عمله؟. . أليس في حياته سرور وألم، وأمل وقنوط، وضحك وبكاء؟ أفيضحك الشاعر فلا يغني، ويبكي فلا ينوح، وتهز قلبه الحادثات فلا يقول شيئاً؟ أنا لا أستطيع أن أتصوَّر كاتباً أو شاعراً، لا يكتب ولا ينظم، وكل ما حوله يهيج نفسه، ويثير عاطفته. . .
إن أدباءنا يحتجون بأنهم لا يجدون مكاناً ينشرون فيه، وإذا لم يجد الأديب سبيلاً إلى النشر ضعفت همته، وانكسر نشاطه، ولم يجد حافزا إلى العمل، لأن فقد عنصر النشر من أكبر الأسباب في هذا الركود الأدبي. . . وهذا صحيح لا غبار عليه.
وليس في دمشق مجلات أدبية، إلا مجلة صغيرة اسمها (الطليعة) يصدرها نفر من الشباب المثقفين الذين يحملون الشهادات العالية من أكبر معاهد أوربا، ولكن لها منحى خاصاً لا يرضى عنه الناس كلهم، وهي تمشي بخطى مضطربة. وربما اضطر أصحابها إلى إغلاقها كما اضطر من قبل أصحاب (الثقافة) إلى إغلاقها، برغم أن أصحابها من صفوة أدبائنا ومفكرينا، كخليل مردم بك وجميل صليبا وكاظم الداغستاني؛ ثم إن الجرائد اليومية لا تعنى بالأدب عناية كبيرة، ولا تخصص له صفحات دائمة تنفق عليها بسخاء، وإن هذه الصفحات الأدبية التي تزيَّن بها صدور بعض جرائدنا اليومية صفحات فارغة، لا أظن أن أحداً ممن له صلة بالذوق الأدبي يرضى عنها، وما أظن أن أصحاب الجرائد والقائمين عليها يرضون عنها، أو يجدون فيها وفاء مما يؤملون. وإذا ألَّف الأديب كتابا أو قصة لم يجد الناشر، وإذا أنفق عليها من ماله لم يشترها أحد، لأن دمشق بلد تقرأ كثيرا ولكنها لا تشتري؛ وهذه مجلة (الرسالة)، لا تجد في دمشق أديباً أو متأدباً إلا اعترف لك بأنها خير مجلة أخرجت للناس، وأن العالم العربي لم يعرف مجلة مثلها منذ أنشئت أول مطبعة في مصر، ولا تجد أديباً أو متأدبا إلا وهو ينتظر يوم الثلاثاء ليقرأ الرسالة، وبعد ذلك كله يباع من أعداد الرسالة في دمشق كلها أقل من خمسمائة عدد. . .
هذه حجة الأدباء في تقاعسهم عن النشر، وهي كما ترى حجة مقبولة، ولكنك إذا سألت القراء لم لا يشترون، احتجوا بأن الأدباء لا ينشرون، وإن تقاعسهم وكسلهم علم القراء الزهد في الآثار القيمة والانصراف عن شرائها.، وأنه لابد من أن يضحي الأدباء بقسط من أموالهم وشهرتهم حتى يستعيدوا القراء الذين فقدوهم. على أن الذنب في رأيي ذنب المدارس والمدرسين، لا ذنب الأدباء ولا ذنب القراء، فليس في الشام اليوم من دروس الأدب إلا هذا المقدار القليل الذي يتعلمه الطالب في مقرر البكالوريا. وهذا المقدار لا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، ولا يصنع شيئاً أكثر من تبغيض الطلاب في الأدب، وتسويده في أعينهم، ذلك لأن شعب الأدب في صفوف البكالوريا تسير في طريق عوجاء أبعد ما تكون عن بث الملكة الأدبية في نفس الطالب. وكيف تكوِّن الملكة الأدبية طائفة من أخبار الشاعر وأشعاره يستظهرها الطالب من غير أن يفهمها غالباً، ويحتفظ بها دماغه إلى يوم الامتحان، فإذا أدَّاه ونال الشهادة أهملها، أو دخله الغرور فظن أن معنى (بكالوريوس في الآداب) كاتب أو أديب، فزهد في المطالعة، وانصرف عنها أو طالع ما يقع تحت يده من الكتب والمجلات حتى ابتلى بسوء الهضم، وأصيب بالتخمة العقلية. . . فترْك القراءة وذهب إلى الندَّى (القهوة) يقطع عمره في النرد والشطرنج ثم يعمد إلى الكتابة في موضوع علمي أو فلسفي دوَّنت فيه عشرات المجلدات من غير أن يقرأ منها شيئاً. . .
ثم إن طلاب شعب الأدب في صفوف البكالوريا لا يستطيعون أن يستعينوا بالثقافة العامة التي يتلقونها في المدرسة، ولا يعرفون كيف يستفيدون من علم الغريزة (الفسلجة) أو علم النفس أو التاريخ في بحوثهم الأدبية ولا يعرفون شيئاً من مناهج النقد، وقواعد التحليل الأدبي، لا لأن الطلاب كسالى أو بلداء، فالطلاب يدرسون الأدب الفرنسي فيسيغونه، ويدرسون الرياضة فيفهمونها، ويدرسون أشياء كثيرة غير هذه يضيقون ببعضها ويتبرمون به، ويقبلون على بعضها ويحبونه، ويجدون لذلك كله أثراً في نفوسهم، فإذا جاء الأدب العربي وجدت أكثر الطلاب لم يلذَّوه ولم يبق في نفوسهم أثراً.
وسبب ذلك أن أكثر المدرسين عاجزون عن أداء هذه المهمة التي انتدبوا أنفسهم لها، أو اندبهم لها من بيدهم مقاليد الأمور، لشهرتهم الأدبية أو لشهادتهم العالية، أو لشيء غير ذلك له صلة ضعيفة، أو لا صلة له بالأدب قط. وأكثر المدرسين اليوم بين رجلين: رجل ثقف الأدب العربي القديم ثقافة حسنة، وضرب بالسهم الوافر في علوم العربية نحوها وصرفها، وبلاغتها وعروضها، ونقدها وروايتها، وحفظ أيام العرب وأمثالهم واستطاع أن يفهمها حق فهمها، وينقدها نقد بصير بها، ولكنه عجز عن أن يدرسها ويدرس رجالها دراسة تحليلية صحيحة لجهله الآداب الأجنبية، وجهله قواعد النقد الحديث.
ورجل درس الآداب الأجنبية أو واحداً منها دراسة عميقة، وعرف مناهج البحث، ومذاهب النقاد، وأحسن نقلها إلى الأدب العربي، ولكنه عجز عن فهم الشعر العربي، وجهل علوم العربية، فغدا لا يستطيع إدراك معنى النص العربي فضلا عن نقده أو الحكم عليه.
ثم إن أكثر المدرسين من غير رجال الأدب؛ وإن فيهم من لم يعرفه الناس شاعراً مطبوعاً، ولا كاتباً مجيداً، ولا ناقداً بصيراً، ولا أكثر من ذلك ولا أقلّ. فكيف لعمري نطلب منه غرس الملكة الأدبية في نفوس الطلاب؟ إن مثل هذا الطلب هدم للمنطق الذي يقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه.
هذه قيمة الحياة الأدبية في الشام؛ وهذا موطن الضعف فيها؛ فلا صلاح لها إلا بتقويته، ولا نجاح لأمة لا تسخّر أدبها لخدمة قضيتها. فهل يبدأ في حياتنا الأدبية (عهد الإصلاح) المنتظر؟
علي الطنطاوي