الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 136/أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر

مجلة الرسالة/العدد 136/أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر

مجلة الرسالة - العدد 136
أزمة أوربا الدينية في العصر الحاضر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 02 - 1936


بقلم محمد جلال

يخيل إلينا - كما يرى الكثيرون - أن التصوف هو أظهر حالات النفس وأقدرها على محاسبة الضمير وكشف حقيقته. قال ابن خلدون: (وأصله - أي التصوف -. . . طريقة الحق والهداية) وقال أيضا: (ويتم (بالمجاهدة) وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك) وقال الأستاذ لاَلَنْد:

. , ? ' ' ,

أي أن التصوف هو اعتقاد في إمكان حصول اتحاد تام مباشر بين الروح وحقيقة الإنسان. وقال الفيلسوف بِرْجِسون:

? ' , '

ومعناه أن الصوفي الحقيقي هو الذي يتخطى حجاب الحس الذي وضعته الطبيعة البشرية ليواصل بذلك العمل الإلهي.

يتضح من ذلك أن التصوف يحقق شرطي الدين وهما الاعتقاد والعمل. فتلاحظ إذاً أن معظم المتصوفة قد نشأوا في بيئة دينية إلا القليل منهم من ظل يعمل بعيدا عنه في الظاهر. ولما كان للروح العلمية اتجاه يختلف عن الاتجاه الديني في كثير من أغراضه وميوله، مال العلماء إلى التخلي عن الدين ورميه بالنقص. لهذا سنقصر بحثنا الآن على حقيقة الإيمان مع اتصاله بالعلم والفلسفة والتاريخ.

1 - العلم:

أحدث تقدم العلم في القرن التاسع عشر اضطرابا في الحياة الدينية أفضى إلى تمحيص الدين على ضوء القوانين العلمية. من ذلك لوحظ أن نظرية خلق العالم في سبعة أيام - كما هو وارد في معظم الكتب المقدسة - لم تتفق وقوانين العلم الكوني.

فإن اليهودية والمسيحية والإسلام ومعظم الأديان الأخرى نشأت كلها في الشرق فمن المحتمل إذا أنها تكاد تتحد في فكرة علمية واحدة. في فلسطين مثلاً ساد الاعتقاد قديماً أن الأرض محاطة بطبقة صلبة معلقة فيها الكواكب يعلوها عرش الله الذي يثبت الأرض وما عليها وهو منفصل عنها؛ ولكن علم الفلك أثبت أن العالم لا نهاية له، فيكون عرش الله واقعاً في حيز العالم تجرى عليه سنة هذا الوجود من حركة وسكون. أدى هذا الخلاف إلى رأيين: الأول اتحاد العلم والدين، والثاني انفصالهما

أما الرأي الأول فانه يقرر - على رغم ظواهر الأشياء وما في الكتب المقدسة من اختلاف - أن هناك صلة بين العلم والدين يسهل تحديدها إذا اتفق العلم والدين على معاني الكلمات؛ ففي المثال السابق مثلاً جاء في التوراة أن معنى كلمة يوم: مدة مقدارها عصر لا أربعاً وعشرين ساعة كما نعتقد نحن اليوم؛ على هذا الاعتبار تكون الأرض قد تم تكوينها في ستة عصور - وهذا هو رأي علماء الجيولوجيا.

ويقول الرأي الثاني إن للعلم والدين أسباباً ودواعي خاصة بكل منهما، وقد يتفاوت محيط أحدهما بالنسبة لمحيط الآخر دون أن يتعارضا في شيء. فمقتضى الدين اعتقاد وأمر ثم عمل؛ وأما مقتضى العلم فكشف قوانين هذا الوجود - بما في ذلك الإنسان - وتحقيقها بالطرق التجريبية. وليس من العلم في شيء أن تحمل الجماعة على اتباع هذا النظام أو التخلي عن هذا العرف.

يستوي عنده البار والفاجر؛ وبعكس ذلك الدين، فانه حب وعاطفة ومفاضلة بين البار والفاجر؛ فهو لذلك ضرورة للنظام الاجتماعي، وهذا رأي برجسون في كتابه المشار إليه آنفاً.

أفي ذلك طمأنينة للنفوس؟ قد يكون ذلك. . ولكن ظاهر الشيء غير حقيقته؛ إذ النفس لا تعرف السكون الذي يُزيَّن لها التخير بين طريق وطريق؛ فهي إن خضعت للدين بالأمس فذلك من طبيعتها، وإذا خضعت للعلم اليوم فذلك أيضاً من طبيعتها. وقد لا تخضع غداً لا لهذا ولا لذاك، وعليه فإن هذا التقسيم لم يحقق مأرباً.

2 - الفلسفة:

أما في الفلسفة فالنزاع قائم بين أنصار مذهب الفكر وبين أنصار مذهب العمل يقرر الفكريون أن الذكاء هو خير وسيلة لفهم الحقيقة الواقعة، وفي رأي العمليين أنه وسيلة لتكوين صور لأعمالنا نستعين بها على فهم الأشياء.

فعند الفكريين (أي معظم فلاسفة الغرب والفرنسيين منهم خصوصاً يتقدمهم ديكارت) تتعين الحقيقة بنفسها؛ وليس في مستطاع الفرد - مهما كانت قدرته - أن يحددها دفعة واحدة، ولكننا نقرب منها شيئاً فشيئاً مع وفرة مجهودنا الفكري خلال العصور المتطاولة. كان العلم عند اليونان مثلاً مبادئ وأوليات، وقد ترقى بعض الشيء عند العرب، وفي عصر النهضة بأوربا، ومازال يرتقي وستخلص أسسه من شوائب كانت سبباً في تغيير معالم الحقيقة التي لم تغير جوهرها بالنسبة لحاجة الإنسان.

ويرى آخرون أن ليس للحقيقة وجود ذاتي، فهي محض فكرة دعت إليها حاجة الإنسان. فعند اليونان تدل كلمة حقيقة على شيء نسبي - أي أن حاجة الإنسان الفكرية تتطلب حقائق مختلفة حسب الزمان والمكان، وهي بدورها تحقق رغبة علمية واحدة؛ وبما أن حاجة الإنسان غير ثابتة فتكون تلك الحقيقة أيضاً غير ثابتة، وذلك لاختلاف وسائل تحقيقها. فمطرقة الحداد مثلاً كانت حقيقة في الماضي - كذلك مطرقة النجار هي حقيقة اليوم، ورغم ما أثبته العلم والعمل حتى عهد قريب من صحة نظرية نيوتن الخاصة بتجاذب الأجسام، فان أبحاث اينشتين تثبت حقيقة أخرى بعد ما هدمت الأولى؛ أعني أن هناك تناسباً خاصاً في الحياة الفكرية لكل عصر؛ ولا غضاضة إذا أقبلنا بجميع جهودنا على تلك الحقيقة المتغيرة فهي لم تتحدد بغير منفعتها.

مثل وليم جيمس هذا الرأي في أمريكا - وأخذ برجسن ببعض منه، أي الجزء الخاص بتطور الفكر، وتبع المسيو ادوارلروا أستاذه برجسون في ذلك إذ رأى أنه يصعب على الرجل العملي فهم الدين من الوجهة المنطقية. وعليه فان عبارة (الأب والابن وروح القدس) معناها تصوير حقيقة واقعة تنشأ عن ارتباط الفرد بغيره. ويقال مثل ذلك في تفسير وجود عبادة الله وحده - أي كونه ماثلا حقيقة روحاً ودماً (عقيدة سر القربان عند المسيحيين)؛ ويراها آخرون أنها صيغة أمر، أي وجوب تصور حالة العبد أمام ربه كما يجب أن يكون عليها أمام إنسان يرى فيه أصل الحب والتقديس. هو أصل اليقين والشعور الطاهر، وقال بمثل ذلك الأب بالمعهد الكاثوليكي بفرنسا في إحدى جلسات مجمع باريس الديني الأخير إذ رأى أن أوضاع الدين لم تكن غير نواميس للحياة.

3 - التاريخ

شك علماء التاريخ في مصادر التوراة، لأن فيها أجزاء وضعها قديسون، وقد نُقحت من بعدهم. وللآن لم يستقر الأمر على معرفة كيفية حصول ذلك لعدم توفر الوثائق التاريخية الكافية؛ فلا يبعد إذن أن يكون قد وقع فيها بعض التغيير أو الحذف. مثال ذلك أسفار موسى الخمسة فانه لم يزل أمرها غامضاً حتى اليوم. يوجد عدا هذا بعض تناقض في الآيات من حيث الصورة والمعنى. آمن عيسى عليه السلام في عودته ثانية إلى الأرض، وإن الساعة آتية قبل أن ينقضي العهد الذي نزل هو فيه.

يلاحظ هنا تباين نشأ عما رمز إليه في التوراة من أعمال دنيوية، إذ انقضى عهده وانتهى النظام الوراثي للملك وهو لم يعد بعد. أدى هذا الاعتراض إلى أحداث انشقاق في الكنيسة الكاثوليكية في أواخر القرن التاسع عشر. أخذ رجال الكنيسة من جديد يدرسون الإنجيل من حيث التاريخ والجغرافيا والتشريع، وقد قضى الأب لوازي حياته في التوفيق بين الدين والتاريخ.

نشأ عن تلك الحركة اتجاه جديد في الرأي سمي بمذهب (المثل الاعتقادي) يرى أخذ الأشياء على أنها أمثلة بسيطة شأنها أن تحدث معتقدات تتناسب مع قوة إيمان الفرد؛ فيكون مرمى نظرية نزول المسيح تحديد قيمة مثلى.

على رغم كل ذلك ما زال في النفس بقية تدعوها إلى كشف معتقد جديد وحقيقة أخرى، فيرى برجسن وهنري بوانكاريه أن العقل غير كاف وحده لكشف الحقيقة التي دأب وراءها الإنسان منذ نشأته. فلا بد له أن يتبع هدى روحه كما فعل أفلاطون وغيره.

ويرى أوجست كنت وأتباعه أن الدين نظام اجتماعي قابل للتطور مثل الجماعة في تاريخها من تشريع وأخلاق. ويرى الأستاذ شارل مورا الدين الكاثوليكي لإصلاح النظم الاجتماعية في فرنسا لما فيه من عناصر السلام

ما هي حالة الفرد النفسية إزاء ذلك الانقسام؟

عبر علماء النفس عن ذلك بأنه شعور جديد بشخصية الفرد يدعوه إلى تحديدها من حيث اتصاله بالجماعة، ومن حيث اتصاله بنفسه، مما أدى إلى ترك بعض المعتقدات والتمسك بأخرى. ولما كانت الجماعة تحمل في ماضيها عناصر مدنيات مختلفة فهي إذاً الدافع إلى هذا الشعور في الفرد. ويختلف الأفراد في قبول ذلك حسب استعدادهم النفسي، وهذا ما نشاهده في القديس بولس إذ اضطربت نفسه متأثرا بعصره، فخرج على الدين ثم عاد إليه متحمساً لتجديده، وذلك بالدرس والمجاهدة النفسية.

يرى بعض رجال الدين أن مثل هذا النوع من المجاهدة محاولة من العبد أن يتصل بالله ليظفر بالغفران. ولكن بعض أتباع لوثر ليسوا في حاجة إلى ذلك، إذ الغفران في رأيهم ملك للجميع، وثقتهم بالله عظيمة لتوزيع هذا الغفران، فلم يكن عندهم إذا هذا النوع من المجاهدة.

وهناك فريق آخر يقال لهم الوصوليون وغايتهم فعل الخير لأنهم مجبرون عليه، وهذا عمل خلو من الشعور بالاتجاه نحو الله كما رأى ذلك رينان

عرضنا في تلك الكلمة الموجزة نشوء بعض تطورات الدين بأوربا، مما يدعونا إلى الاعتقاد أن هناك عوامل أخرى أدت إلى تلك الاختلافات الطائفية غفل عنها رجال الدين والفلاسفة، وهي التي دعت علماء الاجتماع للتعبير عنها بطريقة أخرى غير ما سبق. وذلك موضوع كلمتنا القادمة.

باريس

محمد جلال

بجامعة باريس