مجلة الرسالة/العدد 134/في الحب أيضا
→ ريح التعصب الجنسي تهب على أوربا | مجلة الرسالة - العدد 134 في الحب أيضا [[مؤلف:|]] |
رفعة المرأة ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1936 |
ً
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
كتبت إليّ سيدة أعرفها فاضلة لبيبة تسألني عن الحب كيف أقول فيه ما قلت؟ وعن المرأة كيف أبسط لساني فيها كل هذا البسط؟ وعن الحب الأفلاطوني ماذا ترى رأيي فيه؟ وختمت كتابها باتهام الرجال بقلة الوفاء، وبالغدر وكثرة التقلب
وقد استخلصت من كتابها أن مقالي الذي تفضلت بنشره (الرسالة) لم يصادف منها ارتياحاً ولم يلق قبولاً. ولست استغرب هذا، أو أنكر عليها امتعاضها، فإني أعرف أن كل رأي فيه من الهوى أثر؛ والمرء يميل بمزاجه إلى ما هو أحب إليه من الآراء وأكثر موافقة أو مجاراة لهذا المزاج؛ وما يزال الإنسان يوحي إلى نفسه حتى يصير الأمر عنده عقيدة راسخة لا تتزعزع ولا يسهل زحزحته عنها؛ ولو أن إنساناً استطاع أن يتبين مبلغ أثر الإيحاء الذاتي في آرائه لهاله ذلك، ولذهب إيمانه بالعقل وقدرته على النظر المجرد، ولأيقن أنه ما من رأي إلا وهو وليد عاطفة، فمولد عاطفة؛ والإنسان يعيش بالطبع أكثر مما يعيش بالعقل. واحسبني لا أخطئ جداً حين أقول إن عقل كل فردٍ يصب في قالب من طباعه، فليست هذه التي نفكر بها (عقولاً)، وإنما هي طباع وأمزجة اتخذت صوراً مزورة؛ وأصل الخطأ أنّا سميناها (عقولاً) فصار لها في وهمنا، على الأيام، استقلال لا وجود له
وليس الذي نشرته لي (الرسالة) رأياً في الحب، وإنما هو بيان لحالات يجر إليها، ومواقف يستدعيها، ولا أرى لي صبراً عليها؛ أما الحب فليس لغزاً، وما على من يريد فهمه على الوجه الصحيح إلا أن ينضو عنه كل ما خلع عليه الشعراء ولفوه فيه، حتى أخفوه وحجبوه؛ وليس هذا كل ما جنى الشعر، وما هو إلا بعض ما مسخ من حقائق الحياة. والشعراء كالكهان الأقدمين - دأبهم التهويل على الناس وإيهامهم أنهم وحدهم دون خلق الله أهل العلم والإحاطة والبصر والاتصال بالحقائق العليا والأسرار المحجوبة - لا، بل الشعر ضرب من الكهانة، ومظهر من مظاهرها - أي نوع من الدجل. ولا نكران أن الشاعر والكاهن يبدأن مخلصين صادقي السريرة - وكذلك كل غرير قبل أن يجرب - ولكن الأمر يتحول شيئاً فشيئاً إلى صناعة، فلا تصدق من يقول لك إن الشاعر يظل عمره - إلى آخره - طفلاً كبيراً، فإن هذا ليس إلا بعض دجل الشعراء - أو هو بعض ما يوحون إلى نفوسهم ويلحون به عليها ليكونوا أقدر على الدجل، والدجال يحتاج إلى اكتساب (مظهر) الإخلاص ليستطيع إقناع الناس. وقد رأيت في زمني دجالين كثيرين كان أبرز صفاتهم قدرتهم على مغالطة أنفسهم بالإيحاء إليها؛ والشعراء أبرعهم جميعاً لأنهم ألح على نفوسهم، وأكثر استلهاماً منها، وسبباً للتأثير فيها، ودؤوباً على مناجاتها
أعود إلى هذا الحب فأقول إنه ليس فيه سر، فهو ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع كما تنبهنا بالجوع، فنبغي ما نحافظ به على ذواتنا. وعلى ذكر الجوع أقول إني أذكر أني أيام كنت أقول الشعر نظمت قصيدة نشرت في الجزء الأول من ديواني وفيها أن الحب أصاب مني (شبعه) فاستبشعها صديق لي أكبر رأيه وذوقه، وأنكر عليّ أن أذكر (الشبع) في معرض كلام على الحب، فوافقته على رأيه، ولكني تركت البيت على حاله، عجزاً عن تنقيحه، أو إهمالاً؛ ولولا أني أرفض شعري كله لقلت إني الآن أراني أحسنت
فالحب - كالجوع - اشتهاء، أي إيذان بأن الجسم يطلب أن تسد له حاجة، وليس الطعام هو الغاية من الأكل، بل ما يفيده من الصحة والقوة واستمرار الحياة؛ كذلك ليست المرأة هي الغاية من الحب، بل ما تعين عليه من بقاء النوع بالإنتاج؛ وكما أن المرء يغلط فيأكل ما لا خير فيه ولا صحة تستفاد منه ولا قوة، بل ما لعله يضر ويورث المرض، كذلك يغلط الإنسان فيحب ما لا يحقق الغاية التي ترمي إليها الطبيعة. والمرء يكون مترفاً في حبه كما يكون مترفاً في طعامه وملبسه وما إلى ذلك؛ ومن الناس من يأكل طعامه جرفاً، والمبطان الذي لا ينتهي منه، والمخلّط من صنوفه والمستقصي لها، والقَرون الذي يأكل لقمتين، والذي يكره معدته على الزيادة بعد الشبع، والذي يسرع في الأكل كراهة لطول الجلوس له، والذي يضع يده على ما أمامه لئلا يتناوله الغير، والذي يجيل اللقم ولا يمضغها، والذي يلوك، والذي يأكل نصف اللقمة ويرد نصفها، والزهيد القليل الأكل، والمريض، والضعيف الاشتهاء، والمتعجّف. وكذلك أرى الناس يكونون في حبهم، بل الإنسان الواحد يكون مرة هكذا، ومرة هكذا؛ والتوابل وما إليها لازمة للحب أحياناً لزومها للطعام؛ واللحم هو هو كيفما طبخته، ولكنه تارة يكون أشهى مشوياً، وتارة أخرى يكون ألذ وهو مسلوق، أو مقدد أو مشرح أو معلق في السفود، أو مخلوط بالرز أو البيض أو الخضر أو غير ذلك؛ وقل مثل ذلك في غير اللحم من الآكال فما أردنا إلا التمثيل؛ وكذلك المرأة، فمن كانت يعنيها أن يبقى حب الرجل لها أطول زمن ممكن، فلتكن على كل لون وعلى كل صورة تُشتهى
ولا أحتاج بعد هذا أن أقول: إني لا أومن لا بالحب الأفلاطوني ولا بالوفاء، ولست أعني أني استهجنهما أو أعيبهما، فليس الأمر أمر استهجان أو عيب، وإنما أعني أنهما لا يوجدان مع الصحة والسلامة؛ وإذا كان من الممكن أن يشبع الجائع بالنظر إلى الطعام في أطباقه على السفرة، وأن يحيا المرء بأن يأكل بعينه أو خياله، فإنه يكون من الممكن أيضاً إرضاء عاطفة الحب عند الرجل السليم المعافى بالنظر إلى المرأة والاستماع إلى حديثها والتمتع بابتسامتها ورشاقة وقفتها أو حسن جلستها. والذي يقنع من المرأة بذلك يكون أحوج إلى الطبيب المداوي منه إلى المرأة.
أما الوفاء فأكرم به وأنعم! ولكن أين في دنيانا من يصبر على طعام واحد وفي وسعه ألا يفعل؟ وأقول (من يسعه ألا يفعل) وأنا أعني ما أقول، فما يلتزم الوفاء إلا من يعجز - بسبب ما - عن خلافه. وأسأل القارئ وأعفيه من الجواب العلني: أي رجل لم ينقض عهداً بالوفاء بالفعل أو بالنية أو بالخاطر أو بالخيال - على حسب الأحوال؟ والمرأة كالرجل وشأنها كشأنه. وكذاب من يقول - وكذابة من تدعي - غير ذلك. ولست أدعو إلى شيء - وحاشا أن أفعل - ولكني أصف واقعاً، وأقر حقاً لا يكابر فيه إلا منافق يريد أن ينتحل فضلاً على حسابي وحساب الحقيقة. والذي يجعل الوفاء مستحيلاً في الواقع أن الحياة قائمة على التحول لا على الثبات، والمرء يتغير حتى ليمكن أن يقال أنه يخلق كل يوم خلقاً جديداً مولداً من الخلق السابق أو أنه يموت ويجيء غيره باسمه؛ وكل يوم يحياه هو يوم ماته، وبعث بعده كرة أخرى في صورة تخالف الأصل من بعض الوجوه. وقد شرحت هذا من قبل في مقالات شتى في (البلاغ) (والأهرام) ولا أذكر أين أيضاً، فلا أعيد هنا ما قلت. . . . . .
وليس هذا رأياً جديداً لي، فقد نظمت فيه شعراً كثيراً نشر بعضه، ولن ينشر البعض الآخر؛ وأذكر مما نشر هذه الأبيات:
أكلما عشت يوماً ... أحسست أنيَ متُّهْ
(من قصيدة الملل من الحياة) إني أراني قد حلتُ وانتسخت ... مع الصبي سورة من السور
وصرت غيري فليس يعرفني ... - إذا رآني - صباي ذو الطرر
ولو بدا لي لبت أنكره ... كأنني لم أكنه في عمري
كأننا اثنان ليس يجمعنا ... في العيش إلا تشبث الذكر
مات الفتى المازني ثم أتى ... من مازن غيرُه على الأثر
(من قصيدة كأس النسيان)
هذه كفي على خون العهود ... لا على الرعى - فهذا لا يكون
إنها دنيا كِذاب وجحود ... ولصدق النفس أولى - لو يهون
هذه كفيِ على وشك الملال ... كل نار سوف يعلوها رماد
آهِ لو أستطيع تصديقَ الخيال! ... أو يكون الجهل شيئاً يستفاد
يا عقيدي طامن الله حشاك! ... لن تراني شاكياً وهْيَ حبالك
أين من طينتنا - أين - الفكاك؟ ... أنت إنسان على فرط جمالك
(من قصيدة معاهدة غرامية)
وحسبي هذا القدر، وعسى أن يكون كافياً في جواب السؤال
إبراهيم عبد القادر المازني