الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 134/ريح التعصب الجنسي تهب على أوربا

مجلة الرسالة/العدد 134/ريح التعصب الجنسي تهب على أوربا

مجلة الرسالة - العدد 134
ريح التعصب الجنسي تهب على أوربا
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 01 - 1936


بقلم باحث دبلوماسي كبير

مضى الآن أربعة أشهر على نشوب تلك الحرب البربرية التي تضرم إيطاليا نارها في الحبشة باسم الاستعمار والمدنية؛ والحبشة ترد هجمات المعتدين عليها بشجاعة وجلد يثيران إعجاب العالم وعطفه؛ والعدو المغير يتخبط في غمر فادحة من الصعاب والخيبة واليأس، ويرتد شيئاً فشيئاً عن الأرض التي احتلها في البداية دون مقاومة، وظن أن احتلالها مقدمة للظفر الشامل

وقد سنحت لإيطاليا المعتدية أكثر من فرصة للفوز بقسط معقول من أسلاب الفريسة، قبل أن تصطدم بأية مقاومة حقيقية، وقبل أن ينكشف ضعفها وعجزها عن تحقيق أطماعها الفادحة بالقوة القاهرة؛ ولكنها لم تحسن انتهاز الفرصة وذهبت بعيداً في غلوائها وتحديها، ولم تحسن تقدير المقاومة السلبية الدولية التي استطاعت السياسة البريطانية أن تنظمها ضدها على يد عصبة الأمم، والتي أملت تنظيمها على السياسة البريطانية بواعث حيوية خطيرة تتعلق بسلامة الإمبراطورية وتأييد سيادتها في البحر الأبيض المتوسط، وفي وادي النيل وشرق أفريقية؛ بيد أن إيطاليا استطاعت بسياستها العنيفة وما تحمل في ثنيتها من احتمال إضرام نار حرب أوربية، أن تحمل السياستين الفرنسية والبريطانية على وضع مشروع للصلح، يقضي في الواقع على الحبشة بالإعدام كأمة مستقلة، ويحقق لإيطاليا السيادة الفعلية على معظم أراضيها، ويتوج حملتها الاستعمارية بظفر شامل لم تستطع أن تنال منه شيئاً بالحرب؛ ولكن المقاومة الحبشية كانت قد بدأت عندئذ تحدث أثرها في وقف الزحف الإيطالي، وظهر عجز إيطاليا وضعفها جلياً، واستقبل العالم مشروع الصلح بالاستنكار والسخط، ورفضته الحبشة بتاتاً، فلم يلبث أن قضي عليه في مهده؛ وكانت فضيحة دولية حقيقية أصابت هيبة السياسة البريطانية، واضطرت أن تتراجع أمامها بسرعة وأن تعود إلى موقفها الأول

وقد عرضنا من قبل إلى ذلك التطور المدهش في سير الحرب الحبشية، وأشرنا إلى بعض العوامل التي يظن أنها كانت سبباً في تحول السياسة البريطانية؛ ومنها ما يقال من أن مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية استطاع أن يقنع السير صمويل هور وزير الخارجية البريطانية المستقيل بأن تعريض الحملة الإيطالية للفشل، وتمكن الأحباش من إحراز نصر حاسم على البيض مما يعرض سيادة الدولة الأوربية في أفريقية للخطر، ويصدع من صرح أوربا الاستعماري كله، ويبعث في الشعوب السوداء أو الملونة رغبة الانتقاض والمقاومة، وذلك ليس من مصلحة بريطانيا التي تحكم مئات الملايين من الشعوب الملونة في أفريقية وأسيا

ومما يلاحظ أن هذه النغمة الجنسية تقوى وتشتد في أوربا يوماً عن يوم، وأن الدوائر والصحف الاستعمارية أخذت تضرب عليها بطريقة منظمة، وخصوصاً بعد الانتصارات المتوالية التي أحرزها الأحباش على الإيطاليين في الأسابيع الأخيرة، مما يدل على إنها قد أخذت تحدث أثرها في تكييف السياسة الاستعمارية الأوربية: بيد أنه مما يلاحظ أيضاً أن هذه النغمة التي بعثتها الحرب الحبشية من رقادها ليست سوى ناحية واحدة من نواحي الفورة الجنسية العامة التي اشتدت بوادرها في أوربا في الأعوام الأخيرة، والتي ظهرت بصورة جلية في كثير من المناسبات السياسية والدولية

وقد نرجع إلى الوراء قروناً إذا حاولنا أن ندرس كل التطورات التي مرت بها تلك النزعة الجنسية الأوربية؛ فتاريخ هذه النزعة هو تاريخ الصراع بين الشرق والغرب وبين الإسلام والنصرانية؛ ولكننا نكتفي بأن نعرض إلى أحدث طور من أطوارها، وهو الذي نرى اليوم آثاره ماثلة في سياسة أوربا العامة، وفي السياسة المحلية لبعض الدول الأوربية. وفي وسعنا أن نقول إن هذا الطور الحديث من هذا الصراع الجنسي يرجع إلى الحرب الروسية اليابانية في سنة 1904، فقد كانت الفكرة الجنسية تجثم قوية وراء هذا الصراع بين دولة أوربية عظمى وبين دولة آسيوية استطاعت أن تنفض عنها غبار الماضي بسرعة وأن تتبوأ مكانتها بين الدول القوية؛ ومع إن أوربا كانت تسيء الظن بمقدرة روسيا القيصرية واستعدادها، فإنها لم تكن تتوقع أن تصاب الجيوش والأساطيل الروسية بمثل ما أصيبت به من الهزائم الساحقة، وأن تحرز اليابان ما أحرزت من نصر باهر

ولكن اليابان خرجت من تلك الحرب ظافرة قوية، وكان من نتائجها أن بسطت سيادتها على أقاليم شاسعة من الصين؛ وحدث لأول مرة في التاريخ أن انتصرت دولة آسيوية على دولة أوربية عظمى؛ ولهذا استقبلت أوربا انتصار اليابان في دهشة وروع، واستقبلته مقروناً بصيحة الخطر الأصفر؛ ولما سما شأن اليابان بعد الحرب الكبرى وضاعفت جهودها في سبيل التوسع الاستعماري في الصين، وكشفت عن نيتها في مقاومة النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، مستترة بشعار الجامعة الآسيوية، واستطاعت في الأعوام الأخيرة أن تبسط سيادتها تباعاً على منشوريا وأقاليم أخرى من الصين؛ زادت أوربا شعوراً بما تسميه الخطر الأسيوي، أو الخطر الأصفر إشارة إلى تفوق اليابان أو الجنس الأصفر؛ وما ينذر به من تحطيم النفوذ الأوربي في الشرق الأقصى، والحلول مكان الدولة الأوربية في استعمار الشعوب الآسيوية التي وقعت تحت سيادتها.

وهذه النعرة الجنسية تشتد اليوم في أوربا وتتخذ صوراً محلية إلى جانب صورتها العامة. ففي ألمانيا الهتلرية مثلاً تتخذ نظريات الجنس والسلالة أهمية خاصة، وترتب عليها مزاعم مدهشة، ويبدو أثرها جلياً في اضطهاد اليهود ومطاردتهم بأساليب عنيفة منظمة، وفي الدعوة القوية إلى بغض الأجناس السامية والشرقية واحتقارها واعتبارها أجناساً منحطة لا يليق أن تتبوأ مكانها مستقلة أو حرة، ووجوب إخضاعها واستغلالها بواسطة الشعوب الآرية الأوربية؛ ويزعم هتلر ودعاته أن الجنس الجرماني هو أشرف أجناس الخليقة، وأعظمها في الخواص والخلال، وينكرون على الشعوب السامية والشرقية بوجه عام أنها ساهمت أو تستطيع أن تساهم في إنشاء الحضارة؛ بل يذهبون في غلوهم إلى اعتبار أن اليابان أمة مقلدة لا يصح أن توضع في مصاف الشعوب العظيمة المبتكرة، إلى غير ذلك من المزاعم التي تنم عن تعصب جنسي عميق؛ ونرى مثل هذه الريح الجنسية تعصف بأمم ثانوية مثل بولونيا والمجر ورومانيا، وتتخذ صورتها في اضطهاد اليهود ومطاردتهم. أما الصورة العامة التي تتخذها النعرة الجنسية اليوم في أوربا، فتظهر جلياً في أمرين: الأول صيحة الخطر الأصفر، وذلك لمناسبة توغل اليابان في الصين وتوجس الدول الأوربية من مطامع اليابان وخوفها من انهيار سيادتها الاستعمارية في الشرق الأقصى، وقد أخذت تنهار فعلاً بتخلي روسيا عن مصالحها القديمة في منشوريا؛ والثاني في صيحة البيض والسود التي ذاعت لمناسبة الحرب الحبشية الإيطالية، وقصور إيطاليا في إدراك غايتها الاستعمارية بعد أن لبثت طويلاً تنظم قواها وبعد أن جردت على الحبشة نحو ثلث مليون جندي مجهزين بأحدث الأسلحة والمخترعات المهلكة؛ وهذه الصيحة تشتد اليوم في البيئات والدوائر الاستعمارية كلما اشتدت مقاومة الأحباش وزاد عجز إيطاليا وضوحاً، وبدا إزاء ما يحرزه الأحباش من انتصارات متوالية أن مغامرة إيطاليا الاستعمارية ستمنى بالفشل الذريع. وهذه النغمة هي التي يضرب عليها اليوم غلاة الاستعماريين الذين يشدون بأزر إيطاليا تحقيقاً لغايات السياسة القومية، مثل مسيو لافال رئيس الوزارة الفرنسية الذي يحاول أن يستبقي الصداقة الإيطالية بأي الأثمان ويخشى أن يؤدي انتصار الأحباش أعني السود على الإيطاليين إلى كارثة استعمارية تهز الأمم السوداء والملونة إلى الأعماق، وتعصف بنير الاستعمار الأوربي في أفريقية، ولفرنسا في أفريقية الشمالية والغربية والوسطى إمبراطورية استعمارية ضخمة؛ ومثل زعماء ألمانيا الهتلرية الذين يرون في سياسة إيطاليا الاستعمارية، وفي تحقيق غايات الاستعمار الإيطالي سنداً جديداً لمطامع ألمانيا الاستعمارية في استرداد بعض مستعمراتها القديمة تحقيقاً لنفس الغايات الاقتصادية التي يزعم موسوليني أنه يعمل لتحقيقها بالقضاء على حريات الحبشة واستقلالها

وهذه النعرة الجنسية حرية بأن تحدث أثرها في السياسة الإنكليزية؛ فإنكلترا كفرنسا تسيطر على إمبراطورية شاسعة من الشعوب الملونة ولاسيما في شرق أفريقية حيث تضطرم الحرب الحبشية، وسحق إيطاليا في الحبشة يحدث بلا ريب أثراً عميقاً في عقلية هذه الشعوب ويذكي فيها روح التمرد والمقاومة للنير الأجنبي؛ ولكن الظاهر أن إنكلترا مع تقديرها لهذا العامل ترى أن تضعه في المحل الثاني بالنسبة لعوامل جوهرية أخرى تضطرها أن تعمل في وجهة أخرى. ذلك أن إنكلترا ترى في العسكرية الفاشستية خطراً داهماً على سيادتها في البحر الأبيض، وترى في ظفر إيطاليا باجتياح الحبشة خطراً داهماً على أملاكها في شرق أفريقية وعلى سيادتها في وادي النيل؛ وترى على الجملة في استمرار هذه الفاشستية الطامحة المتجنية المشبعة بروح الاعتداء والتحدي، خطراً على سلامة إمبراطوريتها وسلامة مواصلاتها الإمبراطورية، وخطراً على السلم الأوربي بوجه عام؛ والمسألة الحبشية ثانوية في نظر السياسة الإنكليزية كما بينا أكثر من مرة، ولكنها تغدو في يد إنكلترا وسيلة ناجعة لمحاربة الفاشستية وتقويض دعامتها العسكرية والسياسة

على أن الذي نريد أن نلفت النظر إليه هو أن هذه النعرة الجنسية التي تهب ريحها اليوم على أوربا وتروجها الدوائر الاستعمارية، ليست جديدة ولا حادثة في أوربا، إنما هي نزعة أصيلة في هذه الشعوب الأوربية التي استطاعت بأساليب العنف والغدر والخديعة أن تفرض سيادتها على معظم الأمم الأفريقية والآسيوية، والتي تحرص كل الحرص على استغلال هذه الأمم واستصفاء ثرواتها لكي تزيد بها في قوتها وفي نعمائها ورخاء بنيها على حساب هذه الأمم المهيضة؛ وأوربا اليوم هي كما كانت بالأمس، وكما كانت منذ العصور الوسطى مهد التعصب الجنسي والديني؛ وليس من الضروري أن نعود إلى أيام الحروب الصليبية لكي نصور أوربا المتعصبة على حقيقتها، وإنما يكفي أن نذكر أن الاستعمار العسكري والسياسي الذي تفرضه أوربا على الشعوب الشرقية باسم المدنية والتهذيب والتفوق الجنسي والثقافي والاجتماعي، تؤيده في نفس الوقت حملات البعثات التبشيرية، وتمهد له بالعمل على تقويض العقائد الدينية الشرقية؛ فإذا كنا نسمع في أوربا اليوم صيحة الخطر الأصفر لمناسبة التقدم الياباني في الصين؛ وصيحة البيض والسود لمناسبة انهيار مشروع إيطاليا الاستعماري في الحبشة، فإنما ذلك يتفق تمام الاتفاق مع ماضي أوربا وتقاليدها في الاضطرام بنزعات التعصب الجنسي والديني وخصوصاً كلما خشيت على صرحها الاستعماري من الانهيار.

(* * *)