مجلة الرسالة/العدد 133/تاريخ الأدب النسوي في فرنسا
→ نظرية النسبية الخصوصية | مجلة الرسالة - العدد 133 تاريخ الأدب النسوي في فرنسا [[مؤلف:|]] |
للتاريخ السياسي ← |
بتاريخ: 20 - 01 - 1936 |
للأستاذ محمد بك كرد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
وما ظهرت تباشير القرن التاسع عشر، حتى صحت العزائم على تعليم المرأة تعليماً رسمياً، ففي سنة 1836 منحت حق التعليم الابتدائي العالي، وفي سنة 1850 نشر قانون يقضي بإنشاء مدرسة في كل كورة يتجاوز سكانها ثمانمائة إنسان، وبعد سبع عشرة سنة عم هذا القانون الأقاليم بأسرها ولاسيما ما يجاوز سكانه الخمسمائة. وفي سنة 1878 نشر أحد عظماء الكتاب كتاباً أسماه (الجوارب الزرقاء) أورد فيه عدة مقالات في المتأدبات والكاتبات، وقال أن هذا الجنس من النساء الكاتبات قد خرجن عن الأنوثة، وما هن إلا الرجال، بيد أنهن لم يبلغن مبلغهم، يريد بقوله صاحبات الجوارب الزرقاء النساء اللائي كن لكثرة ما صرفن من همتهن العقلية قد بلغت حالهن أن يذهدن في التجميل ويلبسن جوارب زرقاء مثل المعجبات بأنفسهن في إنجلترا.
واستطاعت المرأة بعد هذه الحقبة من الزمن أن تظهر بظهور مدام كوري تلقى دروساً في (كوليج دي فرانس)، وما بقيت قلعة للذكور إلا وتخطاها النساء، حتى ولا مدرسة المعلمين العليا ولا منابر الجامعات، ولم يبق أمامهن عائق يعوقهن عن التعلم، ونشر ما يستهوى قلوبهن، ويرضي نفوسهن، وأصبحن في حل من أن يتعلمن كما شاء لهن الهوى؛ وغدا منهن الأساتيذ والصحافيات ومديرات دور الطباعة، وأخذن ينافسن الرجال في جوائز الأدب والمجامع الأدبية العامة والخاصة، فتمت لهن كل أدوات الثقافة في بيوت العلم، ولكن القرائح تخلق خارج المدارس، وللنساء أن يتوسعن ما شئن، وليس في مقدورهن أن ينبعثن إلى الحد الذي يطمحن إليه، ولا يسرح النساء ويمرحن إلا في ظل الحرية، فإذا أخذن من عنان قرائحهن يفقدن أجنحتهن. ولذا بقين إلى أول القرن العشرين يمشين على أثر الرجال، ولم يتحررن التحرر المطلوب إلا في هذا القرن. حتى لقد قال ستندال إن قلة استعداد المرأة لبلوغ مراتب الكمال في تأليف النساء منبعث من كونهن ما جسرن ذات يوم أن يتحللن من قيودهن إلا نصف تحلل، ومتى حاولن الحرية المطلقة فكأنهن يخرج خمار، على أنهن بعد هذا القول خرجن بلا براقع، وأحياناً بدون دثار ولا شعار؛ والسعادة لم تحالف العاملات من هذا الطراز، فإنهن إذا أغلقن أبواب غرفهن وصرن إلى خلوة لا يسعهن العزاء بعلمهن العقلي، على حين يحاولن أن يجدن لأنفسهن عزاء، فيأتي الشيطان يعبث بأهوائهن، وقلَّ فيهن من تنسى الحب والغرام، فإذا اشتد إغواؤهن أصبح عسرهن إلى مياسرة، وتداعت كل قوة كن يعتصمن بها.
والواقع أن النساء بأسرهن عبيدات حواسهن وأعصابهن وقلوبهن، لا ينجع فيهن اعتراض إذا خالف قانون الطبيعة وأعني الحب. وكان الأديبات منهن إذا مجدن الحب بالمعنى الوجيز يجهلن حب الأمومة على ما تجلى ذلك في مكتوباتهن، ومع هذا تراهن يتكلفن فيما يكتبن ويتطلبن إلى حواسهن وقلوبهن أن تعطي اكثر مما لها، وما كتب لهن إلا أن يكن أدوات تحس وتهتز، وأن يجعلن من العالم مجموعة أحاسيس. وإذا فحصت الأدب النسوي المعاصر من حيث الإنشاء تسقط فيه على قرائح عظيمة وعلى نبوغ أيضاً، ولكن قل أن تقع فيه على شئ اسمه فن. ويقال إن النساء ما عدا اثنتين أو ثلاث منهن لا يحسن التفريق بين المواد التي تتطلبها الحياة، فمنهن من تجتهد اجتهاداً ينتجن به آثاراً طيبة، وكثيرات يرسلن أقلامهن على فيضها كما يشاء الهوى، لا يحفلن التنقيح ولا سلامة التراكيب. وفيهن من اتخذت الأدب للسياسة، ومنهن من عانين فلسفة الأخلاق، ومنهن من مارسن في التربية وظللن فيها متوسطات لم يأتين بإبداع، وفقد في أدبهن التجدد على حين رأينا الأدباء والكتاب بعد الحرب أحدثوا طرائق لهم جديدة خالفوا فيها طرائق الآداب قبل الحرب العامة.
لا جرم أنهن لم يكتب لهن التفوق على الرجال أن التدقيق يصعب عليهن، حتى أن القصصيات منهن لم يتوخين إلا وصف الحب في كل مظاهره، جعلنه موضوع قصصهن؛ وكذلك كان القصصيون، ولهؤلاء قدرة على معرفة المداخل والمخارج في أقاصيصهم، يتبعون العقل، ويحسنون تطبيق الأصول اللازمة، ولم يعهد لامرأة أن برزت، فكانت مؤلفة في الدرامة، وما جاء منهن مؤرخة. فالمرأة تحسن أن تضحك من مثيلاتها، ولكنها لا تحسن الإضحاك. أما الرجل فيحسن نقد نفسه، كما يحسن أن ينتقد غيره؛ والنساء يحاذرن كثيراً من المزاح الذي يأتي على الاعتبار والحرمة والحب. وهن مجموعة عواطف تحس بالحاجة كل الإحساس وتخشى أن تقع فيها، حتى لتضن بالابتسامة صادرة عن امرأة لا تنافسها، وكذلك حالها في التاريخ، فقد نشأ في النساء مدونات مذكرات بكثرة، وقصصيات، ومنهن اليوم أستاذات في التاريخ وأستاذات في استخراج المكتوبات والمخطوطات، يستطعن بما ثقفن من معارف أن يعملن عملاً علمياً وما كان منهن إلى اليوم مؤرخة من عيار (أوغستين تيري)، ولا (ميشليه)، لأن اللازم للتبريز في هذا الشأن معلومات كثيرة ليس في مكنة النساء احرازها، بل الواجب أن يكون لها مع ذلك فكر نقاد عار عن كل هوى للتمييز بين الحقائق والظنون، وعقل مجرب لإدراك ألوف من الروابط تجمع الحوادث بعضها إلى بعض، ورأي أكيد قادر خال من التفصيل في العواطف، وقدرة على النظر إلى عصر واحد نظرة واحدة؛ ولهذا لم ينشأ من النساء امرأة عظيمة واحدة في باب النقد الأدبي والفني، ولا كان منهن فيلسوفة تلفت النظر. ومن النساء من كانت لهن مقدرة على الاستفادة من دروس أساتيذهن، ليس فيهن واحدة ابتدعت مذهباً، وما قام منهن واحدة استطاعت أن تنتج مثل (خطاب في التاريخ) ولا (الأفكار لباسكال) فهن قاصرات في جميع الفروع التي تستلزم من المؤلف التجرد المطلق من نفسيته، وما لمعت أعمالهن إلا في موضوعات لا فن فيها؛ وقلائل منهن من كتب لهن التفوق في الإنشاء والكتابة، إلا من قادهن الرجال في عملهن، فان (مدام دي لافاييت) أشرف عليها (سكري) و (لاروشفو كولد)، و (مدام دي ستال) سارت بسير أصحابها العديدين، و (جورج ساند) قادها عشاقها، (ومدام كوليت) راقب أعمالها (فنيلي).
فإذا لم تتح مواهب النساء الطموح لهن إلى منزلة في الأدب المجرد، فقد شهدنا في آثارهن أحياناً أنها خالية من الصنعة، فصح أن يقال أن ليس لهن قدرة على التفكير الصحيح، والتوسع اللازم لوضع الفكر المجرد والإنشاء الفني؛ ولذلك تساءل (بول فاليري) عما إذا كانت المرأة ستظل إلى الأبد ظاهرة التوسط في معاناة الأعمال الفكرية، ناقصة في معاني الإبداع والحرية، وعما إذا كان هذا الضعف الملازم هو ثمرة استعبادها زمناً طويلاً. قال: وأنا أود أن يكون الأمر كذلك، ففي الحالة الأولى تكون قد عبثت بها الأقدار الفسيولوجية، وفي الحالة الثانية يحكم عليها بأن انحطاطها ناتج من أخلاقها. قال ولا يخفى ما تؤثره الأخلاق التي تخلق البشر بها والقوانين التي ساروا عليها قروناً في مجموعة التركيب البشري.
ولم يكتب للنساء درجة عالية حتى في فن الطهي، ورأينا كبار الطهاة من الرجال لا من النساء، وتراهن في باب الأزياء، والأزياء من أخص خصائصهن، ينثنين على أنفسهن ليتجملن، فهن في هذا الباب أيضاً مقودات بأيدي الرجل، بل إن النساء الملكات كما لاحظ (باربيه دورفيلي) قد فقدن البداهة والعمل الذاتي وما ساعد الملكة (اليزابيث) الإنجليزية إلا بورليخ، وإذا ذكرت (كاترين) الروسية ذكرت معها بطرس الأكبر.
وقد ظهر من أبحاث العلماء في جميع الأمم أن الطبيعتين الأنوثة والذكورة متخالفتان، لا في ظواهرهما بل في أعمق تراكيبهما؛ والأطباء يقولون إن كلا من الفتى والفتاة ينشأ نشأة طبيعية متخالفة، ويكثر الموت والضعف في الصبيان، ويتجلى الذكاء والإحساس والحكمة في الطفلة، قبل تجليه في الطفل؛ ولا تزال الفروق بينهما تتزايد من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة؛ ويبدو في الصبيان الاستعداد لتعلم الحساب والعلوم المقررة كما يبدو للفتيات بفضل خصوبة إحساسهن، جمال إنشائهن ورقة نشوئهن بالقياس إلى خشونة كتابة الصبيان؛ وبعد اجتياز هذه السن الصعبة يرتقي الصبيان ارتقاء دائماً، أما الصبايا فيقعن فجأة مأخوذات بحالة جديدة، وهي حالة المرأة؛ وكثيرات فيهن من يتركن عندئذ كل عمل. وادعى بعضهم إن ذكاءهن يضمحل في ذاك الدور ليقوم مقامه حس ينصرف إلى الذل، والغزل، والموسيقى، والقراءة، وأعمال الإحسان؛ وكثيراً ما يكون أحسن التلميذات في سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة ممن تأخر نموهن؛ وبينما يكون البلوغ في الصبي داعياً إلى توسع فكره، وحاملا له على معاناة المسائل الكبرى فوق الطبيعة، تنثني الفتاة على نفسها، وتمشي مع إحساسها، ثم تعاني مشاكل الحب والأمومة، خلافا لما ادعته (مدام دي ستال) من أن الأرواح ليس لها جنس معين.
وقد قرر العلماء إن تشريح الجنسين متخالف كل التخالف، فالقامة وثقل الجسم أقل في النساء منهما في الرجال؛ وقوة الأعصاب في الفتيات أقل مما هي في الرجال بنحو الثلث؛ وجماجم البنات أقل استعداداً للنمو وأدمغتهن أقل وزناً، حتى بالقياس إلى الوزن العادي. وقرر العلماء أن حاسة الشم والذوق في النساء أقل مما هي في الرجال؛ ولذلك قل أن استخدم أرباب المعامل النساء في الأعمال التي تتطلب التمييز بين الألوان والأذواق، مثل التفريق بين الخمور والشاي، ومراقبة الصوت وإصلاح (البيان). قالت (مدام دي رموزا): إن الحس أكثر ملازمة لنا معاشر النساء من الملاحظة. واستنتج من هذا أن ذاكرة النساء أقل اضطلاعاً بالمسائل من كل وجه من ذاكرة الرجل. واضطراب المرأة اعظم بكثير من اضطراب الرجل. وتزيد في بعض أدوار حياتهن اضطراباً حتى تكون مرضاً وحرضاً تبعث على الغضب، وتصبح مدة الحمل أحياناً في مثل جنون عارض. وهكذا انفرد الرجل بالذكاء والمرأة بالشعور؛ والرجل في كل حين يفكر ويقدر، والمرأة تشعر وتحس. فالشعور فيهن هو كل ما لهن من آيات النبوغ. قالوا إن المولى أبى أن يرزق النساء قرائح لتتجمع كل جذوتهن في القلب.
قال وقد يعترضني أناس كثيراً من الفتيات أحرزن المقام الأول في المسابقات العلمية والأدبية الصعبة، ولكن (خيركوف) بحث في فتيات الجامعات فانتهى به البحث إلى أن الطالبات قد أهبن بالحافظة والمعلومات الجدية التامة المدققة أكثر من الطلاب؛ فالطالبات ينقصهن الاستقلال والتعمق في الفكر. فهن آخذات غير موجدات. وقارن المؤلف بين ثلاثة من الكتاب: (بوسويه) و (فلوبير) و (بول فاليري)، وبين ثلاث كاتبات (مدام دي سيفينه) و (جورج ساند) و (مدام كوليت)، فثبت له أن في إنشاء الرجال منطقاً سليماً، وفكراً مستقيماً، كانت فيه متانة جملهم، ورنة أصواتهم الموسيقية وتساوق المجموع من أقوالهم، على خلاف كتابة أولئك الكاتبات العظيمات.
قال ولا سبيل إلى إنكار تأثيرات العرف من القرون في تربية المرأة. ولعل أوربا تشهد في مستقبل الأيام حالة تشبه ما نراه من مثلها في الولايات المتحدة اليوم، وهي أن الرجل يشتد في اقتناص المال عاملاً له كل ساعة، والمرأة مستغرقة أبداً في تثقيف نفسها، وعندئذ ينشأ من النساء الهواة المنورات، والكاتبات البارعات، والمغنيات الباهرات، يكن مناراً يهتدي به الرجل الساري في الحياة. أما الآن فالنساء ينقلن عن الرجل، والناقل بنقله معترف ضمناً بتفوق من ينقل عنه.
محمد كرد علي