مجلة الرسالة/العدد 132/القصص
→ صمت الشك | مجلة الرسالة - العدد 132 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1936 |
صور من هوميروس
20 - حروب طروادة
بريام الحزين. . .
للأستاذ دريني خشبة
تفرق القوم إلا أخيل. . .
لقد أوهنه الحزن، وشف قلبه الأسى؛ وكأن قتله هكتور لم يشف ما في نفسه من شجو، ولم يخفف عنه ما يلقه من عذاب البعد عن أعز أصدقائه. . . الفقيد بتروكلوس!
وخرج لبعض شأنه فرأى جثة عدوه في طريقه، تثير في نفسه الكوامن الشواجن، فينقض عليها كالمجنون، ويشبعها ركلا بقدمه، وكلوماً بخنجره، ويربط القدمين في عربته، ثم يلهب جياده بسوط نقمته، فتعدو كالريح حول قبر بتروكلوس، جارة وراءها جثمان هكتور، تقلبه في الأديم المندى، وتلته في التراب الهامد. . .
ويكون أبوللو مطلاً من سحابة سارية، فينتابه من الهم على صديقه ما يثير في قلبه الحنان المقدس، ويلقى درعه الذهبي على القتيل المهين، فتقيه الدرع من الصخر والحصى. . .
أما فينوس! فإنها ترف هي الأخرى فوق الجثة، وما تنفك تصب عليها من خمر الأولمب ما تنضح به من دمائها. . . وطلائها. . .
وتطلع الآلهة من ذروة جبل إيدا، فترثي لما يحل بالميت المسكين من هوان، ويلحظ أبوللو ما ينقدح من عيني سيد الأولمب من شر، فيجد فرصته، وينهض خطيباً مصقعاً كيماً يثير زيوس على أخيل. . . عسى أن يحل عليه غضبه. . . بعد إذ حماه طويلاً. . .
وينجح أبوللو في إثارة رحمة الآلهة، وتأليبهم على زعيم الميرميدون، وجعلهم إلباً عليه واحداً؛ لولا أن نهضت حيرا مغضبة، فانطلقت تدفع عن أخيل، وتذكر سادة الأولمب بهذا المهرجان الفخم الذي أقامه بليوس، أخوهم ونجيهم، هناك. . . هناك، في أعماق المحيط احتفاء بقدومهم للمشاركة في عرسه، وبنائه على ذيتيس المسكينة. . . التي يعلم الجميع أنها ثكلى. . . وإن لم تفقد بعد أخيل!! وتذكرهم حيرا بالموثق الحرام الذي قطعوه على أنفسهم أن يباركوا نسل بليوس، وأن يدفعوا عنه الضر. . . حتى تنفذ مشية ربات الأقدار.
ويحار زيوس بين سخط الآلهة، ودفاع حيرا. . . ثم يبدو له أنه ينفذ رسوله الأمين (إيريس) إلى ذيتيس الحالمة في أعماق البحر، فتوقظها، وتلقي إليها برسالة السماء. . .
(. . . أن هلمي من فورك هذا إلى سيد الأولمب. . . فانه يأمرك ان تسعى إليه في مهمة تعرفينها فيما بعد. . .)
وتنتفض الأعماق بالأوسيانيد والنربيد وسائر عرائس البحر وعذارى الماء. . . يسعين خبباً في إثر ذيتيس. . . حتى تكون في أفق جبل إيدا. . . فينثنين. . . تاركات مولاتهن في ثوبها الحريري الأسود، وزنارها القاتم الحزين، تسعى وحدها حتى تكون فوق الثبج، ومن ثمة تعرج في الأديم الأزرق حتى تلج أبواب السماء. . .
وألفت حشد الآلهة ما يزال يتحاور، وما يزال أبوللو يحاج حيرا وحيرا تقرعه، حتى نظر زيوس فرأى ذيتس تتهادى في طليانها الأسود، ووجها المشرق المترع بالمفاتن يزيده الحزن روعة، ويضفي عليه الأسى جلالاً. . . فتبسم سيد الأولمب، واهتز فوق العرش، ثم قال: (مرحبا ذيتيس! فيم هذا الأسى يا فتاة! آه. . . مسكينة. . .! ولكن أصغى إلي: لقد دعوتك إلى الأولمب لتذهبي برسالتي إلى أخيل العزيز، فتوصيه بجثة هكتور؛ لقد أثار بما ينزله بها من هوان غضب الآلهة جميعا. . . بل قد أثار غضبي أنا أيضاً. . . أنا. . . حاميه ومنقذه ومرشده في كل مثار نقع. . . اذهبي إليه فأمريه أن يقلع عن هذه المثلة، فانه لا شيء يحنق الآلهة مثلها. . . وليسلم القتيل لأهله، فهذا خير له، وليقبل القَوَدَ العظيم الذي يقدمه إليه بريام الملك الشيخ الحزين. . . الذي حطمه الرزء، وعظمت عليه البلية، وصدعت قلبه المصائب. . . أما نحن. . . فسننفذ إيريس إلى طروادة تأمر الملك بإعداد القود والتجهز للقاء أخيل في معسكره. . . وسنرسل ولدنا هرمز إلى بريام يحدو ركبه إلى معسكر أخيل، ويعمى أبصار الميرميدون حتى لا يثوروا به، وحتى يكون أمام زعيمهم وجها لوجه. . .
(ذيتيس! حسب أخيل ما حل بابن بريام. . .)
وهمت ذيتيس فانطلقت إلى ولدها، حيث ألفته يتناول وجبة الصباح، فأبلغت إليه الرسالة الأولمبية وعيناها تفيضان بالدمع، وقلبها يخفق ويضطرب، ونفسها تذوب على شبابه الغض حسرات. . .
وهش أخيل لأمه، وتقبل رسالة الإله الأكبر قبولاً حسناً، فنهضت ذيتيس وعادت أدراجها، بعد إذ طبعت على جبين ولدها قبلة خاطفة، كانت. . . وا أسفاه. . . آخر وداع منها له في الحياة. . .
وانطلقت إبريس إلى بريام الملك، فوجدته ما يفتأ يبكي هكتور، ومن حوله أبناؤه التسعة، خضراً كأفراخ القطا، نضرا كأكمام الزهر، والرجل مع ذاك يقلب فيهم عينين تفيضان حسرة، ووجهاً يتشح باليأس والهم. . . وإلى جانبه جلست هكيوبا المرزّأة تئن وتتفجع، وترسل من أعماقها زفرات الهم والأسى. . .
وبلغته إيريس رسالة ربه، وعادت أدراجها إلى الأولمب؛ وما كاد الملك يخبر زوجه بما أوحى إليه من ربه، حتى اضطربت هكيوبا وأعولت، وطفقت تضرب صدرها لتهدم بيديها الوانيتين لما اعتزم زوجها من تنفيذ ما أشارت به السماء، والذهاب إلى أخيل يرجوه أن يهب له جثمان هكتور، خشية أن يأسره زعيم الميرميدون ويستبقيه عنده رهينة حتى يسلم الطرواديون. . .!
ولكن الرجل كان مؤمناً حتى لا يتسرب إلى قلبه الشك بما رسمت له الآلهة، أو يساوره ريب في أي مما تشير به أربابه؛ فزجر الملكة، ونهض إلى خزائنه العامرة بالتحف فتخير أثنى عشر قرطقا من أغلى ما نسجت مصر، ومثلها من المعاطف المصنوعة من القاقم والسنجاب، وعدداً كبيراً من الوسائد الرائعة والطنافس ذات التصاوير؛ ثم أمر بعشر؟؟؟ فأحضرت من بيت المال، وبدستين كبيرين من الذهب، ذوى قوائم من الفضة، وأيد من الجوهر؛ وبأربعة قدور مهداة من ملوك الشرق، أحدها يزن بما يملأ خزائن بن بليوس ذهباً. . . وبكأس من الإبريز الخالص بها من النقوش والصنعة ما يعجز عن مثله عباقرة الجن. . .
أمر بريام بكل أولئك فوضعت في صناديق كانت هي الأخرى تحفاً من صناعات مصر والشام والهند. . . تهيم فوقها تصاوير فارس. . .
وصاح بأبنائه التسعة فهرعوا من كل مكان. . باريس المشئوم وهيلانوس واجاثون؛ وبامون وأنتيفون وبوليت؛ ثم ديفوبوس وهيوثوس وديوس. . . كلاب الأزقة كما كان يدعوهم أبوهم. . . (ليت المنية التي تخطفت هكتور تلقفتكم وخلت سبيل هكتور. . . أوليتها أصابت ألف ألف من أمثالكم وعميت عن ليكاون وبوليدور. . .؟)
وأمرهم فرتبوا الهدايا ورفعوها فوق ظهور البغال. . . وما ثقل منها وضعوه في عربة كبيرة يجرها بهيمان؛ وتقدمت هكيوبا فصبت على يدي زوجها خمراً يطهر بها، وأخذ هو في صلاة طويلة لزيوس. . . أن يحميه ويوقيه. . . ويرشده في طريقه إلى أخيل؛ ويرسل إليه الرسول الذي وعد، يقوده إلى فسطاط زعيم الميرميدون!!
ولم يكد ينهض من صلاته، ويختم توسلاته؛ حتى رف فوقه طائر ظل يضرب الهواء بخافيتيه، ويهوّم ويدوم، ويرنق في سماء الهيكل تارة، ثم يستقر عند المذبح أخرى، حتى أيقن الملك وملؤه أنه الرسول المنتظر، والقائد المنشود فخفقت قلوبهم، وفرحوا واستبشروا.
وتقدم إيديوس الحكيم فألجم البغال، وأسرج الخيل، وشد البهائم إلى عربة الملك، وأقبل بريام فركب، وأصدر أمره إلى حكيم طروادة وفيلسوفها فسار بين يدي الركب، يحدوه ويباركه ويضمن له رعاية السماء.
أما الطائر الميمون فقد انتفض انتفاضة هائلة، وراح يحلق فوق طروادة،. . . ثم غاب عن الأبصار. . . إلى أين. . .؟ إلى حيث لا يدري أحد!!
وتهادى الركب. وانطلق إيديوس يحدوه، حتى كان عند مقبرة إليوس الأكبر، وحتى كانت طروادة الخالدة وراءهم، حالمة في غبشة المساء ساهمة مستسلمة، كالفكرة الشاردة في دماغ الشاعر الغرير.
وغابت الشمس في مياه الهلسبنت، واختلط البنفسج الشاحب بسواد الليل، ونقت ضفادع الأبالسة في فضاء البرية، فملأت القلوب وحشة، وأرسلت في المفاصل رعدة، فلم يكن بد من أن ينيخ القوم حتى يأذن القضاء بالرحيل.
وفيما كان إيديوس يسقي الدواب من الغدير النائم في كِلَّة الغسق، إذا شاب يافع يقبل نحوه ويسأل عن الملك. . . ويكون بين يديه بعد لحظات. . .
ويسأله الملك عن شأنه فيحدث أنه جندي آبق من جنود أخيل، وأنه ينصح الملك ألا يجازف بنفسه وبما يحمل من اللُّهى والعطايا في هذه الرحلة المهلكة، التي قد تنتهي بما لا يدور للملك في خلد، أو يقع له بحسبان؛ ولكن الملك يبدي تصميمه ويلح في سؤال الشاب عن هكتور. . . (أما يزال مسجى بين يدي أخيل يشفى بمرآه حرده، أم هو قد أسلمه للسباع وجوارح الطير تنوشه وتغتذي به؟. . .) ويطمئنه الشاب اللعاب الداهية ثم يرثى له فيعده أن يكون قائده إلى فسطاط أخيل. . . (لأن أحداً من الناس لا يستطيع أن يخترق صفوف الميرميدون الدواهي ما لم يكن مخاطرا بنفسه، أو ملقيا بيديه إلى التهلكة. . .) ويستسلم الملك الشيخ، ويلقي في يدي الجندي الشاب بزمامه، ويأذن له فيمتطي الجواد الأمامي الذي يتقدم سائر الدواب. . . وتبدأ الرحلة إلى مرابض الميرميدون. . .
ويتحدث الشاب إلى الملك، ويتحدث الملك إلى الشاب. . . حتى إذا كانا قيد خطوات من معسكر أخيل، مد الشاب ذراعيه المفتولين، ولفهما حول جذع الملك، ثم رقاه رقية قصيرة، وإذا سأله الملك عما يبتغي بها أنبأه. . . (كي لا تمتد إليك عين ولا يلمحك أحد، ولا يحس بمسرانا أي من أولئك الميرميدون. . .) فيسكن جأش بريام الشيخ، ويطمئن قلبه، وتتضاعف ثقته في الجندي الشاب. . .
ويكون فسطاط أخيل تلقاءهما!
فينهض الشاب من جانب الملك، ثم ينتفض انتفاضة تكشف عن حقيقة، ويقول ضاحكاً: (أيها الملك أنت الآن في جوار أخيل، وعليك أن تلقاه في غير هيبة ولا وجل، فادخل غير مستأذن، ولتكن رابط الجأش ساكن الروع، واركع بين يديه ثم ازرف أغلى دموعك حتى تلين ما قسا من قلبه، وتحجر من مشاعره، واذكر له حاجتك فانه راد عليك جثمان هكتور. . . وثق أن السماء قد قضت بذلك، ولا مرد لقضائها. . . أما أنا. . . فلا تنتظر أن أسعى بك إلى زعيم الميرميدون. . . وليس سراً أن أذكر لك أنني. . . هرمز. . . أرسلني أبي إليك لأجيء بك إلى هذا المكان. . . انهض. . . انهض. . . ماذا أخافك مني؟. . . أجل. . . أنا ربك. . . ولكن لتقصر صلاتك هذه، فالفرصة تكاد تفلت. . . تشجع يا بريام. . . قف. . . آمرك)
وينهض الملك من غشيته التي كادت تذهب به حين ذكر له الشاب أنه هو هرمز. . . هرمز نفسه الذي ذكره له إيريس أنه سيقوده إلى فسطاط أخيل. . .
وينظر بريام فيرى إلى. . . الجندي الشاب. . . يرف في الهواء المندى، ثم يرتفع ويرتفع، حتى يكون في السماء التي تتفتح له أبوابها!؟. . .
ويصلح الملك من شأنه، ثم يتقدم بخطى وئيدة إلى فسطاط أخيل، ويدخله. . . ويرى زعيم الميرميدون في الصدر، وبين يديه وزيراه العظيمان أوتوميدون وألكيموس، ثم قادة الجند منتثرين ههنا وههنا. . . يهمسون ولا يكادون يبينون. . .
وكان السماط ما يزال أمام الزعيم، وزقاق الخمر ما تزال تقبل الكؤوس المغرمة، والشواء العظيم يملأ الخياشيم بقتاره. . . فلم يبال بريام. . . بل تقدم وتقدم. . . حتى كان أمام أخيل. . . فركع ذاهلاً عن نفسه، ولف ذراعيه حول ساقي الزعيم، وراح يوسعهما لثماً وتقبيلاً، ويمطرهما بأحر العبرات!. . .
وشده أخيل!. . .
بيد أنه كان يعلم من أمر هذه المفاجأة كل شيء، فلم يزد أن قال: (بريام!؟)
- (أجل يا بني أنا بريام!!. . .)
وبهت القادة مما رأوا، وأذهلهم ما سمعوا!. . .
أهذا حقا هو بريام ملك طروادة يبكي بين يدي أخيل وينتحب؟. . . إذن. . . فيم هذه الحرب؟. . . وختام ذاك الصراع؟. . . وإلام تذهب هذه المهج؟. . .
- (أجل يا بني. . . أنا هو. . . أنا الرجل المرزأ المحزون الذي قتلت أبناءه، وهرقت دماءهم لأنهم يحاربون من أجل وطنهم، ويذودون عن بلادهم. . . سعيت إليك. . . إليك يا أخيل العظيم، لأمطر هذه اليد التي ذبحتهم بدموعي، ولأوسعها لثماً وتقبيلاً؟!
أتمنى يا بني أن تعود قريباً إلى أبويك سالماً، فيهش أبوك للقائك، وتبش أمك لعناقك، ويفرح ذووك بك، لأنك عدت إليهم بالنصر والفخر. . . أستغفر الآلهة، بل عدت إليهم سالماً من نكبات الحرب وكوارثها. . . فهل أكون قاسياً أن أرجوك. . . حين تعود إلى ديارك وتلقى فيها أحباءك. . . أن تذكر أن أبوين آخرين قد خلفتهما وراءك يشقيان ويبكيان، ويلبسان السواد أبد الدهر، لأن أبناءهما لم يعودوا من ساحة الحرب كما عدت أنت، بل هم قد سقطوا فوق أديمها، مضرجين بدمائهم، شاكين إلى أربابهم ما حل فيها بهم، تاركين آباءً شيوخا فانين، وأمهات ضعيفات معولات، وقلوباً تتفجر أسى عليهم، وعيونا تختلط دموعها بدمائها من أجلهم، وأرامل يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، ويتامى لا حول لهم ولا قوة على الزمان الغادر، والحظ العاثر، والصبر الجميل. . .؟. . .
هل أكون قاسياً يا بني إذا رجوتك أن تذكر ذلك أو بعض ذلك، حين تعود إلى ديارك وتلقى أبويك الفرحين بك؟. . .
أخيل! لم أسع إليك يا بني إلا بأمر الآلهة، ووحي سيد الأولمب. . . أرجوك في هكتور. . .!. . .
وأحر قلباه يا هكتور. . .! وا أسفاه عليك يا ولدي!. . .
صدرت إليك يا أخيل عن أمر السماء أرجوك في هكتور أن تسلمه إلى حتى نؤدي له فرائض الآلهة، وطقوس الموت، وما أحسبك إلا ملبياً ندائي الحزين، حتى تتيح للآلاف المؤلفة من جنوده وذويه وزوجه وابنه أن يبكوا جميعا عليه، وأن يشيعوه إلى الدار الآخرة بما رضيت أن تؤديه لبعض أصحابك، حتى تقر روحه، ويؤذن لها فتلج إلى هيدز. . .
أخيل. . . لب ندائي أيها الزعيم الباسل. . . لب نداء هذا الشيخ الضعيف،. . . وارحم فيه هذا الذي حمله إليك. . . وأسعده بتقبل هذه الهدية التي أمرت بها السماء. . . وإن تكن يا أشجع المحاربين في غَنَاء عنها، ولا حاجة بك إليها. . .)
وأحس أخيل كأنما تخاطبه السماء كلها بلسان هذا الشيخ المتهدم، وكأنما الآلهة جميعا تنطلق من فمه لتكون بياناً ورحمة في قلبه، فأنهضه من بين يديه، وأجلسه إلى جانبه فوق أريكته ثم أخذا معاً في بكاء حار طويل.
وتقبل أخيل هدايا الملك، وأشار إلى اوتوميدون وزميله فأخذاها إلى الأسطول، ثم أمر الخادمات فغسلن هكتور بالماء الساخن المعطر بدهن الورد، ولففنه في مدارج بأكملها من كتان مصر، وتقدم هو فوضعه على وسادة الموت، وأشار إلى جنوده فرفعوه إلى إرانه، ثم أخذ يهون على بريام ويواسيه، ودعاه إلى تناول العشاء معه، فلبى الشيخ وهو يعول ويبكي. . . بكاء يفتت الأكباد ويذيب نياط القلوب. . .
وكان الليل قد انتصف أكاد، وكان بريام الملك قد لبث الليالي الطوال يتفجع على ولده، ولا يذوق جفنه طعم الكرى فأحس بعد العشاء بإعياء وجهد، وميل شديد إلى النوم، فصفت له ولرجاله وسائد فاخرة، عليها طنافس وملاءات من الهند، واستأذن أخيل واستلقى على متكئه. . . وقبل أن يسلم عينه للكرى، سأله أخيل أن تكون هدنة بين الجيشين المتحاربين حتى تؤدي كل الطقوس اللازمة لتحريق هكتور؛ واتفقا على أن تكون هذه الهدنة لمدة أحد عشر يوماً.
وفي الهزيع الأخير من الليل، أقبل هرمز الكريم فأيقظ بريام الملك، ونبهه إلى الخطر الذي يحيق به إذا أشرقت الشمس وأقبل أجاممنون وسائر القادة الهيلانيين ورأوا كبير أعدائهم، وصاحب إليوم، في معسكر أخيل. . . هنالك يحجزونه لديهم رهينة حتى تسلم مدينته. . . (فهلم أيها الملك وانج بنفسك، وسأقودك إلى طروادة بحيث لا يشعر بك أحد، ولا يحس الميرميدون لركبك رِكزاً. . .)
ويسير الركب في هدأة الفجر، ويحدو هرمز القافلة حتى تكون لدى البوابة الاسكائية الكبرى، فيسلم على الملك ويبارك الميت. . . ويعرج في السماء. . .
وتكون كاسندرا، ابنة بريام الكبرى، أول من يلمح الركب مقبلاً، فتبشر الأهالي المحزونين، ويرتفع اللغط، وتشتد الضوضاء، ويتكبكب المواطنون حول العربة تحمل الأران حتى ليتعذر السير، ويبطئ السعي، فيصيح الملك بالملأ، فتنفرج الطريق، ويعم الصمت، ولا يحس إلا وجيب القلوب وخفقانها.
وتقبل أندروماك فتذرى دموعها، وتندب حظها، وتبكي زوجها، وتمزق قلوب الطرواديين بما يبدو عليها من أسى وحزن ووجد وكمد. . .
وأم هكتور!. . . ويا لمصاب الأمهات في فلذات أكبادهن، وأعز الأبناء عليهن!!. . .
وهيلين!! والعجيب أن تبكي هيلين هي الأخرى!! هيلين الآبقة. . . هيلين الأثيمة. . .!!
ويأمر الملك فينتشر الجند يجمعون الوقود من كل فج، حتى تكون كومة عالية؛ ويوضع الجثمان المبكي فوقها، وتصب الخمر تحية لآله الموت وتكرمة، وتشتعل النار فتكون ضراماً. . .
أنشد يا هوميروس!
يا شاعر الأحقاب الخالية!
يا صدى الزمان القديم!
أيها القيثارة المرنة في أنامل الأيام!
أرسل من الأزل أنشودتك تملأ الأسماع في الأبد! واعصف مع الريح. . .
واهتف مع البلابل. . .
وتقبل تحيات المعجبين. . .
(تمت الإلياذة)
(بقية الحروب في العدد القادم)
دريني خشبة