مجلة الرسالة/العدد 130/سكان أعالي النيل
→ شعراء الديباجة | مجلة الرسالة - العدد 130 سكان أعالي النيل [[مؤلف:|]] |
اندفاعات ← |
بتاريخ: 30 - 12 - 1935 |
بقلم رشوان أحمد صادق
يسكن أعالي النيل ثلاث مجموعات أساسية تتفرع منها عدة مجموعات أخرى فرعية:
1 - المجموعة النيلية، ويطلق عليهم أسم وهم خليط من الزنجي والحامي. نشأ هذا الخليط بالقرب من شرق البحيرات الكبرى في شرق أفريقيا ثم نبعت منه شعبتان:
الشعبة الأولى هي جماعة الدنكا وقد اتجهت شمالا ثم تكون منها الدنكا والنوير الحاليتان
والشعبة الثانية اتجهت شمالا أيضا ونتج عنها القبائل التي تتكلم اللهجة الشلك مثل جماعة الشلك والليو والأنواك
وهذه المجموعة تشغل أقاليم بحر الغزال وبحر الجبل وبحر الزراف والسوباط وجزءا من النيل الأبيض. أما مميزات هذه المجموعات الجنسية فهي قامة بائنة الطول، ورأس مستطيل، وبشرة سوداء جدا، وشعر مجعد؛ فهم يختلفون عن الزنجي البحت وكذلك عن الحامي البحت
أما جماعة الأشولي الذين يتكلمون لهجة الشلك فرؤوسهم مستديرة، وذلك يرجع إلى تأثرهم جنسياً وثقافة بعنصر مستدير الرأس جاء من الغرب إلى الشرق والتقى بهم أثناء هجرتهم من موطنهم الأصلي
2 - المجموعة الحامية النيلية مثل الباري واللوتوكو وغيرهم، وهم يشبهون النصف حاميين الذين يوجدون في شرق أفريقيا وفي شرق أفريقيا الوسطى، ويكثر وجودهم في مستعمرة كينيا وأوغندا حتى حدود السودان وشمال تنجانيقا. وهم أيضا خليط من الحامي والزنجي، غير أنه يظهر تغلب الجنس الحامي في تكوينهم خصوصا من حيث التقاطيع مثل الأنف ولو أن البشرة سوداء اللون. ولقد تأثروا أيضا بالهجرات المستديرة الرأس الآتية من الغرب إلى الشرق، ولكن هذا التأثير كان ثقافيا لا جنسياً
3 - مجموعة زنجية مستديرة الرأس لونهم أخف من لون النيليين وقامتهم أقصر. كانت أماكنهم بحيرة تشاد، ثم هاجروا جنوبا إلى أفريقيا الاستوائية الفرنسية، ثم شمالا إلى خط تقسيم المياه بين الكنغو والنيل. وأهم هذه المجموعة الأزندي، ويسكنون في أعالي بحر الغزال الآ وبعض العلماء يظن أن لونهم الفاتح يرجع إلى اختلاطهم بجماعة البربر أو بعض الحاميين
ولقد اشتهر سكان هذه الجهات ومعظم سكان أفريقيا - سواء الزنجي البحت أو الخليط - بحب اللهو والطرب والرقص وكثرة شرب الخمور. ولقد تبارى العلماء في تعليل هذه الظاهرة التي تكاد تعم معظم بقاع أفريقيا
فابن خلدون يرجع ذلك إلى عوامل مناخية إذ يقول:
(من خلق السود على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب فتجدهم مولعين بالرقص على توقيع، موصوفين بالحمقفي كل قطر؛ والسبب الصحيح في ذلك أنه تقرر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس وهو انقباضه وتكاثفه. وتقرر أن الحرارة مفشية للهواء والبخار، مخلخلة له زائدة في كميته، ولهذا يجد المنتشى من الفرح والسرور ما لا يعبر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة الغريزية التي تبعثها ثورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى الروح تجيء طبيعة الفرح. وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا تنفسوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم فتسخنت، لذلك حدث لهم فرح، وربما انبعث الكثير منهم بالغناء الناشئ عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم كان في أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وأقاليمهم، فتكون أرواحهم بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع (المعتدل) أشد حرا، فتكون أكثر تفشياً، فتكون أسرع فرحا وسرورا وأكثر انبساطاً، ويجيء الطيش على أثر هذه. وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد في الأخلاق أثراً من كيفيات الهواء والله الخلاق العليم.)
ولقد حاول كثير من العرب تعليل حب هؤلاء الأقوام للخمر واللهو والرقص، ومن هؤلاء المسعودي الذي ينسب ذلك إلى ضعف عقليتهم، كذلك يعقوب بن إسحاق الكندي ذكر ذلك التعليل الذي ربما يكون المسعودي قد نقله عنه
كذلك ذكر هذا الرأي جالينوس كما يقول ذلك أبن خلدون
وربما كان ذلك راجعاً إلى قلة العمل وطول الوقت، ولذلك يلهو الزنجي بمثل هذا النوع من الطرب. وربما يرجع حب الزنجي للرقص والخمر إلى التغلب على مناخ بلاده الذي يدعو إلى الكسل والخمول. كما يستعمل الأوربي مثلا المسكرات للتغلب على البرد في بلاده.
ويقول نعوم بك شقير في كتابه تاريخ السودان: (وهم مولعون بالرقص ولعاً شديدا، ولكل قبيلة منهم رقصة خاصة يرقصها الرجال والنساء على أصوات الآلات الموسيقية. وقد رأيت جماعة من رجال الشلك يرقصون رقصة حربية في الخرطوم أيام تشريف الخديو للخرطوم، وقد لبسوا شعورهم على أشكال غريبة وزينوها بالريش والخرز وصبغوا جفونهم بصباغ أبيض مشرب حمرة، ولبسوا أساور العاج والنحاس في أيديهم، والجلود أو الخرق في أصلابهم، وحملوا الحراب والنبابيت فمثلوا في رقصهم واقعة حربية وقفوا فيها صفين يهاجم أحدهما الآخر، وهم يقفزون كالقردة ويصيحون كالذئاب، وهم يهزون رماحهم وعصيهم فوق رؤوسهم، ويغنون أغاني لا تلحين فيها، ويصوتون بالقرون أصواتاً مزعجة تصم الآذان؛ وبالإجمال لم يكن في رقصهم طرب بل دل على الهمجية والخشونة)
وقد اشتهر الزنجي بجودة الرقص خصوصاً في عهد قدماء المصريين إذ استخدموا الأقزام لرقص الآلهة. وكثيرا ما نرى الآن في موسيقى الجاز الأوربية الراقصة أن يستخدم الزنجي للعزف. كما اشتهر بعض الزنوج نساء ورجالا بالرقص الأوربي
الزنوج النيليون
النوير
لم يتأثروا بالحكم الأوربي لأن أماكن سكناهم تجعلهم في عزلة إذ يتعذر اجتياز بلادهم في فصل المطار لكثرة المستنقعات كذلك في فصل الجفاف. لذلك لم يحاول جيرانهم الاعتداء عليهم، كما أن العرب الذين عرفوا هذه الجهات قديما اكتفوا بإنشاء محطات تجارية على المجاري الرئيسية. ولم تهتم بهم الحكومات الأوربية إلا منذ أربع سنوات عندما قاموا ببعض الاضطرابات. وكان لهذه العزلة الأثر الأكبر في عدم قبولهم الاختراعات الحديثة، وعدم تغييرهم لنظامهم الاجتماعي، كذلك لم يتأثروا بالمسيحية ولا بالإسلام؛ وتجد الحكومة صعوبة في جباية الضرائبمنهم أو إرغامهم على العمل
وتنقسم السنة عندهم إلى قسمين تبعاً لتغير الإنتاج الزراعي الذي يتوقف على هطول الأمطار. فمن ابتداء شهر مايو تهطل الأمطار وتستمر كذلك حتى أواخر نوفمبر، فتمتلئ الأنهار وتكثر الأخوار. ولما لم يكن هناك تصريف على السطح فإن هذه المياه تتجمع على شكل مستنقعات تقوم في الأراضي المرتفعة. وفي هذا الفصل تكون الماشية على مقربة من هذه القرى لكي يمكن إيوائها مساء في الأماكن المخصصة لها لحمايتها من شر البعوض. كذلك يتمكن النوير في هذا الفصل من زراعة بعض الذرة. وفي هذا الشهر ديسمبر تبدأ الأمطار في القلة، ولذلك تساق الماشية إلى أماكن بعيدة عن القرى في الجهات الغابية حيث ترعى هناك، وبعد أن يجمع المحصول في القرى ترجع الماشية إلى القرى لتأكل بقايا النباتات؛ ثم بعد ذلك يحل فصل الجفاف وأهم شيء في حياة النوير خاصة، والزنوج النيليين عامة هو الماشية، فمنها يأخذون اللحم واللبن، وجلودها تستعمل فراشاً، وروثها يستعمل وقوداً، والرماد المتخلف يتخذ لدلك الجسم لحمايته من البعوض، ويصنع منه مسحوق للأسنان والشعر، وقرونها تستعمل ملاعق، وذيلها للزينة. والرجل الغني عندهم هو الذي يملك ماشية، فهي تقوم مقام الصداق في حفلات الزواج، ولذلك كان النويري شديد الاهتمام بتنمية القطيع من الماشية، لأنه مهم من حيث الزواج. والرجل عندما يريد الزواج لابد أن يوزع عشرين رأساً من الماشية على أهل زوجته ولابد من إهداء عشرة رؤوس لأقارب والدة عروسه، وعشرة أخرى لأقارب والد عروسه، فمن اللازم أن يأخذ القطيع في الزيادة حتى يصل إلى خمسين رأسا من الماشية. فإذا تزوج أبن فلابد أن يظل بقية الأبناء بدون زواج حتى يأخذ القطيع في الزيادة إلى أن يستعيد عدده قبل الزواج. فالزواج حسب الترتيب: الأكبر فالذي يليه وهكذا. وعلى نساء الأبناء الكبار أن يقمن بطهي الطعام وحلب الماشية للأخوة الذين لم يتزوجوا بعد؛ كذلك تستعمل الماشية في دفع الديات والتعويضات. والنويري يعتبر القتل كالزواج، أي أن الرجل إذا قتل شخصاً من عائلة أخرى كان كأنه تزوج فتاة من هذه العائلة؛ وذلك على قاعدة أن هذه العائلة ستفقد فرداً منها في حالة الزواج أو في حالة القتل. فعلى القاتل أن يعطي عائلة المقتول عشرين رأسا من الماشية: عشرة منها توزع على أقارب والد القتيل، وعشرة أخرى توزع على أقارب والدة القتيل. والفكرة في ذلك أن عائلة القتيل تحتفظ بهذه الماشية التي أخذتها دية لكي يمكنها أن تحصل بواسطتها على زوجة للرجل الميت لكي تلد هذه الزوجة أبنا يحل محل أبيه. وهذه الزوجة بعد الحصول عليها تعيش مع زوجة الرجل المقتول، والابن الذي يولد لها يعتبر كأنه للرجل المقتول.
يتبع
رشوان أحمد صادق