مجلة الرسالة/العدد 130/ذكرى زوجة
→ بعض مواطن الخفاء في التاريخ الإسلامي | مجلة الرسالة - العدد 130 ذكرى زوجة [[مؤلف:|]] |
المتنبي في ديوانه ← |
بتاريخ: 30 - 12 - 1935 |
للأستاذ حسنين حسن مخلوف
حدث صاحبي قال:
عشر سنين سوياً هي مدى العيش بيني وبينها
هي قنطرة حياتها الجديدة اجتازتها عجلة إلى القبر
كانت تملأ بيتي نوراً، ونفسي حبوراً؛ بدلتني بالوحشة أنساً، وبالوحدة جمعاً. هؤلاء أولادها نجوم سماء أرسلتها العناية الإلهية لتكون معجزة الله في نظام الأسرة، وفي بعث الأمل الباسم، وفي سعادة الآباء والأمهات، ثم لم يمتعها الدهر بهم إلا قليلا، واستودعتني صغاراً كأفراخ الطير، وذهبت في عالم السماء. . . . . . . .
دعني يا أخي أخفف من برحاء حزني بقطرات من الدمع هي كل ما أملك عند ما يغلي مرجل قلبي بذكراها
دع دماء قلبي تتبخر فتستحيل دموعاً، ففي انبثاقها هدوء لوعتي وأشجاني، فقد انصبت أحزان الناس جميعاً في مصيبتي فما أطيق لها حملا
أفما رأيت المحزونين يتعزون بي، وينسون مصائبهم إذا رأوني، فيرثون لبلواي، ويمسحون بتعازيهم فيض عيني التي هي معاني دموعهم على موتاهم؟
يا لأيامها الحلوة، وسريرتها الطاهرة!!
أرأيت إلى البحر الصافي الساكن الذي لا يدس في قرارته شيئاً!! أرأيت إلى السماء الزرقاء الجميلة تزهر بالنجوم الوضّاءة، هي رمز السرور والطمأنينة!! ذلك هو قلبها: إخلاص وصدق، وأدب وحياء، وكل ما ترتجي في الزوجة الكاملة من سمو ووفاء. . . . . .
وكأن القدر أراد أن يسقيني كؤوس السعادة مترعة ثم يسلبنيها وشيكا ليطول حزني، وتدمى إلى الأبد جراح قلبي، فأنا منها في همٍ مقعد مقيم
قلت له: هوّن عليك يا أخي، فما لما قضى الله حيلة، وحسبك ما قدمت يداك، وما قمت به نحوها من تمريض، فقد كانت في أغلب سنيها معك بين الموت والحياة، تسعى سعي المجد لتدفع القدر عنها، فلم تدع طبيباً إلا استشرته، ولا صيدلية إلا أفرغت فيها كنوز حيات كنت في حياتها في فكر ممض، وقلق مستديم، وليس من الإنصاف لنفسك ولا لأولادك أن تظل هكذا شقيا بمماتها. .
فما استأذن حديثي على سمعه حتى ظل هنيهة مطرقاً مفكراً، وكأن أطياف الماضي تذهب وتجيء في رأسه، فلا يستطيع لها دفعاً، وكأن لوحة خيال تعرض حوادث حياته مشهداً مشهداً، وبعد أن تنبه إلي قال:
لست أنسى طول حياتي رزانة عقلها، واتزان كلامها، وجميل وفائها؛ وقصدها في الأمور كلها، حتى لقد حسبت أن الله مازها بذلك من دون النساء جميعا؛ وأن شمائل بنات حواء اجتمعت لديها ثم صارت وقفا عليها. أرأيت إلى قطرات من المطر تتحلب من أفواه السحاب، ثم يؤلف الله منها ماء رويا يحظى به فرد واحد من بني الإنسان؟ تلك هي فضائلها. فأن محي البر والمعروف والوفاء من نفوس الناس جميعاً فلن تبرح ذهني ذكراها، وهكذا تمر الأيام وروحها ماثلة أمامي، ومآثرها مشرقة إشراق الشمس؛ فهي باقية في معاني الكمال الإنساني، باقية في هؤلاء الصبية كلما خطروا أمام عيني، فهم بضعة منها، وأمثالها العزيزة على نفسي. . . . . . .
كان داء قلبها مبعث آلامها، فما تبرّمت لحظة في القيام بما تفرضه شركة الحياة بيني وبينها، ولأني أعلم أن صخرة عاتية تنتظرني بعد أن أنفض يديّ من تراب قبرها، فتحطم آمالي تحطيما، وتفرق أجزاء نفسي شعاعاً
وكم كنت أود إن لم يكتب الله لها السلامة أن تعيش هكذا في سريرها تنعم برؤية أولادها، وأنا كل يوم أزجي إليها كواذب الآمال في برئها، وأزور مع الطبيب في الطريق كلاماً نقوله عند لقائها، والطبيب يشفق علي ويقول: حسبك فقد أبليت، والطب ألقى سلاحه معترفاً بالعجز عند باب حجرتها؛ وأنا أجيبه: لا عليك أن تكرر الزيارة، وأن تذرع الأرض جيئة وذهوباً، وأجرك موفور، وعذرك في عدم الشفاء مذكور، رجاء أن تدخل شيئاً من برد الطمأنينة على قلبها
وقد والله كانت راضية بالقدر خيره وشره، وما ذاقت طعم النوم أشهراً إلا مثل حسو الطير ماء الثِّماد، وكانت لا تطيب نفسها أن أسهر بجانبها حتى أقوى على أسباب العيش طول النهار؛ فإذا نزلت عند رأيها انتابني الفزع في وهن الليل، فأراها جالسة مفتوحة العينين تنتظر قضاء الله فيها، وقد تسمع المؤذن في الفجر يشق الفضاء بكلمة الحق: (الله أكبر) في سكون الليل وهدوئه، فتضرع إليه أن يحكم فيها بما يراه خيراً لها، ثم تدعو الذي لها كتب لها قصر العمر أن يكتب لي طول العمر جزاء ما أسديت إليها في أمراضها المتطاولة من برٍ ومجهود، فآسى لهذا القول، وأذكر الأمل في الشفاء، فتستبعد تحقيق ما أملت وتقول: أيقدر لي الشفاء فأقضي عمراً جديداً في شكر معروفك؟!
ثم اشتدت بها العلة، وبرحت بها الأوصاب. ومن عجائب القدر أن تكلفني وزارة المعارف مغادرة المدينة لأعمل في الامتحانات في مدينة أخرى، وليس من شرعة وزارة المعارف أن ترحم مثل الظروف المحيطة بي، أو تقبل عذري إلا إذا كنت أنا مدنفا عليلا، ويشهد جماعة من الأطباء جهد أيمانهم إنيل لا أطيق السفر، ولا أقوى على مكابدة الأعمال
سافرت متعب الفكر، مضطرب النفس، وبين جنبي من الهم ما لو كان بالجبال لاندكت، وبالبحار ما سمعت لرنات أمواجها زئيراً، ولا لشموخ أنفها عزّة وزفيراً
وقبل سفري تقدمت إلى أنجالي أن يراسلوني يوميا بحالتها، وأسررت إلى بعض أصدقائي إن حل المقدور أن يبادر باستقدامي برقياً، ومن عجب أن تترى الرسائل كل يوم بأن معجزة عيسى الباهرة ظهرت في زوجي، وأن المرض كادت تزول آثاره! فأحدث ذلك في نفسي حالة بين الشك واليقين. أذكر البرء فأقول: (آمنت بالله)، (يحي العظام وهي رميم)، هاهو ذا مجهودي الطويل تتوّج بالنجاح، وتا لله إن فرحي برؤيتها سليمة لينسيني كل عذاب تحملته صابراً محتسباً، ثم تخم علي سحب مظلمة تقترب من نفسي شيئاً فشيئاً فأنفجر باكياً في حجرتي بالفندق بعد أن أحكم رتاج الباب، وأشتفي ببلسم المحزون؛ هي تلك القطرات
يا لله للإنسان لو لم تكن دموع عيني أتراه ينشق فتطير أجزاء قلبه ورأسه فلذة في المشرق وفلذة في المغرب ثم يتناثر جسمه إرباً إرباً. ثم تعود إلي قوة نفسي فأحس حرارة اليقين في صدري، ويشع أمام عيني ضياء الأمل فأنتعش وأبني قصور الآمال من جديد بعد أن ضعضعتني الأسقام، وزعزعتني الوساوس والأوهام. وعدت من السفر ودخلت عليها مسلما لأبدل بالشك اليقين، فرأيتها جالسة في سريرها وقد امحت منها معالم الحياة إلا عيونا براقة وروحاً رضية تتحدث حديث الأحياء وجسمها في عالم الأموات، فعرفت زيف أحلامي التي نعمت بها مدة غيبتي عنها، فسألت في شأن هذه الرسائل فاعتذرت لي بأنها شاءت أن أفرغ لعملي، وحسبي جهود الامتحان من آلام التذكر، فحاطت الرسائل بما يخفف عني، ويحي ميت الآمال من نفسي، فأكبرت هذه المروءة وذلك العقل الكبير من حيةٍ ميتةٍ تنتظر أياما أو ساعات لتودع الحياة الدنيا وقالت لي: إنها ابتهلت إلى الله ألا يحل بها ريب المنون حتى أعود من سفري، وهاهي ذي مشيئة الله كانت رحيمة بها كريمة عليها، وأعلمتني إن دلائل الموت تقترب منها ففاضت شئوني. أما هي فكانت الثقة بالله تملأ جوانب نفسها والتسليم للمقادير ما يلهج به لسانها في كل حين فكانت هادئة رزينة مكتملة العقل كعادتها
ثم عدت إلى المنزل في الظهيرة وقارورة الدواء الأخيرة في يدي فنظرت إليها كما ينظر الموتور إلى واتره فأجفلت منها وكأنها نذير الموت جاء يعجلها فقالت: في هذه الزجاجة بقية عمري فأبعدوها عني ولا تفضوا ختامها: ارحموني فقد تمزق جسمي بالحقن فلم يسلم جزء فيه من طعناتها، وتقطعت أحشائي بالعقاقير وأنا صابرة، فكم من طبيب كشف عن جسمي! وكم من دواء شقت مرارته مرارتي! أين أولادي؟ ليصنعوا مثل الحلقة حولي، وأخذت تقبل هذا، وتمسح بيدها رأس ذاك، وتبلل بالدموع وجوههم جميعاً، كل ذلك وهم في غفلة ساهون يفرحون ويمرحون إلا أكبرهم فكانت دموعه تسابق دموع أمه فيبكيان معا. وبعد قليل استنجدت بجرعات من الزجاجة فشربتها فنامت ثم أستيقضت بعد نصف ساعة وكأنما نشطت من عقال، فاستفاقت وعاد إليها برد الأمل، وما رأيتها في أوقات مرضها أسعد حالا وأعظم سروراً من تلك الساعة، وقلت لها: ألم أقل لك كثيراً إن الإنسان قد يصل به المرض إلى الغاية ثم يشفى، وأنا أعرف كثيراً من الناس بهذه المثابة
وما أنتصف الليل أو كاد حتى زلزلت الأرض زلزالها!! إنه موقف الموت الرهيب!! فرأيت نفسي في مأزق حرج لم أشهده طول حياتي. إنه رسول الموت جاء ليحسم الأمر بعد طول جدال! جاء (لقطع جهيزة قول كل خطيب)
ولتحط أم أولادي الرحال بعد طول تهجير فقد أضناها السرى وبرمت بالحياة الدنيا. رأيتها تسلم الروح إلى بارئها في يقظة وانتباه ونفسها معلقة بأولادها وكأنها تخاطب رسول الموت: قف قليلا لأشهد الكون إني ذهبت إلى الله وخلفت في الدنيا أطفالاً هم بهجة قلبي وحشاشة نفسي. قف قليلا لأودعهم الوداع الأخير ثم مسحت آلام المرض الطويل وغسلت كل أسقامها المبرحة بكلمة لن أنساها طول حياتي كانت مفتاح الآخرة (دعوني أستريح. أشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله) ثم صارت جثة هامدة
سهرت ليلة من ليالي العمر بيضت سواد شعري، وكلما دقت الساعة دقت معها شعرة من رأسي لنعلن استحالة السواد بياضاً حتى أدركني الصباح
أنا غريب في هذه المدينة التي صارت مثوى زوجي، ومرقد جزء من أجزاء نفسي، وقد غادرت أمي في العاشرة من عمري لأطوف في نواحي الأرض في سبيل المصير الذي بعض عواقبه اليوم
ولا والله ما شعرت بلذع الغربة يحرق كبدي إلا في هذا اليوم العصيب.
ذهبت مبكراً إلى منزل الصديق الصدوق الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) أحسن الله جزاءه فأيقظته من النوم فعرف سر البكور قبل أن يلقاني وأن قضاء الله قد حمَّ، فجاءني مذعورا فقلت له (أفي مقبرة آل الرافعي مكان للغريبة؟)
ومشينا والنعش أمامنا، فرأيت بعيني سياج حياتي يتحطم، وضياء بيتي ينطفيء، وزوجي في ظلمات القبور!
فيا قبر رفقاً بها فقد كانت عزيزة علينا!! ويا أحجاره كوني على جدثها أوراق الجنة
(القاهرة)
حسنين حسن مخلوف