الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب الغربي

مجلة الرسالة/العدد 13/في الأدب الغربي

مجلة الرسالة - العدد 13
في الأدب الغربي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 07 - 1933


لامرتين والخريف

لامرتين شاعر رائق الفكر سليم الأسلوب رقيق العبارة. وهو واحد من

شعراء فرنسا المجيدين في القرن التاسع عشر. وإليه يعزى الفضل في

إحياء الشعر الغنائي الفرنسي الحديث.

حياته:

ولد في ماكون في (21 - 10 - 1790). وكان ابوه ملكيا متحمسا. وقد اضطر بعد عهد الإرهاب إلى الاعتكاف في ضيعته في بلدة ميلي مقربة من مسقط رأسه ماكون. وهناك شب ونما في أسرة حنون ومناظر طبيعية غاية في الجمال.

وقد ألقيت مقاليد تربيته إلى قسيس كريم كان لحبه للأقاصيص وكلفه بها أثر كبير في لامرتين حين كتب قصته (جوسلان أرسله أبوه بعد ذلك إلى كلية ليون ثم إلى مدرسة بليه الاكليريكية. وكانت دراسته حتى ذلك الحين ضئيلة تافهة قومها بعد خروجه من المدرسة بمطالعاته العديدة وبإمعانه النظر في الطبيعة وبجريه وراء الأحلام والخيال.

انتظم عام 14 في فرقة حرس الملك لويس الثامن عشر، ولم يتركها الا بعد (المائة يوم). وفي عام 1820 نشر مجموعة من الأشعار باسم (التأملات). وقد لاقت هذه المجموعة نجاحا منقطع النظير، وكان لها اثر كبير في شهرة لامرتين وتوجيه حياته في طريق العظمة والمجد. وفي العام التالي عين كاتبا لسر المفوضية الفرنسية بفلورنسا. ونشر عام 1823 مجموعة شعرية جديدة سماها (التأملات الجديدة) ثم دخل، بعد ذلك بسبع سنين، (الاكاديمية الفرنسية) وعكف علىّ الرحلة والأسفار فزار بلاد اليونان وسوريا وفلسطين. وكتب عند عودته، سياحة في الشرق.

غير ان الحياة السياسية جذبته إليها فرغب فيها، ومال إليها فرشح نفسه للنيابة وفاز في الانتخاب عام 1833 دون ان يكون له آراء أو مبادئ سياسية مرسومة محددة، ثم اندمج شيئا فشيئا في صفوف المعارضة. ووجهته أشعاره نحو الآراء الديمقراطية فاستقبلها وحفل بها. ويبدو ذلك جليا واضحا في مؤلفه (تاريخ الجيرونديين) عام 1847. وقد ساعد على سقوط الملكية بتمهيد الطريق لثورة يولية 1830 التي انتهت بخلع شارل العاشر، وبتنصيب مجلس النواب الفرنسي دوق أورليان (لويس فيليب فيما بعد) ملكا على الفرنسيين. وانتخب لامارتين عام 1848 وزيرا للخارجية في الحكومة المؤقتة التي تألفت من الجمهوريين والاشتراكيين حين ملَّت فرنسا حكم فيليب، الا أن لامارتين اضطر إلى اعتزال السياسة والعودة إلى الحياة الخاصة بعد ان حلَّ لويس نابليون المجلس وشتت أعضاءه عام 1851.

وقد كانت كهولة لامرتين محزنة اذ اضطر تحت عبء الحاجة للمال إلى الانقطاع إلى الإنتاج العاجل المهين لعبقريته والقاتل لذكائه. وقضى في 25 - 2 - 1869م بعد ان باع اكثر عقاره الموروث.

شعره:

هو شاعر عظيم ولكنه ليس بفنان موهوب، هو (هاوي الشعر) كما يقول هو عن نفسه. وهو لا يستطيع حين يعوزه الوحي والإلهام ان يفعل مثل غيره من الشعراء فيلجأ إلى كفاءته ومقدرته في الصياغة والتأليف ليسد بها حاجته وليشبع بها رغبته. غير ان مجموعة أشعاره الأولى (التأملات) تكفي من غير شك لأن تجعل من لامرتين شيخا للشعر الفرنسي الحديث. وقد ساعد على ذلك ان مجموعته الشعرية هذه تضمنت كل الصفات الغنائية التي فاتت شعراء القرن السالف الذين كانوا ينظمون أشعارا موسيقية في كل الموضوعات دون ان يفيضوا عليها شيئاً من أرواحهم. اما لامرتين فينشدنا ما أحس من فرح أو حزن ومن سرور أو ألم ومن راحة أو وصب.

وعبقرية لامرتين في مرونة أشعاره وتنوعها وفي تعبيره الدقيق عن العواطف السامية والإفصاح عنها الإفصاح كله.

وهو شاعر الطبيعة. عرف روح الأشياء وكنهها دون ان يتجشم مرة محاولة تصويرها وتلوينها وهو يحب على الأخص ساعات الغسق وفصل الخريف الذي تمتزج بمظاهره الأخيلة والأوهام في رقة وعذوبة. وهكذا يتلاشى فكره الذي ليس له من غاية محدودة في سحابات مبهمة عديدة وهو بعد ذلك يعرف كيف يستخلص لنا منها فكرة ويفصح عما يجول في خاطره في موسيقى عذبة جذابة.

وقد بلغ لامرتين بوضوح الأسلوب وصفائه وتوافق نظمه وإيقاعه (وهما خلتان لازمتان للكاتب) درجة لم يبلغها شاعر قط. وقد أبدع لامرتين (دون تكلف أو جهد أو صقل) في نظم أشعاره وترقيتها وتنغيمها. غير ان البساطة والسهولة اللتين نظم بهما أشعاره أساءتا إليه من حيث لا يدري، فقد جعلتاه عرضة للسهو واستعمال العبارات المبهمة الغامضة والقوافي النابية الركيكة وذلك نجده بوضوح حتى في القطع الجيدة القليلة من شعره.

مؤلفاته:

كتب لامرتين، غير أشعاره الغنائية التي أشهرها (التأملات الشعرية) و (التأملات الجديدة) أشعاراً اخرى قصصية وفلسفية نذكر منها (موت سقراط وجوسلان وسقوط ملاك). هذا إلى مجموعة من المذكرات والقصص مثل (رحلة في الشرق وروفائيل جرازيلا). وقد كتب أيضا في التاريخ (تاريخ الجيرونديين) ولم ينس في أخريات أيامه أن يكتب (دروسا عامة في الأدب).

والقطعة التي اعرض لترجمتها اليوم هي قطعة من مجموعة أشعاره التأملات الأولى. وقد كتبها في خريف عام 1819.

ولم تكن حالته الصحية وقتئذ على حال من الثبات والاستقرار. فقد كان نهبا لشتى الآلام والعلل. هذا إلى صدمة تلقاها من قبل اذ رفضت خطبته الآنسة ماريان اليسا بيرسن الإنجليزية التي أصبحت له فيما بعد زوجة. وهو يشير في الفقرة السابعة إلى هذا الأمل الضائع.

وقد أوحى بها إلى لامرتين نوبة حادة من الحزن والكمد وقد صار موضوعها من الموضوعات التي يتميز بها شعر جماعة (الرومانتكيين). فالخريف؛ صورة من الفناء والموت يحمل بين طياته الحسرة والندم على السعادة الذاهبة.

وقد كتب في هذا الموضوع نفر من الشعراء الإنجليز والفرنسيين الا ان لامرتين اسبغ عليه فيضا من التغييرات الدقيقة استخلصها من حس رقيق وخيال واسع وقريحة خصبة. قال:

1

سلام عليك أيتها الخمائل المكللة بفضلة من الخضرة! ويا أيتها الأوراق المصفرة المتناثرة على العشب سلام عليك أيتها الأيام الأخيرة الجميلة! ان حداد الطبيعة يلتئم وألمي ويتفق ومشاربي.

2

وها أنذا أسير في الطريق المنعزل حالماً مفكِّراً ويحلو لي ان أرى ثانية وللمرة الأخيرة الشمس الكاسفة وقد أخذ شعاعها الواهي الضئيل يكشف الطريق بعد لأي لقدمي وسط ظلمة الخمائل الحالكة.

3

حقاً أني أجد في لحاظ الطبيعة المحجبة حين تقضي في أيام الخريف جاذبية وسحرا، انها وداع صديق، بل هي ابتسامة لشفتين سيلجمهما عما قريب الموت إلى الأبد.

4

وها أنذا وقد شارفت أفق الحياة، ما زلت أتلفت وأنا ابكي أمل أيامي الطويلة المتلاشي، وانعم نظري في حزن وحسرة في محاسن الحياة التي لم أتمتع بها بعد.

5

يا أيتها الغبراء، ويا شمس ويا وديان، ويا أيتها الطبيعة الجميلة الحلوة، إني مدين لكن بدمعة وأنا على حافة قبري! ما أعبق النسائم بالعطور! وما أنقى الضوء! وما أجمل الشمس في نظر المحتضر!

6

كم أودُّ الآن أن استشف هذه الكأس وقد امتزج فيها الرحيق بالمرّْ. فلربما تبقى لي في هذه الكأس التي أتناول فيها الحياة، قطرة من الشهد.

7

ولربما أخفى لي المستقبل أيضا في ثناياه أوبة لسعادة ضاع الأمل فيها! ولربما تفهم نفسي؛ من بين الصفوف، نفس أجهلها فتجيبني!. . .

8

تسقط الزهرة تاركة عطرها للريح الدبور، وهذا وداعها للحياة وللشمس. وها أنذا أموت! وروحي حين تفيض تتصاعد كرجع صوت حزين شجي.

محمود فهمي ادريس. ليسانسييه في اللغة الفرنسية وأدبها

(الرسالة) نشرنا هذه المقالة تشجيعا لشبابنا الناشئين في الأدب ولعلهم قبل ان يفكروا في الكتابة يستكملون أداتها الضرورية من نحو وبيان، فان إهمال ذلك شر ما يؤاخذ به الكاتب.