الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 13/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 13/العلوم

بتاريخ: 15 - 07 - 1933


الاشعاع

للدكتور أحمد زكي. وكيل كلية العلوم

الاشعاع من أظهر ظواهر الوجود وأهم حادثاته الدائمة، تجده في المثل الصغير الحقير كما تجده في المثل الهائل الكبير، فالشمعة يحترق دهنها فيشع من احتراقه نور مضطرب ضئيل، يجهد ان يبدد من ظلمة الليل ما استطاع حتى يتبدد هو والنجوم تتوقد في السماوات العلى فتشع فتبعث في القبة الموحشة السوداء روحا وتبعث فيها جمالاً، ويتأجج هذا التنور السيار الهائل تلك الشعلة الدوارة الأبدية التي أسميناها الشمس، فتشع علينا بالنور والدفء، وبالهدى والحياة.

هذه أمثلة للإشعاع معروفة مألوفة، لأن العين تراها ولكنها ليست كل ما في الوجود من ذلك. ففي غير المألوف إشعاعات كثيرة لا تراها العين كشفها العلم. فالإشعاع اللاسلكي مثل حادث قريب الوقوع لا يزال يملأ قلوبنا بالإعجاب، ورءوسنا بالفكر والتأمل والحيرة، ولكنه ليس الا بعضا من كل، ومثلاً من مثل. تحدث ظواهر بينة الخلاف شديدة التغاير، وهي على شدة تغايرها وظاهر تناكرها وتعدد أسمائها حبات في عقد واحد وحلقات في سلسلة مطردة وأفراد من أسرة واحدة، تختلف سمة وتقاسيم ولوناً، ولكن تحت هذا الظاهر المضطرب باطن مستقر تلتقي جميعها فيه، وتتوحد جميعها عنده. ولكل شعاع من تلك الأشعة حكاية رائعة، وأحدوثة جميلة تنطق عن صبر للإنسان لا ينفد، وعن حيلة لا تعرف الخيبة، لا في استكشاف تلك الأشعة فحسب، بل في إلجامها وركوبها وتأنيسها حتى تكون ذلولاً طيِّعاً لا تنفر الا إذا أراد الإنسان منها النِفار، ولا تبطش الا حين يريدها على البطش. تناول السير اسحق نيوتن اظهر انواع الاشعاع بالبحث فأمرَّ أشعة الشمس في منشور ثلاثي من الزجاج، فبدل ان تخرج بيضاء كما دخلت، خرجت خليطا من أضواء عدة ذات ألوان عدة. فأعاد تجربته ثم أعاد فخرج على أن ضوء الشمس الأبيض مزيج من عدة أضواء، أي ان إشعاعها وان ظهر متجانسا خليط من جملة إشعاعات مستقلة الحدوث. وأسمى هذا المزيج بالطيف، فكان هذا هو الحجر الأول في بناء علم الإشعاع الحديث.

وانتقل الإنسان يسأل نفسه بعد ذلك: وكيف تسافر أشعة هذا الضوء؟ قال نيوتن انها تسافر في خطوط مستقيمة، وقال بنظريته المعروفة وفسر بها بعض الظواهر الضوئية كالانعكاس، وبالتدرج أخذ عقل الباحثين يقتنع بالشبه الذي بين سفر الضوء على متن الفضاء، وسفر الأمواج على متن الماء، حتى اهتدوا إلى إثبات أن أضواء الطيف إنما اختلفت ألوانها من الأحمر إلى البرتقالي إلى الأصفر إلى الأخضر إلى الأزرق إلى النيلي إلى البنفسجي لاختلاف في الطول بين موجاتها، واهتدوا كذلك إلى ان الضوء الواحد ذا اللون الواحد إذا ضعف أو اشتد فإنما يحدث ذلك لضعف الموجة او اشتدادها، اعني زيادة ارتفاعها وانخفاضها، او نقصهما عن مسارها المستقيم في الفضاء، وان شئت فسمِ ذلك اتساعها، اما طولها فثابت لا يتأثر ما بقي اللون على حاله، فان تغير طول الموجة تغير اللون، فاللون الأحمر أطول موجة من البنفسجي؛ ولو انك وقفت في مسار هذين اللونين وعددت موجات الأحمر التي تمر عليك في ثانية، وعددت مثال ذلك من البنفسجي لوجدت عدد موجات الأحمر أي ذبذبته أقل لطول موجتها من ذبذبة البنفسجي. وخرج العلماء من هذا كله بان الشعاعة تتعين وتتحدد بذبذبتها وبطول موجتها وبسعتها.

بعد ذلك تساءلوا عما يحمل موجة الضوء من مكان إلى مكان. موج البحر يحمله الماء. وتهز الحبل فتسير فيه موجة تبتدئ من حيث مسته يدك وتنتهي حيث ربطته من الحائط. فالحبل أو كتانه هو الذي حمل موجته. فأي مادة حملت موجة الضياء حتى أتتنا من الشمس والقمر والكواكب؟ ليست هي مادة الهواء، فإنما الهواء غلاف كقشرة البرتقالة يلف الأرض ولا يصعد إلا أميالا نحو السماء، وليست هي مادة مما نعرف من المواد، بل ان الضوء يسير في الفراغ، فإن الأنابيب المفرغة بالمعنى الذي نفهمه لا تعوق الضوء في انسيابه. ولكن الموجة طاقة متنقلة، والطاقة لابد ان يتقمصها شيء. فما هو هذا الشيء الذي عجزت حواسنا الموهوبة عن إدراكه وآلاتنا مهما دقَّت عن كشفه؟ والآلات كثيرا ما بصرت بما عميت عنه العين، وسمعت ما صمت عنه الآذان، وناءت بأثقال توافه لا تحفل بها اليد. ما هو هذا الشيء المعدوم في وجوده، الموجود في عدمه؟ ان هذا الشيء معدوم عند العقل العادي الذي لا يؤمن الا بالذي يراه، ولكنه موجود عند العقل العلمي الذي يتخذ من الآلات حواس جديدة فوق حواسه الخمس، ويتخذ من حقائق العلم وتجارب العلم وماضي العلم وحاضره ومآسيه ومفارحه دروسا وعبراً، ويتخذ من التفكير العلمي وحواره وحجاجه واستنتاجه منطقا جديدا غير منطق الشراب والطعام والملبس والمركب. موجود عند ذلك العقل العلمي الذي لبس جناحين من ذكر للماضي عاصم من خدعاته وثقة جريئة في المستقبل لا تعرف إلا الإمكان، يطير بهما في مجاهل لا يغني فيها السمع والبصر، ومفاوز على حدود البشرية أشبه بالمعاني منها بالمباني، وبالأرواح اللطيفة منها بالأجسام الكثيفة، هذا الشيء الذي لابد أن تسير فيه موجات الضوء موجود عند ذلك العقل العلمي بالرغم من ظاهر انعدامه، منظور بالرغم من خفائه، ملموس ولو أفلتته الاصابع. وإذن فلا بد له من اسم. فأسموه الأثير. وما مادته؟ لست أدري ولا المنجِّم يدري. وما خواصه؟ لا يعرفها حتى الذي اسماه. سئل الأستاذ أوليفر لودج العالم الطبيعي المعروف عن تعريف له فقال في كلمات ثلاث: هو شيء يتموج. وان كان لابد لك من تعريف فقل انه شيء له من الخواص ما يأذن بانتقال موجات الضوء فيه على نحو ما نعرف وفقا للقوانين التي نعرف، والسرعة الهائلة التي نعهد. فمثلا نعرف ان سرعة الموجة تتوقف على كثافة المجال الذي تنطلق فيه، ونعرف ان الضوء في سيره يقطع في طرفة العين ولمحة الخاطر مسافات يصعب على خيال المرء تصويرها، فنستنتج من هاتين الحقيقتين ان الكتلة التي في سنتمتر مكعب من هذا الأثير لابد ان تكون هائلة المقدار. وبعد ان درس العلماء الوان الطيف وهو كالسلم بدرجاته السبع، أسفلها الأحمر وهو أطولها موجة وأبطأها ذبذبة، وأعلاها البنفسجي وهو أقصرها موجة وأسرعها ذبذبة أخذوا يبحثون عن موجات أسفل من الأحمر وأطول منه موجة، وعن اخرى أعلى من البنفسجي وأقصر منه موجة، فهدتهم التجارب إلى صدق ما حدسوا: إلى موجات دون الأحمر وهي الموجات التي تنتقل بها الحرارة من بين ما تنتقل، وإلى موجات فوق البنفسجي وهي موجات ذات خواص كيميائية تستخدم في التصوير الشمسي، وأمرها الآن معروف ومشهود، وكلا هذين النوعين من الاشعاع غير منظور، فالعين لا ترى الا سلَّم الطيف بدرجاته السبع.

وأحس الطبيعيون بأن شعاعات أخرى لابد موجودة فيما دون الأحمر غير التي اكتشفت، فأجرى العالم الطبيعي (هرثر) تجاربه فكشف بها عن موجات جديدة غير مرئية وجدها شبيهة بموجات الضوء والحرارة، الا انها اكثر طولا واقل ذبذبة، وسميت باسمه. وفي الناحية الاخرى في أعلى السلم اكتشفت موجات غير مرئية اخرى قليلة الطول كثيرة الذبذبة، سميت بالأشعة الكهربائية المغناطيسية، ثم تلتها الأشعة (السينية) المعروفة بأشعة (اكس) وقد أفادت الطب اكبر فائدة وهي تنفذ في الرصاص إلى نحو من خمسة سنتمترات. واليوم نتحدث عن الأشعة (الكونية) صعد الأستاذ منطاده في بالونه المشهور إلى طبقات الجو العليا في طلبها، وتحدثت عنها وعنه الجرائد منذ أشهر قليلة. وهذا الاشعاع الجديد لا يتوقف انبعاثه على الكرة الأرضية التي لنا الحظ بالعيش عليها فهو ينبعث صباح مساء في الصيف والشتاء غير آبه لنا أو لها، وينبعث حاملا طاقة واحدة لا تزيد ولا تنقص ينفذ بها في الرصاص بضعة أمتار وفي الماء نحو 800 قدم. ما أثر هذه الأشعة الجديدة اكتشافا، الأزلية مولداً، فيما على الأرض من حياة؟ ما أثرها في حياة النبات والحيوان وفي حياتنا نحن وارثي الأرض وما عليها؟ يقول الأستاذ السير جيمس جينز ان هذه الأشعة تحلل في الثانية الواحدة ملايين الجزئيات من أجسامنا. ان كان هذا حقا فما اثقل النعاس الذي كنا فيه حتى نمنا كل هذه القرون والأجيال عن أمر له هذا المساس القريب بذواتنا. ويا ترى كم من أمواج اخرى في هذا الفضاء تعمل فينا وفي أجسامنا وفي أرواحنا، ونحن عنها غافلون. وهل يا ترى سنجد في هذا النوع من الاشعاع تفسيرا لبلي الجديد وشيخوخة الشباب وفناء الحي. أذكر من سنوات عدة كلمة للسير أوليفر لودج لا أنساها الا إذا نسيت حضرته الرائعة، تروعك منها قامته الطويلة وكتفاه العريضان ورأسه العظيم يطل عليك من فوق جسمه الكبير مجللا بالشيب ولحية وقورة بيضاء صافية كصفاء ايمانه، وعينان وادعتان تنظر اليك منهما حقب من الزمان امتلأت علما وفكرا في مبنى الوجود ومعناه. كان يحاضرنا في جمع حافل أتى يستمع للعالم الشيخ فساقه ختام المقال إلى عفو من الكلام قال: (أنا هنا واقف بينكم في القرن العشرين في قاعة مملوءة بأنواع عدة من أمواج عدة (يقصد الأمواج اللاسلكية) منبعثة في اتجاهات عدة وكلنا صموت نتسمع ولكننا لا نسمع شيئا. ولكننا جميعا برغم ذلك مؤمنون بوجودها. ولو أني وقفت بينكم هذا الموقف في القرن الغابر أحدثكم عن هذي الأمواج لقلتم خرف أصابه مس الكبر. الفرق بين الموقفين فرق بين الزمنين، ذلك أني اليوم أستطيع أن أعيركم هذه الأذن الجديدة (وأشار إلى سماعة اللاسلكي التي تلتقط الأمواج) تسمعون بها ما عجزت عن سماعه آذانكم. ثم دار الأستاذ بعينيه في أرجاء الحجرة الواسعة في صمت وبطئ كأنما يستوحي جدرانها ثم قال: (ليت شعري كم بهذه الغرفة الآن من أمواج غير التي نحن بصددها، وليت شعري أي الآذان يبتدعها الإنسان لادراكها، وليت شعري متى يكون هذا. . . وأنّى، واين؟) ثم صمت يفكر وصمتنا ننظر. فقال (ما الخاطر يرد لي ولك في آن وبيننا الأقطار العريضة والبلاد الواسعة؟ ما النذير يأتي قلبي وقلبك بالشر فيصدق حينا ويكذب حينا؟ ما الايحاء؟ ما الوحي؟) وفنيت جملته في تمتمة لم نسمعها، ورسمت يمناه في الهواء دوائر كأنما كانت تستكمل له رأياً لم يبح به أو فكرة وجد من الكياسة لا يذيعها، او لعله الهام جاءه على غير احتساب فشاء ان يتذوقه في مخدعه فردا قبل ان يكون للجماعة شأن فيه. وفي العلم الهام كما في الشعر الهام، وكما في النبوة وحي؟