الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 128/القصص

مجلة الرسالة/العدد 128/القصص

بتاريخ: 16 - 12 - 1935


صور من هوميروس

17 - حروب طَرْوادة

طوفان للأستاذ دريني خشبة

تفَزّغ الطرواديون مما أخذهم به أخيل؛ وزادهم خبالا هذا الظلام الذي راحوا يضربون فيه على غير هدى، والذي تمد حيرا في دياجيره فيتدجى فوق الساحة الصاخبة، ويمكن لابن بليوس من أعدائه فيضرب في أقفيتهم، ويهوي على أعناقهم، ويمسح بِسُوقهم ويضرب كل بنان

وضاق الجسر بجموع الفارين، فاضطروا إلى خوض عباب النهر الزاخر، وخَوَّضوا فيه بخيلهم ورجلهم. . وتطامن لهم سكمندر فسكنت أواذيه، ونامت جراجره، وانكشف قاعه عن حصباء كالدر النضيد. . . .

وتبعتهم أخيل فخاض مياه النهر، ثم أعمل سيفه ورمحه، فكانت شآبيب الماء تختلط وشآبيب الدماء، وأنين القتلى يمتزج وأصداء المنهزمين، والجماجم المنتثرة تصطدم بالأشلاء الطافية هنا وهناك، والسماء الكاسفة ترسل عقبانها تغتذي بالجزر المتساقط في رحب المعركة، من بطون مبقورة، وهام مُفَلّةٍ، ولحم مقروم. . . . . . . . .

واستطاع أخيل أن يحصر اثني عشر شاباً فيأخذ عليهم سبيل الفرار، وفضل أن يرسلهم إلى سفائنه أسرى حتى لا يثخن في الأرض، وحتى يشهدوا ثمة ذلك القتيل المسجي، تسقيه ذيتيس الحزينة خمرا؛ فكبل أرجلهم وأيديهم من خلاف، ووكل بهم جماعة من رجاله فقادوهم إلى الأسطول، بعد ما وقفوا هنيهةً أمام جثة بتروكلوس، يؤدون لها تحية المعركة التي دارت رحاها عليهم، واصطلوا من بعده بنارها

وطفق أخيل يأخذ الجموع من كل حدب، ويلقاهم في كل صوب، حتى كان وجهاً لوجه أمام ليكاون بن بريام، الذي كانت له معه قصة قديمة مشجية، زمان إذ أسره أخيل واستاق قطعانه، وحبسه في جزيرة لمنوس، حتى افتداه أهله من الحرس الموكل به، ورشوهم بمائة ثور جسد ذي خوار ليطلقوا سراحه! مسكين ليكاون بن بريام! لقد فر من جزيرة لمنوس منذ اثني عشر يوماً فقط، وسعى إلى هذه الساحة النكراء ليلقى فوق أديمها حتفه، كما لقيه أخوه بوليدور من قبل

ودهش أخيل إذ رأى ابن بريام يذرع الميدان أمامه، وعجب من أفلته من منفاه السحيق في عرض البحر. . . ثم أيقن أن في الأمر مكيدة. . فانقض على الفتى المسكين انقضاض الباشق، وأرسل إليهطعنة نجلاء كادت تخترم أجله، لولا هذه اللفتة الرشيقة التي أنفتلها الشاب فأنقذت حياته. . . ولو إلى حين!

وفتح الفتى عينيه فنظر إلى شبح الموت تنتشر سماديره من ظباة أخيل، وأحس كأن هذا الشبح يلاحقه في كل مكان فيقبض على عنقه ويضغطه، ثم ينشب فيه أظافره فيسري السم في هيكله الخاوي فلا يكاد يبين!

وحاول أن ينجو من روع هذا الموقف. . ولكنه كان أبطأ من حتفه الذي يسابقه، فلما أيقن أن لا سبيل إلى الفرار، ألقى سلاحه وتقدم إلى أخيل فقبل ثرى الساحة عند قدميه، ثم لف ذراعيه المرتجفتين حول ساقْي زعيم الميرميدون، وطفق يضرع إليهألا يقتله. . (فان لي أماً محزونة ما تفتأ ترسل دموعها على أخي بوليدور الذي قتلته منذ لحظة، والذي أذويت شبابه النضر ولم تبق على عوده الفينان، ولم ترحم فيه قلوباً تعطف عليه، وأباً شيخاً أصبته في ولده بقاصمة الظهر. . .

أرسلني يا أخيل تباركك الآلهة، وترعاك أرباب الأولمب، ولا تفجع فيّ ذيْنك القلبين الحنيين على، الحفيين بي. . .)

وكان الفتى يغسل توسلاته بعبرات شبابه، ويصهرها بآهات صباه. . . ولكن أخيل الذي يضطرم حزناً على بيروكلوس، لمتأخذه رحمة في ابن بريام المسكين، وأخي هكتور الذميم. . .! بل استل جزاره البتار وأهوى به على عنق الفتى. . . فطاح الرأس الطروادي الكريم!

وكان البطل الطروادي العظيم، سترابيوس بن بلجون، رب البركات، الذي يدين له بحياته أكسيوس رب النهر الشرقي الكبير. . . كان سترابيوس على مقربة من أخيل وهو يصرع ليكاون بن بريام، فجزع - شهدت الآلهة - على ابن الملك، وأحزنه ألا يرق أخيل لتوسلاته؛ ووقر في نفسه أن يقتص له من هذا الشيطان، ويخلص الطرواديين منه، فيطير ذكره في الخافقين ويقترن اسمه بما لم يقترن به اسم أحد في العالمين. فيمم شطر أخيل والكبرياء تنفح أوداجه، والغرور يشيع في أعطافه، ثم هز رمحه هزة المتحدي الخصيم. . .

وزجره أخيل فلم يزدجر، فانقض عليه انقضاض الحتف، وأخذه أخذ المنية، لا تجدي فيها إذا أنشبت أظافرها النمائم، ولا تدفعها الرُّقي، ولا تُفلت من أقصدته ولو كان في برج مشيد!

وأرسل أخيل رمحه كالصاعقة، لو لقي الصخر لقده، أو الجبل لنفذ فيه، ولكن سترابيوس كان أرشق من أن يلقي الطعنة فانزلق انزلاقه خفيفةً أذهبت الرمح في الهواء، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ ومن ثمة راح يداعب أخيل حتى أحنقه وحتى بلغ الغيظ منه، فامتشق بن بليوس سيفه وصرخ صرخة رجفت لها السماء، وانصدع من هولها جانب الجبل، وهجم على سترابيوس هجمة رابيةً فلم يفلته، بل أرسل السيف في بطنه فخرج سنانه من ظهره، وبرزت الأمعاء فاجتمعت حولها أسماك الماء، تنوشها وتتغذى بها.

وريع سكمندر، رب النهر العظيم، إذ نظر فرأى ابن ضيفه المقدام، يلفظ أنفاسه، ويُساقط نفَسه، فدارت الأرض به، وضاقت عليه بما رحبت، وتجهم من تَوّه لأخيل، وود لو انشق فابتلع ابن بليوس آخر الدهر، أو لو يأخذ هو سيفاً فيقد به أضلاعه، ويطيح به رأسه، ويريح العالم من بأسه. لكنه آثر، كأله له وقاره، أن ينذر أخيل ويأخذه بالحيلة، فخاطبه من القرار، قال: (أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أنا لا يهمني أن تصطلم الطرواديين جميعاً، ما دام زيوس قد سلّطك عليهم ورماهم بك. . . أنا لا يهمني من ذلك شيء. . . ولكن الذي يحزنني ويضيق به صدري هذه الجثث الكثيرة التي يعج بها عبابي، وينتشر منها الخبث في أرجائي. . . لقد أنتنت يا أخيل، وخالطت عذوبة مائي، ولم يعد لي بها طاقة، ولا عليها جلد. . . وهي إلى ذلك كادت تقف تياري، وتشل حركتي. . . فهلم فارفعها عني، وقف التصريع والتقتيل حتى تطهر مجراي من أدرانها وحتى ألفظ أنا إلى البحر ديدانها. . .)

وتبسم أخيل قائلا: (أما أن أقف هذه الحرب فلا سبيل إلى ذلك حتى آخذ بثأر بتروكلوس، وحتى أدك طروادة على رأس هكتور، فاما أن ألقاه فأقتله وإما إن يلقاني فيقتلني؛ وأما أن أطهر مجراك من هذه الجثث الطافية فوقه فليس لي الآن بذلك يدان. . . أو تضع هذه الحرب أوزارها. . .)

وحنق سكمندر العظيم، وانطلق إلى أبوللو يكلمه في أمر أخيل، ولم يدعه أبوللو حتى أغراه بابن بليوس أعدى أعدائه، وأشد شانئيه، وحتى أثاره عليه، وهاج فيه كل حقد دفين. وعاد سكمندر فأشار إلى الماء فعلا وفاض، وإلى الموج فتلاطم وجرجر، وإلى الأواذي فدوّمت وهوّمت، ولاحقت أخيل من ههنا ومن ههنا؛ وظن ابن بليوس إلى الخطر الذي أوشك أن يحيق به فهرع يحاول الفرار. . . ولآت حين فرار. . . فقد أزبد الموج، وانساب العباب، وتشققت الأرض عيوناً ومسايل، وعَمُقت اللجة، وبعد ما بين سطحها وبين قدمي أخيل، أو ما بينه وبين قرارها، فأطلق المسكين ذراعيه يسبح في أغوارها، ويتعلق بالجثث الطافية فوقها

وأشتد الخطب، وعظم الكرب، وصرخ أخيل يستنجد أربابه، فما كادت حيرا تسمعه حتى فزعت إليه، وأمرت فلكان ابنها فانطلق يجفف الأمواه بنيرانه، ويرسل على الطوفان بدخانه، ويستعين في كل ذلك بآلهة الريح التي هرعت إليهمن كل صوب تساعده، وكان زفيروس الكريم يهب على النهر اللجي سجسجاً، ويذهب منه بكل مزنةٍ مثقلة، وديمة محملة، فلم يمض غير بعيد حتى صفا الجو، وغيض الماء، وبرز أخيل يحمل عدته، فطربت الآلهة لنجاته، وانقض فلكان على سكمندر يحاول أن يثأر لأخيل منه. . .! ولكن بعد أن عاهد حيرا - إذ هي صدت عنه ولدها فلكان - أن يحصر الطرواديين بموجه، فلا يمكنهم من الدخول إلى مدينتهم، ويجعلهم بذلك هدفاً لأخيل يصنع بهم ما يشاء!!

وتثار الخصومة بين الآلهة لموقف فلكان من سكمندر. . . ويغيظ مارس من مينرفا أنها تؤيد فلكان وتحرضه على رب النهر المسكين الذي أفزعته النيران تأخذه من كل حدب. . . فتقدم إليها وطفق يقرعها وتقرعه، ويرميها بالمثالب وترميه بها. . . ثم تناول رمحه العظيم واستجمع كل قوته، وأرسله يود لو يقضي به على ربة الحكمة الحازمة، ولكن، ويل لك يا مارس! لقد ارتد الرمح فلم يستطع إلى درع مينرفا من سبيل. . . وانحنت الآلهة المغيظة فأخذت حجراً من أكبرا حجارة الجبل وقذفت به مارس فدكت عنقه، وتركته على السفح الشاحب لَقًي من ألقاء هذه الحرب!

وظل مارس ممدداً على السفح يخور ويئن، ويتلوى بجثته العظيمة التي كانت ترتطم بالجيل فتميد به، وتهزه هزاً ظاهراً

وأقبلت فينوس فوقفت تواسي مارس وتهون عليه ما فعلت به مينرفا، ثم أنهضته وانصرفت به، ولكن حيرا أرسلت في إثرهما مينرفا، ترى ما يكون من أمرهما. . . بعد كل تلك الفضائح التي لوثت شرفهما، وجعلت اسمهما مضغة في جميع الأفواه. . .

وأقبلت فينوس على مارس تشفي حرقةً في قلبه، وتنيله من قبلاتها ما تنسيه به بعض الذي لقيه من أذى. . . ولكن مينرفا أهابت بهما. . .! وطفقت تنصح لهما أن يدعا اليوم فلا ينصرانها على شعبهما المختار. . . هيلاس العزيزة! ولكن. . .! لقد أسمعت لو ناديت حياً. . .! فلقد أعطيت فينوس موثقاً، وان فينوس لصادقة. . .!!

وانطلق نبتون يعظ أبوللو، ويصرفه هو الآخر عن مؤازرة الطرواديين، فذكر له أيام أن نفاهما زيوس إلى أقصى الأرض، فأتيا إلى طروادة، وعملا في خدمة أميدون الجبار، الذي لم يتورع أن يرسل أبوللو فيرعى له قطعانه، ويسمّن نعمه وشاءه، كأن لم يكن أبوللو أبن إله عظيم، وكأن لم يكن هو نفسه إلهاً عظيماً!!. . . (أتذكر هذه الأيام يا أخي أبوللو!!. . أتذكر أيام أن كان هذا العاتية العنيد يسومنا الذل، ويقهرنا أرهق القهر، وينزل بنا أشد ألوان الخسف، متذرعاً بغضب سيد الأولمب علينا، لا تأخذه فينا رحمة، ولا يهمه أن نبرم ونتسخط ما دام - فيما كان يزعم - يؤدي ما أمره به أبوك زيوس!!

فيم هذه المناصرة كلها لطروادة يا أبوللو؟. . . ماذا تذكر من حسنات لملكها اللعين أوميدون؟! أنسيت يوم أسخطناه بالتراخي قليلاً في عملنا، فأمر بنا فقطعت آذاننا وشد وثاقنا، وأصبحنا ضحكة كل راء؟!. . . لا لا يا أبوللو. . . أنا لا أرتضي لك أن تكون غبياً إلى هذا الحد. . .)

وعملت فيه كلمات العم نبيتون عملها، فعاهده ألا يخوض غمار هذه الحرب كرة أخرى، وقاسمه ألا يسدد فيها بعد اليوم سهما. . . ولو عيرته أخته ديانا ألف تعيير!!!

وماذا لو عيرته ديانا، ورمته بالجبن أمام نبيتون؟! ها هي ذي حيرا تسمع إلى ربة القمر، فتقذفها أشنع القذف وأمره، ثم تهجم عليها فتكبلها، وتنثر كنانة سهامها، وتمضي بعد ذلك لشأنها. . . وتأتي لاتونا - أم ديانا الباكية - فتواسيها وتذهب وإياها إلى زيوس. . . المتربع فوق سدة الأولمب، فتشكو إليهما لحق ابنتها من زوجه. . . ويغضي الآلة. . . لأنه ليس له على حيرا يدان. . . . . .!

ويتم الظفر لأخيل وجنده بعد إذ ينسحب أبوللو من المعركة، فيأخذ الطرواديين أخذ عزيز مقتدر؛ ويقف بريام الملك في برج شاهق يطلع على الساحة، ويشهد هزائم جنده، فتدمع عيناه. . . ويأمر بالبوابة الكبرى فتفتح، ويهرع الجنود ناحيتها فراراً من أخيل وشياطين أخيل، ولكن أخيل وشياطين أخيل تشطر الجنود الفارين شطرين، بل يستطيع أخيل وكوكبة قوية من الميرميدون أن ينفذوا إلى البوابة الكبرى، ويدخلوا طروادة فاتحين. . . . . . . . .!!

وهناك! يثبت لهم أجينور البطل الطروادي الحلاحل، ويأخذ مع أخيل في ملاحاة عنيفة، ثم يتقارعان برهة، ويصاول أحدهما الآخر. . .

ويكون. . . أبوللو. . .!! إلى جانب أجينور يحضه ويحرضه، ويثبت قدميه. . . ناسياً مواثقه التي قطعها على نفسه أمام نيبتون. . . . . .

ويهم أخيل أن يبطش بفتى طروادة

لولا أن يعز على أبوللو أن يلحق أجينور بصاحبه استرابيوس من قبل، وبعشرات الأبطال من مثل سترابيوس، فيتقدم إلى أجينور يحميه، ويرسل عليه سحابة بيضاء فيحمله فيها. . . . مضللا أخيل عن خصمه. . . ومبعده خارج البوابة التي يقفلها الطرواديون من دونه. . . . . .

(لها بقية)

دريني خشبة