مجلة الرسالة/العدد 127/قصة المكروب
→ مذاهب الفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 127 قصة المكروب [[مؤلف:|]] |
نظرية النسبية الخصوصية ← |
بتاريخ: 09 - 12 - 1935 |
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
كوخ
رابع غزاة المكروب
طبيب القرية الذي ضجر بالطب لجهله أسباب الداء ثم ادعائه علاجه؛ الذي شغله البحث في أصول الأمراض عن مداواة أربابها؛ الذي حقق أحلام بستور وأثبت أن المكروب ينتج الأمراض، وأن لكل مرض مكروباً يخصه، ويخصه وحده؛ الذي علم الدنيا كيف تصطاد النوع الواحد من المكروبات، وتصطاده خالصاً خالياً من الأخلاط؛ الذي كشف مكروب الجمرة الخبيثة، قاتلة الماشية والإنسان، ومكروب السل قاتل الإنسان والحيوان؛ الرجل الذي كشف مكروب الكوليرا على أرض مصروفي أجسام ضحاياها. البطل الذي نزل بساحات الموت فأظلته فيها أرفع بنوده، وقاتلته على أرضها أفتك جنوده، فأسر منها على هواه، وخرج عنها سالماً قد أخطأته سهامها قضاء وقدراً.
المترجم
- 3 -
كان كوخ مستقرّ النفس، بارد العاطفة؛ فلما نجا من هذه المخاطر بسلام، وأصاب بها ما أمّل من نجاح، لم يَدُرْ بخلده أنه أصبح في عداد الأبطال، ولم يخطر بباله أن ينشر أبحاثه في الناس. واليوم إذا أنجز الرجل الباحث عملاً بارعاً كهذا، وكشف عن أسرار لها مثل هذه الخطورة، استحال عليه أن يعقد لسانه فلا يتحدث بها.
وظل يسخّر نفسه في العمل تسخيراً، ويذلها فيه تذليلاً، وهو في ذلك ساكت صامت، حتى ليكاد المرء يتهم هذا الطبيب الريفيّ الألماني العبقريّ بأنه لم يدرك مقدار الجمال والخطر الذي كان في تلك التجارب التي أجراها وحيداً في عزلته وانزوائه.
نعم تابع العمل وصابره، فلا بد له أن يعلم فوق الذي علمه؛ فأخذ يحقن الخنازير الغينية والأرانب، والشياه أخيراً، بذلك السائل ذي المظهر الطاهر والمخبر القاتل من قطراته العالقة. ولم تكد تدخل هذه الآلاف القليلة من المكروب إلى دم هذه الحيوانات حتى يتضاعف عددها بلايين المرات بسرعة واحدة، وبفظاعة واحدة، في الفأر الصغير والشاة الكبيرة على السواء؛ ولا تمضي ساعات حتى تعج بها أنسجة كانت سليمة تزدحم في الشرايين الصغيرة والأوردة الرفيعة حتى تختنق بها، وحتى يستحيل الدم الأحمر القاني إلى دم رهيب أسود - فتنفق الشياه، وتفنى الخنازير والأرانب.
كان كوخ في الأطباء واحداً من سوادٍ كثير، فلم يكن له اسم، ولم يكن لحاله ذكر، ولكنه فارق هذا السواد بغتة، وارتفع مصعداً إلى صفوف الأمجاد الخالدين من الباحثين؛ وكان كلما مهر في اصطياد المكروب ساءت عنايته بمرضاه بقدر ذلك؛ صاحت أطفالٌ رُضّعٌ في ضياع بعيدة، ولكن الطبيب لم يحضر؛ واحتد الألم في أضراس فلاحين، فاصطبروا على أوجاعهم ساعات مضنيات، ولكن دون جدوى؛ واضطُرّ كوخ أخيراً أن يحول نصيباً من مرضاه على طبيب آخر؛ وقل حظ زوجته من رؤيته وزاد همها، وودت إليه ألا يخرج إلى مرضاه وبه رائحة كيميائياته وحيواناته. أما هو فلم تصله شكوى زوجه، ولا صوت مرضاه، فلو أنهم وهم القريبون منه صاحوا له من وراء النصف الأبعد للقمر ما زادوا ولا نقصوا في أسماعهم إياه - ذلك أن قضية خفية جديدة ساورت رأسه، وملكت لبه، وأسهرته الليالي، قال لنفسه:
هذه البشلات تموت وشيكاً على قطعة الزجاج تحت المجهر، فأنى لها وهي بهذا الضعف أن تنتقل في الطبيعة من حيوان مريض بالجمرة إلى الحيوان جدّ سليم؟
وكان فلاحوا أوربا والبيطريين فيها يؤمنون بخرافات غريبة عن أسباب هذا المرض، وعن تلك القوة الخفية لهذا الوباء، وقد أُصلِت كالسيف فوق رقاب أغنامهم وأبقارهم لا يدرون متى يهبط عليها بالقتل المروع الذريع. أما هذه البشلات الصغيرة الضئيلة التي لا يبلغ طول الواحدة منها جزءاً من ألف من المليمتر، فلن يتصور عاقل أنها سبب هذا المرض الفظيع.
قال البقارون والغنامون لكوخ: (يا سيدنا الدكتور، هب أن مكروباتك الصغيرة تقتل أبقارنا وأغنامنا، فقل لنا بالله إن كان هذا حقاً، كيف أن القطيع يكون سليماً في مرتع، يأكل ويشرب، ويثب ويلعب، فإذا نقلناه إلى مرتع آخر، كثير العشب، وافر النعمة، امتنع أكله، وذهب لعبه، وتساقطت وحداته، وماتت سريعاً كأنها الذباب).
كان كوخ يعلم أن هذه الوقائع حقاً لا كذب فيها، كان يعلم أن في أوفرن بفرنسا جبالاً خضراء لا تذهب إليها قطعان الأغنام حتى يأخذها الموت واحدة واحدة، أو عشرة عشرة، حتى ومائة مائة، بسبب هذا الداء الأسود داء الجمرة؛ واجتمع الفلاحون حول نيرانهم في ليالي الشتاء الباردة وأخذوا يتهامسون: (إن حقولنا ملعونة مسكونة).
وحار كوخ في أمره - وكيف تقوى هذه البشلات الدقيقة على العيش سنوات عديدة في مثل هذا الشتاء، فوق هذه الحقول، وعلى تلك الجبال؟ كيف يكون هذا؟ وهو حين أخذ شيئاً من طحال فأر وبئ، ونشره على شريحة من الزجاج، وأخذ ينظر إليه من المجهر، وجد المكروب قد عجز عن الحياة، فانبهمت حدوده، وانتشر جرمه، واختفت صورته اختفاء؛ نعم كيف يكون، وهو لّما وضع من بعد هذا على المكروب فوق شريحة الزجاج سائلاً من عين ثور، وهو نعم الغذاء الطيب، لم ينم المكروب، ولم يتكاثر، وهل تتكاثر الأموات؟ ثم هو لما جفف هذا الدم الوبئ وحقنه في فئران، ظلت في أقفاصها تلهو وتمرح ناعمة بالحياة؛ إذن هذه المكروبات ماتت؛ نعم ماتت هذه المكروبات التي كانت تقتل الشاة السمينة والبقرة الضخمة الكبيرة على السواء.
وتسائل كوخ: (هذه المكروبات تموت على زجاجاتي النظيفة اللامعة في يومين اثنين، فكيف استطاعت أن تواصل الحياة على الحقول زماناً طويلاً؟).
وذات يوم وقع بصره على حَدَث غريب تحت مجهره - تحولٍ عجيب أدى به إلى حل الطلسم الذي أعجزه. وجلس كوخ على كرسيه بمعمله الصغير في بروسيا الشرقية وكشف السر المخبوء في حقول فرنسا وجبالها؛ وحكاية ذلك أنه جاء بقطرة من قطراته العالقة، وهي حبيسةٌ في نقرتها الضيقة من شريحة الزجاج، وتركها في مدفأ درجة حرارته كدرجة جسم الفأر، وخلفها هناك أربعاً وعشرين ساعة، فلما عاد قال: (لا بد أن يكون المكروب قد نما في القطرة واستطال خيوطاً طويلة كطول تلك التي تنمو في أجسام الفئران). ونظر في المكرسكوب فوجد غير الذي أمّله. وجد أن الخيوط بعد أن استكملت طولها، أخذت حدودها تنبهم، وتنقط الخيط بأجسام بيضاوية لمعت كحبات الزجاج، وانتظمت على طوله كعقد اللؤلؤ، بَرَق واستقام.
استاء كوخ أول الأمر، فسخط ولعن، وحسب أن غريباً من المكروب دخل إلى مكروبه فأفسده، ولكنه لما أعاد النظرة وجد حُسبانه الأول خاطئاً، فالحبات اللامعة كانت في داخل خيوط المكروب، وهذه الخيوط نفسها هي التي تحولت إلى تلك الحبات. وجفف كوخ قطرته العالقة، وحفظ ما بقي منها على الزجاج شهراً أو بعض شهر. ثم شاء القدر أن يعود فينظر إليها من خلال عدسته، فوجد العقود لا تزال على لمعانها؛ فخطر له أن يجري شيئاً من التجارب عليها. فأتى بقطرة صافية من عين ثور، فأسقطها على تلك المكروبات التي استحالت عقوداً، وأخذ ينظر إليها فإذا بالحبّات تنمو فتصير إلى بشلات، ثم إلى خيوط طويلة مرة أخرى. عام رأس كوخ اختلاطاً واندهاشاً.
قال: (إن هذه الحبات البارقة الغريبة قد عادت فاستحالت بشلات تارة أخرى، فهذه بذور المكروب، صوره الأمتن التي تصمد للحر الشديد والبرد القارص والجاف القاتل. . . . . . لا بد أن المكروب على هذه الصورة يستطيع البقاء طويلاً في الحقول، لا بد أن البشلات تستحيل إلى هذه البذور).
وقام كوخ عندئذ بجملة من التجارب الدقيقة البارعة، أجراها ليمتحن صحة ظنه في هذه البذور، فاستخرج طحالات من فئران مجمورة، استخرجها الآن بحذق ظاهر بعد الخبرة والمران، ورفع هذه الأطحلة، وفيها الموت، على مشارط وبملاقط طهرت في النار، واحتاط ما استطاع الحيطة ألا تمسها مكروبات من التي تسبح على ضلال في الهواء، وحفظها يومياً في درجة حرارة كالتي لجسم الفأر. فلم يكذب ظنه، فخيوط المكروب استحالت إلى حبات من البذور بارقة كالزجاج، وتلا هذه بتجارب عديدة حبسته طويلاً في حجرته الصغيرة القذرة، خرج منها على أن هذه البذور تبقى حية أشهراً كثيرة، وأنها من بعد ذلك تنفقص على التو عن تلك البشلات القاتلة إذا هي وضعت في قطرة من سائل عين ثور، أو إذا هي أُدخلت على فلقة خشب في قاعدة ذنب فأر.
قال كوخ: (إن هذه البزور لا تتكون في حيوان وهو حي أبدا، وإنما تظهر فيه بعد وفاته إذا احتُفِظ بجسمه حاراً).
وأثبت ذلك إثباتاً جميلاً بأن وضع أطحلة وبيئة في ثلاجة، ثم عاد إليها بعد أيام فأخذ منها وحقن الفئران، فلم يصيبها سوء، فكأنما حقن فيها لحماً طازجاً سليماً.
وكان العام عام 1876، وكان كوخ قد بلغ الرابعة والثلاثين فخرج لأول مرة من عُشّه، من قرية فُلِشْتَين ليخبر الدنيا في شئ من الفأفأة، أنه قد ثبت ثبوتاً قاطعاً بعد طول الشك أن المكروبات أسباب الأدواء. لبس كوخ أفخر ثيابه، ووضع على عينيه نظاراته وقد تأطر الذهب حولها، وحزم مجهره، وعدداً من القطرات العالقة في محابسها من الزجاج وقد تنغشت بمكروب الجمرة القاتل، وأضاف إلى متاعه قفصاً أخذ يهتز ببضع عشرات من الفئران البيض الصحيحة، وركب القطار ووجهته بلدة برسلاوة ليعرض فيها مكروب الجمرة الذي كشفه، وليبين للأشهاد كيف يقتل هذا المكروب فئرانه، وكيف أنه يستحيل تلك الاستحالة الغريبة فيصير عقوداً كالُّسبَح - وأراد بخاصة أن يطلع الأستاذ كُون على كل هذا، وهو أستاذ النبات بجامعة برسلاوة، وكان يكتب أحياناً إلى كوخ مشجعاً حامداً.
أعجب الأستاذ كون بتجارب كوخ التي أجراها وحيداً لا يسمع به أحد، وعلم أنها ذات خطر كبير لم يفطن له كوخ نفسه، وتصور في ابتسام وخبث ما يكون من أثرها في نفوس جهابذة الجامعة وأعلامها، وهم ما هم من رفعة القدر وشيوع الذكر، وكوخ هو ما هو من الضعة والخمول، فبعث إليهم يدعوهم لحضور الليلة الأولى للمعرض الذي يقيمه طبيب القرية الصغير.
ولبوا الدعوة، نعم لبوها ليستمعوا إلى هذا الذي جاء من أقصى الريف يحدثهم عن العلم؛ ولعلهم جاءوا رعاية لحرمة الأستاذ الشيخ كون. ولقيهم كوخ، ولم يحاضرهم في الذي أتى له، فلم يكن قط ممن يحسن صناعة الكلام. انعقد لسانه، ولكن يده انطلقت ثلاثة أيام ولياليها ترى هؤلاء السفسطائيين ما كان من أبحاثه طوال تلك السنين، وما كان فيها من تلمس في الظلام، وتحسس في دياجير المجهول، وما كان فيها من عثرات تبعتها نهضات، ومن نهضات تلتها عثرات؛ فلم ينزل أحد من كبريائه، ولم يهدئ من ادعائه، نزول هؤلاء الجهابذة وهدوءهم، وقد كانوا في كثرتهم يستمعون لرجلنا القليل، وقد كانوا طامنوا أنفسهم على التسامح، وألا يأخذوا عليه المآخذ، بل يدعونه يرسل القول إرسالاً، فما عند مثله يطلب الجدل، ولا لمن هم في منزلته يثار النقاش. ولم يجادل كوخ قط ولم يتفيهق قط، ولم يحلم الأحلام، ولم ينطق عند الغد بصنوف النبوءات، وإنما ظل يضرب فِلَق الخشب في ذيول الفئران فكانت كالسهام سرعة ودقة، وفتح أساتذة البثلجة عيونهم وسعها لما رأوه يتناول تلك البشلات والبزور والمكرسكوب بيد صناع لا تكون لعالم إلا في ستّينه. كان انتصاراً رائعاً روعة الصباح الضاحي.
وكان من بين هؤلاء الأساتذة الأستاذ كون هايم وكان من أمهر علماء أوربا في دراسة الأمراض، فلم يستطيع صبراً على الذي سمع ورأى، وخرج ثائراً من صالة العرض وذهب إلى معمله واندفع على التو إلى حيث يعمل الشباب من مساعديه في أبحاثه، فصاح فيهم: (أبنائي، دعوا ما بأيديكم وانصرفوا فاستمعوا إلى الدكتور كوخ، فإن هذا الرجل كشف كشفاً عظيماً) واسترجع الأستاذ أنفاسه.
قال الطلاب: (ولكن يا سيدنا الأستاذ منْ كوخ هذا فما لنا به من علم؟).
قال الأستاذ: (مهما يكن من أمره، فالكشف الذي أتاه عظيم، كشفٌ غاية في الدقة، غايةٌ في البساطة، غايةٌ في العجب. وكوخ هذا ليس أستاذاً. . . ولم يتعلم قط كيف يجري الأبحاث. . . وإنما تعلمه من ذات نفسه، وصنع كل ما صنع بمجهوده وحده).
قال الطلاب: (ولكن ما هذا الكشف يا سيدنا الأستاذ؟).
قال الأستاذ: (أقول لكم اذهبوا، واذهبوا جميعاً، وانظروا بأعينكم، واسمعوا بآذانكم، فإنه عَلِم الله أخطر كشف في عالم المكروب. . . كشف نتضاءل جميعاً إلى جانبه. . . .
اذهبوا. اذهبوا. .)
ولم يتم الأستاذ قوله إلى التلاميذ حتى كانوا قد خرجوا من الباب واختفوا عن بصره فلم يسمعوا آخر نبراته، وكان من بينهم بول إرليس
قال بستور قبل هذا اليوم بسبع سنوات: (إن الإنسان في مقدوره محو الأمراض المعدية من على ظهر البسيطة)؛ وعندئذ قال أحكم أطباء ذلك العصر: (إنه رجل مأفون)؛ ولكن في هذه الليلة خطا كوخ بالدنيا أول خطوة في تأويل الحلم الذي أرتاه بستور. وختم كوخ حديثه إلى الأساتذة الأمجاد قال: (إن أنسجة الحيوانات التي تموت بداء الجمرة لا تعدي بهذا الداء إلا إذا هي حملت بشلاته أو بزور هذه البشلات، سواء أكانت هذه الأنسجة صالحة أو فاسدة، متعفنة أو جفت أو مضى عليها عام. وفي وجه هذه الحقيقة يجب أن يزول كل ظلّ من شك في أن هذه البشلات هي سبب هذا الداء) ختم حديثه إلى الأساتذة بهذا القول حتى لكأن تجاربه التي أراها إياهم لم يكن بها كفاية من إقناع؛ وزاد على ما قال بأن أبان لمستمعيه، وقد أخذتهم الدهشة، طريقاً لمكافحة هذا الوباء، طريقاً أرته تجاربه إياه لمحو هذا الداء، قال: (إن كل حيوان يموت بالجمرة يجب إعدام جثته في الحال، فإذا لم يكن في الإمكان حرقها، فلا أقل من دفنها عميقة في الأرض حيث البرودة شديدة فلا تأذن للبشلات أن تستحيل إلى بزور تقاوم شدة الحياة وجبروتها طويلاً. . . . .).
وهكذا علم كوخ الناس في هذه الثلاثة الأيام كيف يبدأون في محاربة المكروب ويدفعون عن أنفسهم أسباب المهالك التي تكمن لهم خفية في الظلام؛ وهكذا بدأ في حمله الأطباء على الإقلاع عن اللعب الهازل بالحبوب والعلق في مدافعه الأدواء، وإحلال العلم والمنطق محل السحر والخرافات.
وقع كوخ بذهابه إلى المدينة برسلاوة في زمرة من رجال أمناء كرماء مخلصين، بذلوا له من صداقتهم ومن عونهم الشيء الكثير، نخص بالذكر منهم الأستاذين كون وكون هايم ذلك لأنهما أولاً لم يسرقا أبحاثه، ولصوص العلم ليسوا أقل عدداً من اللصوص في مناشط الحياة الأخرى. وثانياً لأنهما صّيحا له وهتفا هُتافاً ترددُ أصداؤه في أوربا، حتى لأوجس بستور خيفة على مكانه سيدا لبُحّاث المكروب، وأخذ هذان الرجلان يرسلان الكتاب تلو الكتاب إلى مصلحة الصحة الإمبراطورية ببرلين يعرفانها بأمر هذا الرجل الجديد، مفخرة ألمانيا؛ وصنعا ما صنعاه ليمكناه من ترك عيادته، وهي لا تكسبه غير البلادة، وتيسير الرزق والمال له ليفرغ لدرس المكروب ودفع أدوائه. ومن يدري ماذا يكون من أمر كوخ لو أنه جاء برسلاوة فلم يجد بها غير الزجر والمهانة والصدود، إذن لعاد إلى قريته واكتفى بمعاودة صناعته من جس النبض والنظر في السنة المرضى، ولما كان من أمره الذي كان. إن رجل العلم لا ينجح إلا أن يكون فيه بعض خُلُق الدلالين وأرباب المعارض - وهكذا كان اسبلنزاني الفخم العظيم، وهكذا كان بستور الحساس الصخاب - وإلا أن يكون له من أرباب الجاه وذوي السلطان من يحميه بجاهه، ويدفعه ويزجه في معترك الحياة.
يتبع
أحمد زكي