مجلة الرسالة/العدد 125/على هامش الموضوع السابق أيضا
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 125 على هامش الموضوع السابق أيضا [[مؤلف:|]] |
المجنون ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1935 |
ً
عطف جميل. . .
وجَّه الكاتب الفرنسي النابه فكتور مرجريت نداء صارخاً إلى (الضمير البشري والعالَم الحر)، أهاب فيه بذوي الوجدان من بني الإنسان أن يتعاونوا على دفع الظلم وكف الأذى عنمصر التي كابدت أضرار الرق، وعالجت آصار الذل، ثلاثاً وخمسين سنة لم يفتُر لصَرْخاها استغاثة، ولم يكن لصرعاها أنين؛ ثم ناشد أعلام الذكاء الفرنسي أن يظاهروه على هذا النداء، فأمضاه منهم خمسمائة وثمانية آلاف من العلماء والأدباء والفنانين من بينهم جول رومان، واندريه جيد، ورومان رولان، وهادامار.
عَرَض الكاتب الشكور في ندائه المحَن التي انفجرت على ضرب مصر منذ توقح على ضرب الإسكندرية ذلك الأسطول الذي يتقلب اليوم بين شواطئها ومرافئها تقلب العزيز المقتدر والمختال المملك؛ ثم عَرَّض بتلك الوعود الفواجر التي جرت على لسان غلادستون وغرفيل وسالسبورى وأضرابهم من الَمذَّاعين الذين بنوا هذا الملك الضخم على مراوغة اللسان ومماطلة الزمان ومغافلة الناس؛ ثم ذكر اضطراب مصر في الأصفاد، واستشهاد شبابها في الجهاد، وذياد الحلفاء وفْدَها المختار عن مكانه في مؤتمر السلام؛ وعجب أن يتسع إنجيل وِلْسُنَ لحرية الحجاز وأرمينية وألبانيا، ثم يضيق عن تحرير مصر وهي ما هي في وحدة الأرض وقوة الدولة وتجانس الأمة، فيذرها معلقة على رغمها بين حق حليم الطبع وباطل سفيه السلاح، ثم أعاد إلى الذاكرة قول الكاتب الخالد اناطول فرانس: (أن ساستنا أنقذوا من يد العدم انشروا من طوايا القبور عشرين أمة، فانتهت إلى الحرية بولونيا وعادة إلى الحياة أرمينية؛ ولكن العدل الإنساني يأبى أن يبرأ من تناقضه ونقصه، فكان من نقص هذا العدل، ومن حمق المدعين للحزم والعقل، أن صارت مصر وحدها هي الضحية الكبرى لأكذوبة السلام).
غضبة سامية، وصرخة داوية، ودعوة كريمة وصدورها عن حفدة الذين أعلنوا بأقلامهم حقوق الإنسان، وأطلقوا بأسيافهم حرية العالم، أمر جار على مألوف الطبع والعادة؛ ولكن الأستاذ فكتور ينادي غير سميع، ويخاطب غير واع! لقد هوى ذلك الضمير الإنساني صريعأ أمام الجشع، وجثت حرية العالم ضارعة إلى الحرص، واستحال الإنسان الجديد إلى معدة مسحوتة هائلة لا تكف عن القضم، ولا تعيا عن الهضم، ولا ترسل الميول والعواطف إلا في نواحي المنفعة. أين كان ذلك الضمير الحر حين رجفت باسمه الرجفة الكبرى، وأصاخت إلى صوته الهدنة العظمى، ثم جلس على أقدار الشعوب لويد جورج وكليمنصو وويلسن، وأيديهم على منضدة الصلح فوق أعواد الزيتون وأغصان الغار، يتقاسمون الحقوق الممزقة، ويتهادون الحريات المسلوبة، ويقيمون أنفسهم أوصياء على فرائس اقتطعوها، ثم عجزوا أن يبلعوها، فقدموها إلى الوصي كما تقدم الشاة إلى الأفعوان، يزدردها في سكون،؟ ويهتضمها على مهل أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر حين تجاوبت بالأنين ضحايا السلام في تركية ومصر وفلسطين وسوريا والعراق؟ تستغيث بالولاء للحلفاء فلا تغاث، وتُلوِّح بالوثائق والوعود فلا تبالَي، وما ذنبها أنها ضعيفة، ففيهم أضعف منها وإنما ذنبها أنها مسلمة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر وصرخات مصر الشهيدة تتعاقب على أسماع المدينة من غير فترة، فتمزق أغلفة الأذهان بالحجة، وتلمس لفائف القلوب بالرجاء، ثم لا ترتد أصداؤها إلا بالخيبة؟ أين كان ذلك الضمير الإنساني الحر والوعود الستون بالجلاء تتساقط من فوق المنبر الدستوري العريق تساقط الشهب، يخطف البصر سناها في جو السماء، ثم تكون حجارة باردة على الأرض؟ هؤلاء أبناؤنا الأعزة يا مسيو فكتور كما سمعت هناك ورأى إخوانك هنا: يشترون بأنفسهم الغالية الهتاف للحرية، لعلهم ينبِّهون العامِهَ، فيبصر، ويرشدون المبطل فيُقصر ويُسمعون المخطئ فيصيب. ولكن الطوائر، تئز والبواخر تصفِر، والمصانع تضج، والمناورات الحربية ترعد، والخطب الخداعة تهدر، فكيف تجد الأصوات الرقيقة العذبة سبيلها في هذه الضوضاء العنيفة إلى آذان هي بطبيعتها موقورة عن مثل هذا النغم؟ ولو كان الضمير الإنساني لا يزال حياً لرأى من خلال الحجب، وسمع من وراء الآفاق، ثم وخز النفوس وخزته الإلهية، فيشعر القوي أنه زل، ويدرك الغوي أنه ضل، ويفطن الإنسان أنه إنسان.
لقد كنت أود يا مسيو فكتور أن ينبسط عطفك حتى يشمل أخواناً وجيراناً يعانون من الذكاء الفرنسي مثل ما نعاني من الدهاء الإنجليزي، ولكننا سئمنا الكلام وأنفنا الاسترحام واحتقرنا الحجج.
لقد بلُد الشعور حتى لا يحس ألا ذبابَ السيف، وثقل السمع حتى لا يدرك ألا قصفة المدفع، وكَلَّ الذهن حتى لا يفهم إلا كثافة المادة؛ فأين يقع من ذلك بيان الأدب ومنطق العلم وخيال الفنان يا مسيو فكتور؟؟
أحمد حسن الزيات